من أهم خصوصيات المنطق الشكلي، أو المنطق الذي يستند في تصوراته على العقل الصرف، هو أعترافه المباشر بوجود مسلمات عقلية اولية ndash; آكسيومات ndash; ليؤكد أنه لولاها لأنتفى في الفعل كل أسباب التحليل والتعليل، وما كان لنا أي تجربة ذهنية ولأنعدمت بالتالي قيمة الجدل العقلي وعلل البرهان أو التفنيد والدحض، ولأستبدت بنا حال من الفوضى الجامحة في عقر دارنا في منطقنا.

فبالأعتماد على تلك الأكسيومات نستحوذ على فرصة للتقدم في التحليل، وأمكانية وضع المقدمات ثم الفروض ثم المناقشة المعرفية العلمية للوصول إلى عمليات محمودة في الأستنباط والأستدلال والنتائج المرجوة سلباُ أم إيجاباُ.

ويضرب أمثلة في ذلك، أن الخط المباشر ما بين نقطتين ndash; ب، ج ndash; هو بالضرورة أقصر الخطوط ما بينهما. والخطان المتوازيان لايلتقيان أبداُ. وأن توازى واحد من الخطوط المتوازية ndash; ب، ج، د ndash; مع خط مستقل آخر مثل ndash; ص ndash; توازت البقية معه بالنتيجة. والأكبر من الأكبر هو بالقطع أكبر من الأصغر، والأصغر من الأصغر هو بنفس القطعية أصغر من الأكبر. كما أن الكميات ndash; ب، ج، د ndash; إذا تساوت كل كمية بمفردها مع كمية مستقلة أخرى مثل ndash; ص ndash; تساوت فيما بينها بنفس وجاهة المنطق السابق، كما إن الكميات المختلفة ndash; ب، ج، د ndash; فيما بينها لايمكن أن تتساوى كلها مع كمية أخرى مثل ndash; ص ndash; تساوت مع إحداهن. وكذلك القضية بصددالأطوال، فإذا تساوى مجموع الأطوال ndash; ب، ج، د - مع طول آخر مثل ndash; ص ndash; فإن كل طول من تلك المجموعة هو بالنتيجة أصغر من ndash; ص ndash; وهكذا يمكننا أن نضرب آلاف من الأمثلة، التي كما قلنا، وحسب المنطق العقلي المحض، تؤلف ديمومة وميكانيزم البعد الأولي في العقل البشري، ومن ثم في منطقه، ومن ثم تشكل الفحوى الجوهري لمعرفته، وإلا لأنهدمت أيضاُ القيمة التطبيقية في المعاملات ولأستتب اللامعين واللامحدد على كل أدراكاتنا ومداركنا.

ونذكر فقط ndash; لأن ذلك سيكون موضوع حلقة مستقلة ndash; إن هذه التصورات تزامنت وقادت أصحابها إلى وضع المبادىء الثلاثة للمنطق الصوري، وهي، مبدأ الهوية الذي يرمز له ب ndash; هو هو -، ومبدأ عدم التناقض الذي نختزله في الآتي ndash; هو لا لا هو -، ومبدأ الثالث المرفوع الذي ينفي أي أمكانية لأحتمال ثالث. ونضرب مثالاُ توضيحياُ، الشجرة، أما أن تكون موجودة، أو ألا تكون، ولايجوز أن نفترض أي أحتمال ثالث.

إن هذا المنطق يبدو متماسكاُ جداُ، وصلباُ في منطقه الخاص، ومنسجماُ في أصوله، إلى درجة لايمكن لأحد، سواء من الزاوية النظرية أو من الزاوية التطبيقية، أن ينكر أو يجادل في سطوته على عقلنا وفكرنا، لكن، ومن الجانب غير المرئي، الجانب غير التقليدي، الجانب الذي يحطم بعدنا الخاص البسيط، يصطدم هذا التصور العقلي لهذا الفرضيات بالتصور التجريبي الذي يفرض نفسه من خلال قوانينه اللصيقة به وحده، فليس التصور العقلي هو الذي يمنح الخصوصية لتلك الحيثيات، إنما هي التجربة ذاتها التي تحتضن كل خاصية ممكنة. فحينما نزعم إن الخط المباشر ما بين حلب و الشام، أو ما بين الرياض ومكة، أو ما بين بغداد وأربيل، هو أقصر الخطوط ما بينها، هو فقط كذلك في المجال التصوري التخيلي، أو على أكثر تقدير ما بين نقطتين في بناية هندسية حيث لايكمن للمجال الكوني ولا لمفهومي السرعة والتسارع أن تمارس دوراُ واضحاُ في تكوين الأختلاف، أو أن يكون هذا الأخير على درجة كبيرة جداُ من الضآلة حيث لايمكن ألا أسقاطه أو أغفاله لعدم الأحساس به أصلاُ، أما في المجال اللاتصوري، أي المسافة الحية ما بين النقطتين، والتي ليست لها أي علاقة بكروية الأرض بالقطع، يهوى ويذوي دور التصور ليبرز دور التجربة نفسها، كما هو، فلاعلاقة لإرادتنا في تصوره، ولا علاقة لتصورنا في إرادته، فالتجربة هي التي تقرر، بل هي التي تمارس ذاتها دون ضابط خارجي، دون أن تكترث لأحد.

وعندما نتحدث عن التجربة، فأننا نتكلم هنا عن الكون الذي قد قرر مفهوماُ آخراُ يختلف عن التصور الشكلي، لأنه لايعترف أصلاُ بالخطوط المستقيمة، فكل شيء في الطبيعة من حيث الأبعاد هو منحني، والأنحناء ليس صفة في الأبعاد كما قد نتوهم، إنما هو في بنيويتها، بفحوى إن الأنحناء ليس صفة شكلية خارجية للكون، بل هو خاصية أبعاد ndash; أبعاد الكون ndash; لما له من قوة الجوهر في ذاته.

كما أن اللاثبات في الأبعاد، الذي نرده جزئياُ وفي هذه الحلقة إلى مفهوم آينشتاين في العلاقة ما بين هذه المقولات ndash; الكتلة، السرعة، التسارع ndash; هو الجوهر الآخر المكمل لصفة الحي، وللأنحناء، ويجسد من حيث الفعل المؤثر أحد أهم شرط الديمومة الداخلية في علاقتها بمفهوم التطور، والتنوع، والتحول، بعيداُ عن مفهوم الأمتداد الطبيعي الساذج.
فإذا كانت صفة الحي هي جوهر كائنية الشيء، التجربة، الكون، فإن الأنحناء هو جوهر أحتواء الجوهر السابق، وسيكون عندئذ اللاثبات هو جوهر علة وجود الجوهرين السابقين، وليس معلولاُ لهما أو لأحدهما.

فالكون لايدرك الصفات المعاكسة لهذه الجواهر الثلاثة ndash; صفة الحي، الأنحناء، اللاثبات -، فالموت أو الجمود مفاهيم غريبة عليه هو لايستطيع حتى أن يتصورها، وكيف يمكن له أن يتصورها وهو لا يحايثها، وهو يمقتها وينبذها سيما من خلال مفهوم اللاثبات. ثم لو حدث أن هناك موت أو جمود، وهو بالقطع مرفوض، لأنتفت الأبعاد أساُ ولحدثت أزمة في حيثيات الكون نفسه، تماماُ مثلما لايستطيع الميزان العادي التغامل مع الأوزان في عاصفة هوجاء تزور كل أنواع الضغط على كفتيه.

كما أن الكون لايستطيع أن يؤتلف من خلال ndash; المستقيم ndash; الذي يعني هنا تحديداُ الأنحطاط والذوي والذهاب إلى الكهولة والشيخوخة، وأنوه مسبقاُ إن مفهوم الضوء الذي حسب نظرية آينشتاين يسير كالسيف القاطع، غير دقيق هنا، لسبب بسيط هو أن الضوء هو من ndash; العوامل الكونية ndash; وليس الأرضية، لذلك فإن التعامل معه بهذه الصورة هو نوع من التبسيط، فالمسافات بالنسبة له ما بين النجوم والكواكب يقاس بنفس القدر عندما تحدثنا عن ndash; المستقيم ndash; في التجربة الهندسية وبمقدار عدة سنتيمترات، لذلك نحن نعتقد أن الضوء ما بين المجرات سيسلك سلوكأُ آخراُ، ينسجم على الأغلب مع مفهوم الأنحناء، وإلا أصبح الكون في المجال الخطأ، ولايمكن أن يكون الأمر كذلك.

كما أن الكون، ومن زاوية أخرى، لايلتزم بالثبات لأنه لو ألتزم به لأنعدمت أمكانية الحركة الداخلية والخارجية سواء في مفهوم الشيء بحد ذاته، أم في مفهوم الأبعاد بحد ذاتها، وهذا سيعني إن الطبيعة عديمة المعنى، عديمة الأثر، سلبية التفاعل، موجودة كمعطى مسلوب الغاية.

إلى أين يفضي بنا ذلك، نذكر بعض النتائج ونحتفظ ببعضها الآخر إلى حين الحديث عن المذهب التصوري، مكانها اللائق بها.
الأستنتاج الأول : إن هذه المسلمات الأولية لايجوز لأحد أن ينكر أهميتها ووجودها سيما في علاقتها بمفهوم التصور الساذج للأدراك، وفي كل المسائل الحيوية التطبيقية والتعليمية، لكن خارج ذلك، الكون لايدري مطلقاُ أي شيء عنها في خواصه، ولا في تحولاته، ولا حتى في طفراته.

الأستنتاج الثاني : إن الكون لايتألف من الأشياء والجسيمات والتي من المفروض أن نضعها ما بين قوسين، بل من الأبعاد التي هي في الفعل خاصية الكائنية فيه. فالشيء أو الشكل أو الجسيم هي تعابير تناسب بالضبط محتوى تلك المسلمات الأولية.

الأستنتاج الثالث : إن الطول أو الأرتفاع أو العرض، إن وجدت، فهي وحدات منحنية، أو هي، على أدق تعبير، هي وحدات هندسية فراغية منحنية.

[email protected]