قال مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية خامنئي إن: quot;ما يحدث في مصر وتونس هو نتيجة للصحوة الإسلامية التي أوقدتها الثورة الإسلامية العام 1979. إن ثورتنا أصبحت مصدر وحي ونموذجا بسبب استمراريتها واستقرارها وإصرارها على المبادئquot; وناشد خامنئي المصريين بأن لا يصدقوا أولاءك الذين quot;راحوا يعزفون على نغمة حق الشعوبquot; ودعا خامنئي quot;علماء الأزهر إلى النهوض بدورهم بشكل بارز، فحين يبدأ الشعب ثورته من المساجد ومن صلوات الجمعة ويرفع شعار الله أكبر فالمتوقع من علماء الدين أن يتخذوا موقفا أبرز.quot;

هذه أحلام وأماني تراود حاكم استبد به الذعر، وتجاوزته الأحداث، وبدأت تؤرقه، حقا، quot;نغمة حق الشعوبquot; في التغيير. وإلا، فما هي هذه الأدلة التي يتحدث عنها خامنئي؟ هل رفع المتظاهرون في تونس ومصر شعار الإسلام هو الحل، مثلا، أو رددوا أسم ولاية الفقيه، أو أسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو رفعوا صور الخميني، أو صور خامنئي نفسه؟ هل ما يسمعه خامنئي في الساحات التي يحتشد فيها هذه الأيام المتظاهرون هي، أدعية و صلوات وخطب دينية وحلقات ذكر، أم غناء و موسيقى جاز وإيقاعات راقصة، والنشيد الوطني المصري؟ ما هو دور القوى الإسلامية في مصر وتونس في اندلاع التظاهرات؟ ما هو دور حركة النهضة التونسية؟ وما دور حركة الأخوان المسلمين المصرية؟ يعرف الجميع أن رئيس النهضة عاد من منفاه في لندن بفضل ما أنجزته تظاهرات الشباب التونسي، والتصريحات التي أدلى بها حالما هبط من طائرته، لم يذكر فيها، ولا بكلمة واحدة، النموذج الإيراني، ولا الصحوة الإسلامية. ما قاله الغنوشي يقترب من الشعارات المدنية الديمقراطية التي يرفعها المتظاهرون، إن لم يكن عن قناعة منه، فأقله مسايرة لمطالب الشارع التونسي. وظل الشباب التونسي حريصا طوال التظاهرات على أن تظل شعاراته ذات طابع مدني ديمقراطي، وحالما يبادر أي شخص يعتقد المتظاهرون أنه من المنادين بالصحوة الإسلامية، أي من رافعي شعارات الإسلام السياسي، فأن المتظاهرين سرعان ما يلتقطونه، كما تلتقط القملة من شعر الرأس، ويبعدونه عن صفوفهم.

أما حركة الأخوان المسلمين في مصر فلم تساهم، لا من قريب ولا من بعيد، في صنع الإعصار الديمقراطي الذي يعصف بمصر هذه الأيام. بالطبع، حركة الأخوان موجودة، وربما هي أكبر قوة سياسية منظمة في مصر، لكن شباب مصر المدنيين هم الذين صيروا، بفضلهم، نشاط الحركة علنيا هذه الأيام بعد أن كانت حركة محظورة، وشباب مصر الذين يرقصون على إيقاع موسيقى عصرهم، هم الذين شجعوا قادة الأخوان أن يتحدثوا الآن بصفتهم الحزبية بعد أن كانوا يخوضون الانتخابات تحت لافتة المستقلين. وحركة الأخوان هي أول من بادر، هذه الأيام، للتفاوض مع نظام مبارك ليتم الاعتراف بشرعيتها من الآن، وأملا منها لحجز مركز الصدارة لنفسها، وخوفا من أن تتجاوزها تطورات الأحداث. ومثل رئيس حركة النهضة التونسية فأن قادة الأخوان المسلمين في مصر شرعوا يتحدثون، مجبرين، هذه الأيام عن (التداول السلمي للسلطة)، وعن الخيار الديمقراطي بعد أن كان شعارهم الإسلام هو الحل. أكثر من هذا، فأن قادة الأخوان في مصر رفضوا حتى الآن تصدر التظاهرات، ليس عزوفا منهم عن القيادة وتزعم ما يحدث، ولكن المزاج المصري العام هذه الأيام غير مناسب لأفكارهم. الشبيبة المصرية الغاضبة هي التي تقود، وهي التي حلت عقدة ألسن الجميع، بما في ذلك عقدة لسان الشيخ القرضاوي، رئيس اتحاد علماء المسلمين، وجعلته يصبح ديمقراطيا ومنفتحا على حين غرة، محاولة منه لركوب الموجة. فأين هي الأدلة التي يتحدث عنها خامنئي، إذن؟ وما هو محل إيران الإسلامية من أعراب هذا الحراك المدني الديمقراطي؟ إذا كانت هناك جهة في إيران يستلهم منها الشباب المحتشدون في ميادين مصر وتونس القوة والعزم ويعتبرونها قدوة لهم، فهم الشباب الإيراني الذين قمعتهم حكومة ولاية الفقيه ورأى العالم دمائهم تسيل، أثر احتجاجهم ضد تزوير الانتخابات الأخيرة في إيران.
من حق خامنئي أن يتمنى، ومن حقه أن يفسر ما يحدث في العالم العربي كما يشاء. لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر مغاير تماما. والواقع يشير إلى وجود قوة شبابية خارجة عن كل الأطر، تصر على أخذ زمام الأمور بأيديها، وهذه القوة هي التي تتقدم وتقتحم، والآخرون يتبعونها. ما يحدث الآن في العالم العربي يشبه المشهد التالي: مجموعة تائهة في البرية تريد وتحاول، منذ زمن طويل جدا، أن تصل إلى مكان معين لكنها لا تعرف كيف، ولا تملك الإمكانيات، ثم يأتي شخص فيضع أمام المجموعة سيارة، ويعبد أمامها الطريق، ويقدم لها بوصلة، ثم يفتح أبواب السيارة ويطلب من الجميع أن يصعدوا، ويبدأ السير. وفي هذه الحال فأن كل ما فعلته المجموعة التائهة من (أمجاد وبطولات) هي أن (صعدت) داخل السيارة، لا أكثر ولا أقل. وهذا بالضبط ما يحدث هذه الأيام في العواصم العربية. الشباب الغاضب، الخارج عن كل طوق، هو الذي عبد الطريق وهو الذي أحضر السيارة، وهو الذي قدم البوصلة، وهو الذي يغذ السير.
أما إذا كان خامنئي يرى في مشهد بعض شباب مصر الغاضبين المتواجدين في ساحة التحرير وهم يؤدون الصلاة، دليلا على (صحوة إسلامية، واستلهاما من التجربة الإسلامية الإيرانية) فهذا تماما كما يرى أحدنا الناس يضحكون فيقول، متباهيا، للآخرين: أنظروا، أنا الذي علمتهم الضحك. بالطبع، هولاء الشبان وأقرانهم في تونس وفي جميع المدن العربية هم مسلمون، وبعض منهم يمارسون طقوسهم الدينية بانتظام، لكن من قال إن ممارسة الشعائر الدينية، والأيمان، والتدين هي دعوة لإقامة دولة إسلامية،كما يقول خامنئي، أو دليل على صحوة إسلامية، من أي نوع؟

نعم، هي صحوة، ولكنها صحوة الشعوب
نعم، ما يجري هذه الأيام في العالم العربي هو صحوة. هذا صحيح. لكنها صحوة من نوع مغاير، جذريا، لما يفكر به خامنئي وقوى الإسلام السياسي. ما يحدث هو لحظة مشرقة نادرة، وغير مسبوقة في تاريخ العرب والمسلمين، من جانب، وفي علاقتهم مع الشعوب الحية في الغرب، من جانب آخر. إنها لحظة تصالحية بين الطرفين، لحظة يرقص فيها العالم العربي على إيقاع quot;نغمة حق الشعوبquot;، مثلما رقصت قبله شعوب العالم، وهذا، بالضبط، ما يدخل الهلع لقلب خامنئي والذين يفكرون مثله، من جميع المذاهب الدينية والمدارس السياسية. فقد شهدت القرون الماضية المزيد من الغزوات والفتوحات الدينية والحروب الاستعمارية والمناكفات ومحاولات إلغاء متبادلة للهويات، بين الغرب والشرق، كانت أخرها الهجمات الإرهابية التي نفذها في أمريكا تنظيم القاعدة، بأسم الإسلام، والاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، وما رافق ذلك من أطروحات عنصرية انعزالية في الغرب تحت عنوان صراع الحضارات، وفي الشرق، خصوصا من قبل إيران الإسلامية، تحت عنوان الغرب الصليبي الكافر، أعادت الذهن لما كان قد قاله سابقا شاعر الإمبراطورية البريطانية،رديارد كبلنغ: الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا.
الآن، وفي هذه الساعات التي تتحول فيها مدن العالم العربي إلى غابات بشرية، تحدث عملية تلاقح تاريخية تصالحية، ومحاولة تقريب بين أفكار الشرق والغرب، التي ظلت طويلا تتصارع بأسلوب مدمر، ونعني، هنا: quot;نغمة حق الشعوبquot; أي، الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتحسين أوضاع النساء، وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذه قيم كونية، توجد ما وجد البشر. لكن الغرب ظل، لقرون طويلة، يحتكر لنفسه عزف quot; نغمة حق الشعوبquot; في الديمقراطية، و العدالة الاجتماعية، وكل ما يتبع ذلك من تطبيقات. والشرق، تحديدا العرب والمسلمون، ظلوا، ولقرون طويلة، أيضا، يصرون أن ما يصلح للغرب لا يصلح لهم. الآن، يكتشف العرب والمسلمون أن هذا غير صحيح. فالذي قال: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) ليس أميركيا ولا فرنسيا ولا ألمانيا ولا إنجليزيا، هذا القول ردده شخص عربي مسلم قبل أكثر من ألف سنة، أسمه عمر بن الخطاب. والذي قال: (لو كان الفقر رجلا لقتلته) ليس ماركس إنما قاله شخص عربي مسلم قبل ألف عام، أسمه علي بن أبي طالب. والذي قال: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ليس واحدا من غلاة العلمانيين الغربيين، إنما هو القرآن المجيد ' وهذه الشعارات هي الداينمو المحرك لتظاهرات الشباب في عواصم العربي هذه الأيام، مثلما كانت هي (جوهر) النظم الديمقراطية في الغرب. خامنئي، والذين يفكرون على شاكلته لا يريدون لهذا التداخل أن يحدث ويتم، مثلما لا تريده الحكومات الغربية، كل لأهدافه. حكومات الغرب ومعها، يا للأسف، الكثير من أفراد النخب المثقفة والمتعلمة في الغرب، تصر على أن العرب والمسلمين لا تنفع معهم إلا سياسة العصا، حتى يبقى العالمين العربي والإسلامي مصدرين لمواد أولية وعمالة رخيصة. وخامنئي والذين يؤيدونه، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، يريدون أن يظل عليا وعمرا سببا في إراقة دم الناس، يريدون أن يحنطوا التاريخ، أو يعيدونه إلى الوراء عشرات القرون، إلى أيام (السقيفة)، إنهم يصرون على أن (حق الشعوب) هي (نغمة) غربية، لا تصلح إلا للغرب، حتى يتسنى لهم الاستمرار في منح صكوك الغفران على طريقتهم، حتى والبشرية تدخل العقد الثاني من الألفية الثالثة.

لكن، من يدري ما الذي سيفعله النظام الإسلامي في إيران لو تكللت ثورة الشباب المصري بالنجاح وحققت أهدافها. كيف سيحقق ما قاله بأن على (علماء الدين أن يتخذوا موقفا أبرز)، وبأي وسيلة؟ بضخ المال والأسلحة؟ بتحريك هذا الطرف ضد ذاك؟ بخلط الأوراق؟ بالمكائد؟ بعقد الصفقات؟ بتقديم المساعدات لقوى سياسية معينة داخل مصر وتونس؟ كيف؟