صديقى (ماجد) يعيش بنيويورك منذ أكثر من ربع قرن، وقد عرفته منذ عدة سنوات عن طريق صديق مشترك وحينها كتبت عنه مقالا بعنوان quot;إسمك إيه ياشاطرquot; لأنه كان قد تقدم للقبول بناشئ النادى الأهلى عندما كان صبيا يلعب كرة القدم وتم قبوله من جانب المدرب المجرى وقتها وعندما سأله موظف النادى الأهلى: quot;إسمك إيه ياشاطرquot;؟ عرف من أسمه الثلاثى أنه مسيحيا فرفض تسجيل إسمه بالرغم من قبوله فنيا من جانب المدرب!! وبالرغم من أن هذه الحادثة قد أثرت فيه كثيرا إلا أنه لا يزال مجنونا بالنادى الأهلى ويشاهد كل مبارياته فى نيويورك على القناة الفضائية المصرية. وقد تصادف أننى كنت فى نيويورك فى فترة أعياد الكريسماس هذا العام، فقام ماجد بعزومتى على حفلة ليلة الكريسماس والتى تعود أن يقيمها كل سنة لعائلته وأقربائه.

وأنا شخصيا تعودت أن أحتفل بعيد الكريسماس منذ أن أستوطنت بأمريكا منذ آخر ثمانينات القرن الماضى، وأقوم بإحضار شجرة كريسماس فى البيت وأضع هدايا الكريسماس تحت الشجرة لأفراد الأسرة كما نهدى بعض الهدايا للجيران وزملاء العمل. وقد تعجب بعص المصريين بل والأمريكان من أننى أحتفل بعيد الكريسماس بالرغم من أننى مسلم، وكنت أسألهم: ماهى مناسبة الكريسماس؟ فيقولون: أنها مناسبة ميلاد السيد المسيح. فقلت: أننى أحتفل بمولد النبى عيسى كما أحتفل بمولد النبى محمد، كما كنت أشارك فى مصر بمولد السيدة زينب والليلة الكبيرة ومولد سيدنا الحسين مولد سيدى حسن الأنور من آل البيت، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تعمدت أن أحتفل بالكريسماس أيضا لكى أعطى رسالة واضحة لبناتى بأننا بالرغم من أننا مسلمون إلا أننا نشارك الآخرون فى أعيادهم ولو كنا نعرف يوم مولد موسى عليه السلام لأحتفلنا أيضا بيوم مولده. وأن مشاركة الناس إحتفالاتهم لا تنقص منا شيئا بل على العكس تزيد إلى أخلاقنا بعدا جديدا، فمثلما نتذكر يوم مولد النبى محمد بأخلاقه وأمانته وإصراره على دعوته رغم قلة عدد مؤيديه فى البداية، فإننا أيضا نتذكر فى يوم مولد النبى عيسى سماحته وحبه للناس حتى أعداؤه وتضحيته فى سبيل إنقاذ البشر من أنفسهم ومن أطماعهم.
...

وذهبت مع زوجتى وبناتى إلى حفلة الكريسماس عند أسرة (ماجد)، وكنا الأسرة المسلمة الوحيدة فى العزومة حيث أن باقى المعازيم من أقرباء ماجد من أخوة وأخوات وأعمام وأخوال وأولاد عم وخلافه، وتعرفت على الجميع، وكان هناك ثلاث أجيال: جيل الجدود ثم جيل الأبناء وجيل الأحفاد.
وأخذت أتأمل فى وجوه الحضور جميعهم مصريون شكلا وموضوعا، كلهم أحفاد رمسيس الثانى وأحفاد أخناتون ونفرتيتى وحتشبسوت، حتى الأحفاد الذين نشأوا فى أمريكا لو رأيتهم فى أى من حوارى القاهرة أو الأسكندرية لم تكن لتفرقهم عن نظائرهم الذين لم يغادورا مصر.
وتفرق الحضور إلى جماعتين رئيسيتين : جماعة الأبناء والجدات فى صالون وجماعة الأحفاد فى غرفة الجلوس، وقد إتسع المكان بالرغم من ضيقة بالحاضرين، لأن :quot;الوسع فى القلوبquot; وهى كلمة تعلمتها من يهودية مصرية تعيش بالقدس عندما زرتها فى شقتها الصغيرة بالقدس، ولكن هذه قصة أخرى.
وجربت لأول مرة أن أكون أقلية مسلمة مصرية وسط أغلبية مسيحية مصرية، وتوقعت أن أشعر بشعور الأقلية ولكن هذا لم يحدث أبدا طوال الأربع ساعات التى مكثناها فى منزل (ماجد)، بل على العكس لاحظت أن معظم الحضور يبالغون بالترحيب بنا ويحتضنوننا، وهذا هو واجب الأغلبية تجاه الأقلية فى أى وطن أن تحتضتنها بل وتبالغ فى الترحيب بها فى الوطن الواحد.

وراقبت جيل الأحفاد الذين نشأوا فى أمريكا بنات وأولاد وهم يلعبون لعبات أمريكية فى تلك المناسبات من أحاجى وفوازير وأغانى ويتحدثون الإنجليزية بلكنة أمريكية.
أما جيل الأبناء والجدات فكان حاجة آخر مسخرة فكان هناك العود والطبلة والرق والصاجات ولم يكن ينقصنا إلا راقصة شرقية!
وأخذنا نغنى أغانى مثل:

بالأحضان... بالأحضان .. بالأحضان يابلادنا ياحلوة بالأحضان
فى بعادك يتلموا ولادك يابلادنا وتعود أعيادك
والغايب ما يطقش بعادك يرجع ياخدك بالأحضان
وأغانى مثل:
على بلدى المحبوب ودينى
وسالمة ياسلامة رحنا وجينا بالسلامة
وأغانى الشيخ أمام ونجم:
يابهية ياأم طرحة وجلابية
الزمن شاب وأنتى شابة
وهو رايح وأنتى جاية

وأغنية: بقرة حا حا النطاحة
وحتى أغنية :
شرفت يانيكسون بابا يا بتاع الووترجيت
عملوا لك قيمة وسيما سلاطين الفول والزيت
ولم يسلم من أغانينا حتى أغنية أحمد عدوية: ستو بسبستلوا بسبوسة بالسمن والسكر والعسل!!
وتحمست أنا شخصيا ومسكت بالطبلة لضبط الإيقاع حتى إستجار المستمعون من شدة الطبل وربما لردائته وخطفوا منى الطبلة!
...

وشاهدت الدموع تترقق فى عيون جيل الجدات والجدود وخاصة عندما غنينا أغنية أم كلثوم على بلدى المحبوب ودينى. وكان تعليق جيل الأحفاد :quot;الآباء والأجداد يغنون أغانى مصرية عتيقة لأنهم مصابون بمرض النستالجا!!quot; (أى مرض الحنين للقديم).
وتخيلت حال اليهود المصريين والذين تم إجبارهم على الرحيل من مصر بالرغم مما قدموه من فن وأعمال وتجارة فى كل مراحل التنوير المصرى الحديث منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين عندما إنتقل العداء لدولة إسرائيل إلى العداء ضد يهود مصر وكأننا كنا مثل الذى: quot;مش قادر على الحمار إتشطر على البردعةquot;!! وفجأة وجد يهود مصر يعاملون وكأنهم ليس فقط أجانب ولكن كأنهم أجانب وجواسيس ونهبت تجارتهم وبيوتهم بل وحتى قبورهم لم تسلم من النهب، وقد صور هذا أبلغ تصوير الروائى المتميز (شريف مليكة) فى روايته الرائعة (خاتم سليمان) والتى لم تنل حظها لا من الإنتشار ولا من إهتمام النقاد بالرغم من انها من أفضل ما قرأت منذ رحيل نجيب محفوظ.

وأعتقد أن ماحدث ليهود مصر وغيرها من البلاد العربية يعتبر سبة فى جبيننا جميعا كمصريين وكعرب لأننا شاركنا فيه إما بالفعل أم بالصمت وإذا لم ننتبه جيدا فإن ماحدث ليهود مصر لا نريد أن يتكرر لأقباط مصر حيث أن دعوات الإسلاميين التى إرتفعت الآن : quot;إللى مش عاجبه حكم الإسلاميين يتفضل يسيب البلدquot; وكأن البلد ملكهم وحدهم ورثوها ويريدون أن يتصرفوا فيها وكأنها عزبة لهم فقط وكانوا يعيبون على الحزب الوطنى فى أنه يتصرف فى مصر وكأنها عزبة.
ونحن شاهدنا فيلم quot;حسن ومرقص وكوهينquot; وبعد أكثر من نصف قرن شاهدنا فيلم quot;حسن ومرقصquot; بعد أن أختفى quot;كوهينquot; ولا نريد أن نشاهد فيلما آخر بعد نصف قرن بعنوان quot;حسنquot;!!
وكل سنة والكل بخير وسلام.
[email protected]