كنت في أولى خطوات حياتي داخل الولايات المتحدة الأميركية، أترجح بين ماحملته معي من موروث وعادات وتقاليد وعذابات وأوجاع زمني العراقي المتخم بالمأساة، وعالمي الجديد الذي حلمت به كثيرا.. اميركا قدري الموعود الجميل، ذهبت الى مكان عملها، اشارت بإصبعها مع ابتسامة اعتذار : ((انتظرني لحظة ))، كانت ألوان ملابسها البني، وقد تدلى جزء من شعرها على جهة خدها الأيسر مظللا نصف وجهها الحنطي، من أين لها كل هذه السلاسة وعذوبة الروح، اخترقتني بسرعة واستحوذت على نظري ومشاعري وتفكيري، خرجت منها وأنا مستغرب من طيبة قلبها والرقي الانساني الذي صدر عنها، منذ اللحظة الأولى لم تكن الامور عادية وحدث عابر، كانت امرأة القدر الذي يلقيها في طريقك الحظ السعيد وعليك الباقي، حدث ذلك قبل عشرة سنين من الآن.

في مكان واحد وبحكم عملنا كنا نلتقي تحت سقفه يومياً، في ذلك المكان غنت ورقصت روحي، وعرفت معنى ان تلتقي توأم العقل والروح، وفداحة خسارته و فقدانه، المرأة الحلم.. قريبة مني وليست خيالا يطوف في سماء الأحلام والأوهام... صرختُ من الأعماق : لماذا الحياة كانت ومازالت بهذه القساوة معي؟

كانت متزوجة ولديها اطفال، وبين فترة وأخرى تتعمد ذكر زوجها أمامي كنوع من الردع الاجتماعي والأخلاقي لي، وكنت أقاوم في داخلي توقعات وتحليلات غامضة تخص حياتها الزوجية، غابت عدة أشهر وعادة واثناء حديثنا بررت سبب غيابها بحصول مشاكل مع زوجها، ومرة أخرى تحركت التوقعات الغامضة في داخلي، وكنت أشعر بالذنب لمجرد شعوري المكتوم بها، كتبت موضوعا ونشرته حول الطلاق النفسي الذي يحصل بين الزوجين رغم انهما يعيشان في بيت واحد وأطلعتها عليه، واتفقت معي على وجود الكثير من العلاقات الزوجية الصورية التي اصابها الطلاق النفسي.

في أحد الأيام كنت جالسا مابين فرحتي بها، وشعوري بخسارتها، مرت من أمامي و كعادتها مازحتني :

- لماذا لم تتزوج حتى الآن؟

حاولت ان أجيب بكلام عام فيه مزاح ايضا، لكنها عاجلتني بإكمال سؤالها :

- هل تنتظر طلاقي؟

صعقتني.. كيف استطاعت قراءة افكاري المدفونة، ياللهول.. أنا مفضوح امامها، ومكشوف المشاعر!


تركت المكان الذي تتواجد فيه، وافترقنا لأكثر من سنتين ثم حصل اتصال بيننا، أخبرتني انها تطلقت من زوجها، وعلى الفور أخبرتها انني كنت سابقا أخبيء مشاعري عنها احتراما لحياتها الزوجية، ولكن الآن أخبرها: اني أحبها واتمنى زواجها، صرخت باللغة الانكليزية :

- Oh my God

ثم أغلقت سماعة الهاتف، وترتكني أترنح من هول الصدمة، وانا أغرق في طوفان الفرح، وروحي تصعد الى سماوات السعادة، لقد تحققت نصف نبؤتها وتطلقت، وبقي النصف الآخر وهو زواجنا.

براكين من المشاعر والأشواق تتفجر عند رؤيتها أو سماع صوتها من خلال الهاتف.. حنين مجروح لسعادة هاربة غائبة عني، أمنية بعيدة تقترب من عالم الحقيقة، فيها كل الدهشة والجمال والأنوثة والجاذبية التي تشعل أعذب الحرائق الدافئة في أمنيات الرغبة العارمة بالاتحاد سوية انسان مع انسان.

كافة تفاصيل الحياة العادية التي تحدثني عنها تخرج منها كأنها اشعار وموسيقى وحكايات عشق كبرى، كل ماتنطق به يعد ساحرا لأسماعي وروحي وعقلي، احيانا تتوقف عن الكلام وتطلب مني ان اتحدث، واجد نفسي ليس لديها ماتقوله، فقد سكت الكلام في داخلي امام روعة وفتنة الإصغاء لنغم حكاياتها وهي تتحدث عن الاطفال والعائلة والعمل، ومختلف التفاصيل اليومية التي ليتها تستمر في روايتها طوال العمر، فما أجمل ان تسمع أحب الأصوات اليك وتتحسس نبضات روح صاحبه وهي تخرج على شكل كلمات اختار ان يقولها لك.. اختار ان تكون انت الطرف الآخر الذي يخاطبه ويشاركه بعض شؤون حياته.

احيانا تغيب مدة طويلة في زحام الحياة، لست أدري ربما تراهن على الزمن في قدرته على قتل مشاعر الحب في داخلي، فهي تجد من الصعب حصول زواجنا، فأبحث عنها، واعثر على عنوانها وأرسل لها رسالة تضعها أمام احراج اخلاقي تضطر لإرسال الجواب، ثم تختفي وأعاود مرة أخرى البحث عنها مدفوعا بواجب الدفاع عن سعادتي بعد ان هبطت عليّ لحظة نادرة من بركات الحظ السعيد واجمعتني بها قبل عشرسنوات، لاأعرف الفرق بين الأنانية والحرص على السعادة في تصرفاتي هذه، لكنني سألتها أكثر من مرة هل ترغب بوقف اتصالي بها اذا كان هذا يزعجها وكان جوابها : لا.

في الأيام الأخيرة وبعد كل هذه المدة الطويلة من التعارف كشفت لي انها تتابع قراءة مقالاتي المنشورة واحيانا ترسل بعضها الى افراد عائلتها، ياللفرحة.. أهم امرأة في حياتي تقرأ كتاباتي.

وفي آخر كلام بيننا قالت :

- لو فكرت بالزواج كنت سأتزوجك انت.

ياإلهي مجرد تفكيرها بإحتمال زواجنا، والنظر لي على اني الرجل الوحيد الذي يمكن ان تتزوجه.. يعتبر معجزة هائلة بالنسبة لي، فالمحب دائما ينظر الى محبوبه على انه كوكب بعيد صعب المنال والوصول اليه، ومحبوبتي ليست كوكبا بعيدا، بل هي مجرة تسبح في أعماق الفضاء التي لايمكن الوصول اليها بأدق التلسكوبات، الحب ابن القلق والخوف وعدم اليقين... والمرأة التي أحبها كائن زئبقي يتحرك في كل الاتجاهات، فهي مابين تجربتها الزوجية المريرة ورفضها للزواج، ومابين طموحها بأن تصبح استاذة جامعية في المستقبل.. قتلت مشاعرها نحو الرجل، والغريب انني في غمرة طربي وتحليقي الى عالم السحر والمتعة اثناء حواراتي معها، وتفرغي للاصغاء فقط.. مازلت أجهل افكارها وتصوراتها حول الرجل والحب، فكلما أصمم على طرح مايدور في ذهني من أسئلة تهرب مني وتصمت الكلمات بمجرد سماع صوتها.

في القلب لوعة، وفي العين دمعة، والعمر عبارة عن صحفات طويلة من الخسائر، وفي وجودها، المرأة الحلم، العوض الإلهي عن كل ذلك الحرمان والخسائر، فمن أين لي بمعجزة السعادة؟

[email protected]