تعود مسألة الصراع حول الفيدراليات والحديث عن مخاطر التقسيم، الى صدارة الاحداث السياسية لتشكّل اليوم عنوانها الأبرز في الخطاب السياسي المتداول بين القوى المتنفذة في الحكم التي تبدو أكثر من أي وقت مضى، قد أدمنت تماما على دفع الأوضاع العامّة في البلاد الى حافاتها الخطرة من دون القدرة على الحسم كما ترغب، لصالح أي طرف منها، وبدون أية إمكانية عملية للتهدئة واللجوء الى الحوار الوطني أوالمعالجة الجادّة بالسبل العقلانية والإستغناء عن التصعيد المتبادل وتدّخل القوى الإقليمية والدولية بإعتبارها quot;ضمنياquot; هي السيدة الفعلية للقرار الداخلي والصانعة الحقيقية للسياسات والمواقف والحلول والأزمات الداخلية معا، دون أن تكون على الحياد بالطبع، في هذا الصراع.

فالأهداف الأساسية للأجندات الخارجية رغم تباينها، هي الحفاظ على مصالحها الحيوية وتعزيز نفوذها في العراق، والسيطرة الكاملة على اللعبة السياسية وعلى طبيعة الأدوار المرسومة لأطرافها، والإبقاء على كلّ عناصر الأزمة الداخلية ومصادرالتفجّرات الكامنة فيها، والحيلولة دون تشكّل قوّة سياسية ذات طابع وطني وشامل، كي يستمر خضوع المجتمع العراقي بأكمله، لممثلي الطوائف والزعماء التقليديين والقادة الجدد، الذين لا يوجد من هو أفضل منهم لإداء هذه الأدوار من أجل تكريس الإنقسامات الطائفية والتلاعب بالمصير العامّ بدون أن يرّف لهم جفن، وبلا أدنى شعور بالمسؤولية عن حياة المواطنين وضمان أمنهم وسلامتهم.

ومن الطبيعي في مثل هذه الأوضاع الخطيرة التي يسودها التنازع الداخلي حول مصادر السلطة والثروة والنفوذ، أن تتفاقم الأزمات التي تجتاح البلاد وتتحوّل الحلول المقترحة والنصوص الدستورية بشأن الفيدراليات وتوازن المركز مع الأقاليم وتأسيس العلاقات الجديدة على مبادئ المساواة والعدالة في التوزيع، الى مشاكل مركّبة ليست في حقيقتها، إلاّ أحد الوجوه البارزة لأزمة السياسة الداخلية ذاتها والتعبير الأكثر صراحة، عن الفشل الذريع للنخبة الحاكمة في بناء دولة المواطنة الحرّة وسيادة القانون والعجز عن العودة الى مسار الإندماج الوطني، لا بل يمكن القول أيضا، بأنّ جميع الكتل السياسية الكبيرة تسعى بشكل أو بآخر الى التقسيم الذي هو الناتج والإمتداد الطبيعي، للتقاسم وإقتسام الثروات فيما بينها وعلى حساب بعضها البعض، بصرف النظر عن الخطابات السياسية والشعارات العريضة حول الوحدة الوطنية والتماسك الإجتماعي، وأيّ حراك جديد مهما يكن بسيطا لأحد هذه الأطراف ضمن الأوضاع السياسية الراهنة، سيكون بطبيعة الحال، بمثابة تهديد جدّي للتوازن الهش والقلق، الذي أقيمت عليه العملية السياسية.

والحال، فإنّ مشروع quot;بايدنquot; السيء الصيت لتقسيم العراق، والذي ظلّ يتربص ويحوم حول الأحداث والتطورات منذ البداية، له في الداخل العراقي أدواته الفعّالة والمتمثلة في غالبية القوى السياسية المتنفذة والمنتفعة من هذه الأوضاع الإستثنائية القائمة، كما انّ له ترجمته وإستنباته على أرض الواقع، في نزعات الإحتكار والإستئثار والأنانية السياسية والمصالح الضيقة والضحالة السياسية وفقدان الشعور بالمسؤولية الوطنية وإنعدام الثقة وغياب روح التعاون والتضامن والعمل الجماعي المشترك وعقلية التآمر والدسيسة والأوكار والإجتماعات المغلقة وتحويل الأحزاب والمؤسسات وأجهزة الدولة الى إمارات إقطاعية وعائلية لا ينقصها سوى علمها وعملتها ولغتها ورموزها وطقوسها الخاصة بكلّ منها للتلويح حيثما تشاء بإعلان دويلات الطوائف المتناحرة أبدا. وبدلا من إدراك مخاطر هذه المساعي العلنية والسرّية، وحماية الدولة والمجتمع والسيادة الوطنية عن طريق الحوار الصريح والتقرّب من القوى الإجتماعية والسياسية المختلفة وتغليب صوت العقل والحكمة والمصالح العليا للبلاد والسعيّ الى الإصلاح، يدفع الشكّ بالقوى المتنفذة الى حماية نفسها ومصالحها الخاصة من بعضها البعض، ليصبح هذا المنطق السائد في الحياة السياسية العراقية هو المصدر الأساس للنزاعات والتوترات الدائمة وبالتالي إفساد فرص الخروج من الأزمات الطاحنة والدفع الى حافة الحرب الأهلية.