أتى عصر النهضة، وبرزت آفاقه في بلاد الشمس. شروق على خلفية زوال آوائل الطغاة، وأنقاض الأنظمة الشمولية، وإنهيار الفكر القومي الفاشي، وتلكأ المفاهيم الدينية المطلقة إنسانياً والمجمدة لمتحولات النصوص الإلهية.
يوم بعد يوم تتوضح أبعاد العراك الفكري وأهداف الثورات في خضم الجدل التاريخي، والتي تحمل في أعماق مراحلها الأولية أخطاء ومطبات، وعلى مساحات فارغة يملؤها الإنتهازيون والمتسلطين والذين يمتطون المسيرات من أجل تحقيق غايات ذاتية شخصية آنانية أو فكرية جمعية فاسدة.
بزوغ من بلاد الشرق، منبع تلك الحضارات التي ذابت مع التاريخ، ومنبت الأديان التي سادت الأرض، منها ما أندثرت وأختفت والبعض تقلصت لخلفية مفاهيمها وتأويلات حامليها على مدى قرون، ومنها ما بزغت ثانية هناك بعض عصور من الركود والظلام، وأخرى سادت بجمودها المطلق المفروض من رهبنة الفتاوي وتلكأت بزوغها بعد غروب دام قرون ولازالت، وغاب معها شعوب كانوا يوماً ما أصحاب حضارات.
على تربة الثقافات المتعددة وبتروية من مفاهيم الحضارات الحالية الثقافية والتكنولوجية ينبثق الآن من شرقنا رواد يحملون مفاهيم ذات طفرات فكرية تتناقض ومطلق الطغاة ودساتيرهم النصف الإلهية، يتجرأون على لمس النصوص الإنسانية المطلقة لإخراجها إلى المفاهيم الحضارية الشمولية لملائمة تطورات الكون.
الإنطلاقات تعددت وتنوعت مراكزها، لكنها أشتركت في معظمها بإخراج الشرق من مطلق الأنظمة الطاغية إلى عالم النسبية والكم، فاصطدمت الثورات بأنظمة دكتاتورية سياسية اقتصادية إجتماعية، قواعدها الأساسية مدعومة بمطلق التفكير الديني والقومي.
من خضم هذا المطلق السادي أنطلقت ثورات الشباب الحاضرة بذات نوعية شرقية المعالم كونية المفاهيم، يمتطون مدارك شمولية من خلفيات العولمة الفكرية، ومن خلال أقنية التكنولوجية الإنسانية المتسارعة تطوراً والعادمة للمكان والزمان معاً. جيل من الشباب معهم ثورة يحملون مبدأ كلي الوجود في واقع الشرق المظلم الضامر بيد الطغاة، فظهر المطلب الكلي مكثفاً في كلمتي quot; اسقاط النظام quot; الشامل والمتكامل لمعظم مفاهيم الثورة ومطالب الشعوب، وأصبح الشعار يتقدم كل مسيرة، والإتفاق عليه كان عفوياً، كمبدأ يحوي في ثناياه مجمل مفاهيم التغيير والهدم وإعادة البناء الجديد لصرح الديمقراطية المأمولة.
من المهم جدأ إدراك ورؤية الصراع الدائر والحقائق العملية التي ترافق هذه الثورات والنتائج الأولية المليئة بالسلبيات التي ستتمخض عنها، وعلى المجتمع أن يتوقعها، وهي أن الرواد وشباب الثورات ملهمي الفكرة المختصرة الشمولية تلك، وسانديهم من شرائح عديدة من الشعب، لا يملكون القوة الكافية من السيطرة الكاملة على السلطة والمجتمع في الفترة اللاحقة لسقوط السلطات، فالأنظمة الثقافية ورواسبها وإنتهازييها سيبقون في حراك متواصل لقطف ثمار الآخرين، والمرحلة الإنتقالية تلك ستكون مرحلة الصراع على البقاء لنظام الثقافة العدمية الإلغائية، والتي كانت قد زرعت على مدى عهود، وكل من يشك وينقد ويهاجم هذه الثورات من خلال رؤيتهم للجماعات الإنتهازية الدينية غالباً، لا يدرك ماهية الثورات والمراحل التي تسبق عادة النجاحات النهائية.
رواد التغيير من الشباب يتلقون في الثورات هذه خبرة كافية لتصفية ماهية القوة الإنتهازية في أحشاء الثورة والمجتمع، شباب الثورة حتى ولو توارثوا لجيل قادم إلا انهم سيبقون على نضال مستمر مع الذات لنزع هذه الرواسب عنها، وقد يطول الزمن وهي الفترة الإنتقالية التي ستتحكم فيها التيارات الدينية والقومية المغطاة بالإسلام السياسي المتبنية متآخراً المفاهيم الليبرالية، لكنها تبين عن القفزة النوعية لتغيرات مراكز مفاهيم السيطرة الدينية، خاصة والصراع يحتدم الآن بين التيارات الإسلامية السياسية نفسها والمنبثقة من نفس المنابع الفكرية، ولا نستبعد ظهور المرحلة الجدلية التاريخية في الشرق، مرحلة الإقطاعية أوالرأسمالية الإسلامية، والتي ستكون مليئة بالصراعات السياسية والفكرية، قبل ظهور المرحلة الشعبية الوطنية الديمقراطية.
الدعاية الدوغماتية التي سيطرت على ثقافة المجتمع، والتي لا تزال طاغية على جوانب عديدة منه، الدعاية التي لا تزال السلطات الدكتاتورية مستمرة في بثها بشكل مستمر، مفهوم التغلغل اللامحدود للغرب بكل آفاته في الشرق، عند إشتعال الثورات، بدأت السلطات الدكتاتورية تسخر لهذه الدعاية الكثير، فأصبحت تسخرها لمفاهيم مغايرة، منها فكرة سيطرة الغرب على مسيرة الثورات الشبابية، وكرست لهذه المفاهيم نظريات ودراسات مع وثائق مركبة تلفيقاً، وبثت بيانات حول مؤتمرات في الغرب وفي بعض الشرق أيضاً، قدمت اسماء شخصيات ومنظمات مهمة على إنهم كانوا وراء التخطيطات والتحضير لهذه الثورات! متناسين أو ناسين دراسة مدى تأثير ممرات وأروقة أنتقال الإنترنيت والتي خلقت لتتجاوز وتمر من خلال جميع الحواجز والقيود، ولا يودون أن يدركوا بأن هذه العولمة أعظم تأثيراً من أي منظمة عالمية سياسية او فكرية ولايمكن لشخص مهما عظم شأنه أن يقارن بأجزاء من قدرات هذه التكنولوجية وتأثيراتها.
لا الغرب ولا الشرق تملك الأداة الفاعلة للحد من تسرب وتلاقي المفاهيم بين الشعوب وخاصة الشباب منهم. إنها سيطرة فكرٌ إنساني متكامل ومتنوع الثقافات، فدعاية مفهوم تأثير الغرب وتغلغله لم يعد له ركيزة إلا لدى أولئك الذين لا يزالون تحت تأثير الثقافة الراضخة للإلتزام القسري، العالم أصبح مجتمع شبه متكامل، متداخل سياسياً وفكرياً وإقتصادياً وأصبحت الثقافات تتداخل، تؤثر وتتأثر ببعضها وبدون حواجز.
وما نراه الآن من المسيرات الشبابية في الدول الأوروبية وأمام quot; وول ستريت quot; سوى أثبات على هذا التداخل العولمي، وعليه فالدعاية الدوغماتية المهترئة التي بثتها السلطات الدكتاتورية على مدى قرن من الزمن لتثبيت ركيزتهم وشرعيتهم وكأنهم حمات الشرق من أجتياح الغرب، أصبح في واقع الثورات هذه مهترئة وتبينت على أنه لم تعد لهذه الدكتاتوريات من حاجة لحماية الشرق كما روجت على مدى عهود، بل أنهم كانوا طغاة ولم يكونوا يوماً حراس الشرق من طغيان الغرب بقدر ما كانوا خدم الرأسملية العالمية للحفاظ على سيطرة سلطات فاسدة سياسياً وأخلاقياً وثقافياً وإقتصادياً، والسلطة السورية ربيبة هذه المفاهيم، الآيلة إلى الزوال المؤكد، لا تود أن تدرك هذا إلا بعد أن تدمر الإنسان والوطن.
لن يكون هناك بديل للثقافة المشوهة التي سيطرت ولاتزال، إلا بإزالة هذه السلطات وجميع أركان الأنظمة التي بنيت عليه وعلى مدى عهود من الزمن، حتى ولو أنبثقت من هذه الثورات ماهية مخالفة لما تحويها في حقيقتها، إلا أن الفترة اللاحقة لسقوط السلطات والمليئة بالشكوك مرحلة أنتقالية ماقبل نجاح الثورات.
نرى بإن عصر التنوير بدأ منذ أول تحشد لشباب الثورة في ساحات الوطن، فالإشراقة واضحة، ونهضة بلاد الشمس بانت، فكما أثرت يوماً ما عصر النهضة الأوروبية على العالم، هذه النهضة بدورها بدأت تؤثر وهي لا تزال في سنتها الأولى، فهي ليست كما أطلق عليها ب quot; الربيع العربي quot; جدلاً وأرتجالا، وتبناها العديد من المثقفين والكتاب ووسائل الإعلام تسابقا، بل إنها ثورة من الشرق وفي أعماق الشرق عامة.
أدرج في بعض أروقة الغرب، وتبناها مجموعة من المثقفين والإعلام العربي على إنها ثورة في مجال حقوق الإنسان فقط، في المقولة هذه عمق تفكير وبُعد مدارك، رغم ذلك نجدها ونتحرك ونناقش وندعمها على إنها ثورة في عالم الشرق وبداية لعصر بناء كيان متكامل أوسع بكثير من مجرد حقوق الإنسان المحاط بقوانين ودساتير جامدة. إنها بداية نهوض لشعوب أرض الحضارات، ورواد ملهمي أديان وروحانيات متنوعة، مفاهيم الثورات الشبابية هذه حتى ولو كانت مستقاة من العالم الكلي فإنها سوف لن تقف على أطراف حدود شعب أو جغرافية. ثورات من الشرق وللشرق ستؤثر على البشرية كلها وستكون لها بصماتها على مسيرة التاريخ القادم.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات