الحلقة الاولى

سياحة في البيوت والأكواخ والمدينة الهجينة


الأمثلة المستقاة من المدونات التي تنتمي للفترة الزمنية نفسها، فترة بدايات القرن العشرين إلى ما قبل منتصفه، كثيرة وهي تعكس رؤية واحدة عن الخادم لا تختلف كثير اختلاف عن المنطق الذي يتيح لرفعت الجادرجي رؤيتها بوصفها ظلاما غير مرئي.
قد تختلف زوايا النظر وتتعدد لكنها، في الأخير، لا تخرج عن المنظومة نفسها؛ الحارس يقبع دائما أسفل التراتبية بينما يظهر المالك في أعلاها، وهنا تترسخ النظرة للخادم على أنه ذات مختصرة في وظيفة ما في حين لا يجري الأمر مع غيره بهذا الشكل.
لنر هذه العيّنة؛ في كتابه quot;بغداد كما عرفتهاquot; يتذكر أمين المميّز سكان محلته quot;الدنكجيةquot; أو quot;جديد حسن باشاquot;، فردا فردا ويتجول في بيوتهم متذكرا كل شيء، وفي أثناء ذلك يورد الرجل أسماء العوائل وانحداراتها ووظائف رجالها دون كلل. وبينما هو يفعل ذلك يصل إلى بيت جارهم صالح أفندي الملّي، أو quot;بيت الحاج علوquot; ـ بيت القاضي ـ وأثناء سرده لتفاصل سكان البيت ينهي الوقفة بالقول :quot;هذه العائلة الكبيرة كانت تخدمهم خادمة كردية أسمها ( فاته) ونسمع آلاء الليل وأطراف النهار الأصوات تنادي فاته..فاته..من كافة أرجاء البيت ولا تدري ( فاته) لأي نداء تستجيبquot;.(12)
إن زاوية النظر هذه ربما تعكس، دون أن يدري المدوّن، صورة نمطية عن الخدم والعبيد عرفها الشرق دائما، وأبرز ما فيها أنهم يعرضون بوصفهم quot;أشياءquot; شبيهة بالآلات، أو كلاب الحراسة، أشياء لا تجد قيمتها داخل النظام بوصفها ذوات إنسانية إنما تتحدد من خلال وظيفتها فقط.بمعنى أن أولئك الخدم والعبيد، حسب المنظومة التراتبية المشكّلة لتلك المدونات، لم يخلقوا إلا لكي يكونوا خدما.
ثمة مثال ربما أوضح يرد عرضا في مذكرات جعفر العسكري، وزير الدفاع في أول حكومة عراقية عام 1921، وهنا يحضر الخادم بصورة أخرى تختلف تماما لكنها تتبع الرؤية الطبقية نفسها التي أشرنا لها. يقول جعفر العسكري وهو يصف رحلة مجيئه هو وأخوه هادي من الموصل لبغداد للالتحاق بالمدرسة الحربية أنهما سافرا عن طريق النهر وكان برفقتهم خادم يدعى جمعة.
ركب الثلاثة من الموصل quot;كلكاquot; بدائيا متهرئا في ظروف تنذر بمطر وشيك. وكان ذلك مدعاة للقلق بالنسبة للولدين الصغيرين إذ يمكن أن يغرق quot;الكلكquot; إذا ما أمطرت السماء بشدة. يقول جعفر العسكري مستحضرا دور الخادم : quot;لذلك كانت عين جمعة الخادم ساهرة علينا سهر أم حنون على رضيعها فلم تغفل عن مراقبة الكلك وما حولنا لحظة quot; (13).
ولكي يبرر العسكري هذه التفصيلة يشرع في رسم ملامح الخادم قائلا: quot; وجمعة هذا جندي قديم محنك اشترك مع المرحوم والدي في الحرب الروسية ـ التركية سنة 1877 وظل مقيما على خدمة والدي مخلصا له منذ ذلك الحينquot;. (14).
الفكرة واضحة؛ كان جمعة خادما متطوعا وقد ركن إلى آمره الحربي واختاره ليكون سيدا له. لماذا فعل ذلك ؟ لا يخبرنا العسكري لكننا نستطيع التكهن، ففي بعض الأوقات يختار الخدم أسيادهم وليس العكس تحت ضغط ظروف معينة كما هو حاصل في حالة جمعة وأم سلمان، مربية كامل الجادرجي، فهي الأخرى ترمّلت عن ضابط ثم اختارت المقام هي وابنها عند عائلة رفعت الجادرجي الجد ببغداد، بوصفها مربية.
يقول كامل عنها:quot;وجدتها تربينا وأنا في سن مبكرة لا أستطيع أن استذكر الأحداث قبلهاquot; (15).
أن ام سلمان تلك كانت مثل جمعة تماما، كانت تنتمي لنمط من الخدم الذين يتطوعون لخدمة سادتهم ولا يفرطون بوظيفتهم مهما حدث. يقول الجادرجي:quot;..وقد أحببنا أم سلمان حبا جما وشغفنا بها كثيرا وكانت المشاكل التي تخلقها بمشاجراتها المستمرة مصدر قلق لي ولأخوتي فلا يمضي أسبوع أو أقل إلا وترى صوتها قد علا على الأصوات وهمت بالخروج من الدار وأقسمت بأنها ستذهب إلى غير رجعة. بالرغم من تأكيدها وهي تهم بالخروج بأن فراقنا سيميتها.وكانت والدتي تقول في كل مرة أن quot; ورّيquot; ـ هكذا كانوا يلقبونها تهكما ـ أصبحت لا تطاق وتأمر جميع من كان يعايشنا في الدار بألا يصدوها عن سبيلها وإلا يحولوا دون خروجها فلتذهب الى سقر..ولو أن رواحها سيؤذي الأولاد كثيرا ولكنهم سيسلونها quot;.(16)
وكانت في كل مرة، كما يقول الجادرجي، تعود وكأن شيئا لم يكن : quot; كان نياط قلبي تكاد تتقطع عندما تهم أم سلمان بالخروج دون أن يصدها أحد ولكن لا تمضي سويعات قليلة إلا وتكون أم سلمان على أحسن حالاتها هادئة مشفقة رفيقة لا بنا وحدنا بل بجميع أهل الدار كأن لم يكن قد حصل شيءquot;.(17)
ما يريد الجادرجي التلميح له، في الواقع، لا يبدو بعيدا عن القراءة التي نقترحها، فهو، وإن كان يشير لتسامح الخادم وطابع الطيبة المجبول عليه، إلا أنه قد يلمح أيضا لـquot;فقدان الكرامةquot; الذي يميزه وصبره على الإهانة واستكانته للذل.
ففي فقرات أخرى من الحديث يتوقف الجادرجي عند علاقته بسلمان، ابن مربيته، وملخص ما جرى أن ذلك الخادم كان اعتاد خداع أهل المنزل في شهر رمضان بزعمه الصيام نزولا عند الأوامر بعدم الإفطار التي كان الجادرجي الأب يتشدد بها. وفي ذات مرة يكتشف الجادرجي الابن ـ كامل ـ جرم سلمان فيراه وهو يخرج طعاما من تحت التبن ويتناوله. يفضح كامل الخادم المسكين أمام الخدم فينكر الأخير ذلك ويقسم على أنه صائم. يصل الخبر إلى الجادرجي الأب : quot; بعد برهة خرج والدي من دار الحريم وكنا ندعوه بـquot; الحرمquot; وبعد أن فهم الموضوع أوقف سلمان أمام جميع الخدم وسأله عما إذا الخبر صحيحا فأنكره سلمان انكارا قاطعا وعندئذ إلتفت إليّ والدي وقال بلهجة حازمة : أخبرنا يا كامل بما شهدته بعينك فأخذت أقص عليه القصة بحذافيرها أمام الجميع فصاح سلمان بأن هذا كذب وأقسم الأيمان المغلضة على أنه صائم ولم يفطر قط منذ أن حلّ شهر رمضان فزجره والدي قائلا : أسكت، الكاذب أنت لأن كامل لا يكذب أبدا. quot;(18)
وهنا يشعر كامل بالفخر ويعدّ عبارة والده الأخيرة، أي قوله أنه لا يكذب، شهادة كبرى بحقه. إنه لا يكذب بينما الخادم يفعل ذلك بل لا يتورع عن القسم الكاذب. هذا فرق جوهري ذو منشأ عنصري لا يخفى فثمة عنصران جوهريان متفاوتان في أصلهما، واحد يكذب والآخر لا يكذب، الأول ينتمي لنسق قيمي معين والآخر ينتمي لنسق آخر.
غير أن المهم ليس هنا إنما في العبارات التي تلي الحادث حيث تنعكس، عن طريق اللغة أيضا وأيضا، رؤية الأرستقراطي التقليدية لخادمه، يقول الجادرجي : quot; لم أهتم يومئذ لسخط سلمان عليّ بالرغم من حبي له لأن سلمان هذا كان متفلسفا على ما يبدو لا يهتم بالمظاهر وإنما كان همه في هذه القضية ألا ينال عقابا شديدا وأن يؤمن له طريقة في الإفطار تجعله في مأمن من اكتشاف أمره في المستقبل وقد نال بغيته فعلى ما أذكر أن والدي اكتفى بتوبيخه وبإسداء النصح له وهذا لا يعتبر عقابا بالنظر لعقلية سلمان quot; (19).
الحال أن ما لم يقله الجادرجي لا يخفى هنا والمقصود هو أن عقلية الخادم، وفق ما يعتقد كامل الجادرجي، تؤمن بالعقوبة الجسدية الشديدة لا المعنوية التي يؤمن بها الأسياد الأحرار. وفي الوقت الذي يعدّ الجادرجي إطراء والده له بأنه من أكبر الجوائز التي نالها في حياته فإن الخادم يمكن أن يعمد للكذب والتدليس والقسم الكاذب للخلاص من العقوبة الجسدية التي يؤمن بها.
ان ذلك يكاد أن يكون جبلَّة فطرية في الخدم والحراس والبوابين حسب المنظومة التي تحكم خطاب المالك، رب العمل، صاحب الدار والخ.
القرائن على هذه الرؤية متوفرة، ففي الفصل ذاته الذي يكتبه الجادرجي، ترد حوادث أخرى عوقب بها خدم يعملون في بساتين أبيه عقوبات شديدة للغاية والغريب أن كامل لا يستنكر تلك العقوبات من أبيه بل يبرّرها باتصاف الأخير بالضبط والدقة والصرامة حتى مع نفسه فكيف مع الخدم !
يقول كامل الجادرجي عن أبيه :quot;في حياته الخاصة لم يكن يتساهل في تنظيم علاقاته مع المستخدمين في الدار ومع فلاحي بساتينه فكان يصر على معاقبة المذنب ويهتم كثيرا بمكافأة الأشخاص الذين يحسنون أداء واجباتهمquot; (20).
إحدى الحوادث الغريبة التي يذكرها أنه كان لا يسمح للفلاحين في قرية quot;الجمجمةquot; القريبة من الحلة بأخذ تمرة واحدة أثناء الحصاد، وفي ذات مرة وشى أحدهم بأن فلاحا أخذ حفنة من التمر وخبأها في جيبه فجيئ بالفلاح أمام الجادرجي الأب وعوقب عقابا مهينا جدا؛ مُزق جيبه ثم علق على شجرة في القرية تنكيلا به وفضحا لسرقته.(21)
الخلاصة أن اللغة تنجح في ما تفشل به الوسائل الأخرى فتفضح، في الأخير، ما يجاهد المدوّن لمواراته صراحة.
في حديثه عن أم سلمان أيضا يورد الجادرجي تفصيلا يجب ألا يمر مرورا عابرا في مدونات شبيهة فهو يقول أن سبب تعلقه بها لا يعدو براعتها في رواية الحكايات، وهي في هذا لا تختلف كثيرا عن نمط من الخدم الذين عرفهم الشرق دائما ومن بينهم جمعة، خادم جعفر العسكري، غير أن مزية أم سلمان هي اختراعها للقصص وتأليفها للحكايات معتمدة في ذلك على خيالها الخصب. لذا كانت توصف بالحيل والخداع من جميع أهل الدار بما في ذلك والد كامل ووالدته، يقول :quot;والظاهر أن ذلك الخيال الخصب الواسع والذكاء المفرط والقدرة على إيجاد الحلول للخروج من المآزق ام سليمان كانت توصف من قبل اهل الدار بالحيل والخداع والكذب وكان يؤنبني حقا أن أسمع من والدي ووالدتي وسأئر أهل الدار أن quot;ورّيquot; أكبر كذابة في الدنيا لان ذلك معناه عندي أن جميع حكايات ام سلمان الممتعة كاذبة ليس لها ظل من الحقيقة quot;.(22)
الحال أن سبب تذمر الجادرجي من وصف الآخرين لمربيته بالكذب لا يتعلق بها بوصفها ذاتا انسانية أنما يعود للتسلية التي تقدمها له ولأخوته. أنه يوافق على أن تكون كاذبة على أن لا يعم ذلك على متعته، سماع القصص، فيحطمها.
يقول : quot;كانت ام سلمان تتمتع بخيال واسع خصب لا يدانيها فيه أحد وكانت تقص علينا أحسن القصص أنّى وجدت إلى ذلك سبيلا، سواء في ليالي الشتاء الممطرة عندما نجلس حول الكانون نشوي البلوط والكستانا ونعبث بالرماد أو ندحرج الجوز على الأرض ونحن في حلبة الرهان أو عندما تجلس بالقرب من فراشنا الدافيء ونحن مسترسلون للكرى لا نستطيع تحريك جفوننا أو في ليالي الصيف المقمرة..quot;(23)
أمّا جمعة فهو الآخر مسلّ جدا بالنسبة لجعفر العسكري وأخيه هادي أثناء الرحلة الصعبة لبغداد. يقول العسكري: quot; وكانت سلونا الوحيدة في الطريق محادثة جمعة والاصغاء إلى حكاياته عن الحرب الروسية والأساطير والقصص التي كان يرويها لنا من حين لآخر لقتل الوقت وترويح النفس من عناء السفرquot;. (24)

الهوامش
12 ـ ينظر quot; بغداد كما عرفتها quot; تأليف أمين المميز ـ ص 146 ـ طبع على نفقة المؤلف ولم يذكر أي إشارات سوى ذلك
13 ـ ينظر quot;مذكرات جعفر العسكريquot; ـ تحقيق وتقديم نجدة فتحي صفوة دار السلام ـ لندن ص23
14 ـ المصدر نفسه ص25
15 ـ ينظر quot; من أوراق كامل الجادرجي quot; تاليف كامل الجادرجي ص 36 دار الطليعة ـ بيروت الطبعة الأولى تشرين الثاني نوفمبر 1971
16 ـ المصدر نفسه ص36
17 ـ المصدر نفسه ص 36
18 ـ المصدر نفسه ص34
19 ـ المصدر نفسه ص 35
20 ـ المصدر نفسه ص 31
21 ـ المصدر نفسه ص 36
22 ـ المصدر نفسه ص37
23 ـ المصدر نفسه ص34
24 ـ المصدر نفسه ص 25