الحلقة الأولى:تكوين الارادة الجديدة

هل يتّعلم الزعماء العرب شيئا مما يجري اليوم على أرضهم؟ هل يدركون أن الإرادة الشعبية قد تتشكّل ضدهم في غضون ساعات؟ هل استعدوا لثقل المفاجئات وهول الموقف؟ هل فكرّوا في نهاياتهم التي تصلح أن تكون نهايات أفلام سينمائية مرعبة؟ هل قرأوا تواريخ الدول والشعوب والثورات؟ هل عرفوا أن المؤرخين في المستقبل سيهتمون بنهاياتهم الصعبة؟ هل يتأملون يوما إن الأجيال القادمة ستذكر النهايات المهينة؟ إن من أصعب الحالات أن يتحّول أي زعيم من الزعماء في لحظة تاريخية معينة من العز والفخامة إلى الإذلال والمهانة.. وكم نودي على زعماء بعينهم أن يلتفتوا قليلا إلى أحوال بلادهم وعبادهم.. أن يتنازلوا من عليائهم وجبروتهم.. أن يهتموا بشؤون مجتمعاتهم المسحوقة.. أن يبدأوا ثورة تحولات حقيقية.. دعوني ابحث في إستراتيجية التغيير التي كانت ولم تزل تخيف الزعماء قبل الشعوب.. وترعب الخصوم قبل الأصدقاء.. وتتصدى لكل المتخلفين والمستفيدين والمنافقين والمتأدلجين والجاهلين.. الخ

المعزوفات القديمة.. متى تتركونها؟؟
قلت في كتابي quot;التحولات العربية: اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل quot; المنشور عام 1997: quot; أنني أدعو الحكومات العربية قاطبة الى جملة quot; مبادئquot; يمكنها أن تضع خطواتنا العربية نحو المستقبل.. عند انطلاقة جديدة يشكلها تجديد في البرامج والخطط والمناهج المستقلة، ثم احترام الكفاءات وتعزيز مكانتها في المجتمع قبل الدولة، فضلا عن إعادة النظر في القوانين والتعليمات والمحددات والإنفاقات.. ومن ذا الذي يتولى الإدارات؟ ومن ذا الذي ينفذ التعليمات؟ (124) بعد ان تساءلت في مدخل الكتاب قائلا: quot; هل سيفتح القرن القادم (القرن الواحد والعشرون) مواقف جديدة في التعامل واتخاذ صيغ متطورة مع الإشارة إلى تفاقم المشاكل وتراكم الازمات وشلل الطاقات وضياع الزمن وبعثرة الامكانات والقدرات؟ مع تلاقح الانكسارات وازدياد حجم التناقضات المريعة والتي اضرت جميعها بالسايكلوجيات حتى على مستوى الفرد ومجموعات النخب.. مع شتات الحقوق القومية للأقليات؟ والانكى من ذلك، حدة أزمة الوعي والتراجع المخيف إلى الوراء.. ومضاعفة شقاء الوعي.. وحالات الهروب والانكسار والاغتراب؟؟؟ لقد كان ذلك مساهمة مفجعة في التدمير!.. إن العرب بحاجة إلى ديناميكية أكبر وتفكير انضج وهم يستقبلون القرن القادم، إنهم بحاجة اولا إلى حركة تكمن في التاريخ.. وتجديد في التجارب السياسية من خلال الحريات أولا وأخيرا quot; (ص 19).
نعم، لقد كنت على غرار نخبة من الدعاة الآخرين، قد طالبنا منذ أكثر من عشر سنين، بإجراء إصلاحات واسعة وتغييرات جذرية على مستوى الدساتير والقوانين والمناهج التعليمية والبرامج التنموية والمستويات الثقافية في كل البلدان العربية، بل وإحداث تغييرات أساسية في البنية العربية، والبدء بثورة حضارية تتصل بحياة العصر، يرافقها عمل شاق وتخطيط كبير ودراسات مقارنة ومتخصصة.. ولكننا كالعادة لم نلق أية استجابة تذكر أبدا، إلا سماع إعلانات وتصريحات عن مبادرات دعائية يخرج بها علينا بعض الزعماء العرب، وهي لا أساس لها من الصحة أبدا. وعليه، سوف لن يكون باستطاعة أي مؤتمر قمة عربي على غرار ما تّم عقده من مؤتمرات.. الخروج بأية (مبادرات) كالتي ألفنا سماعها دوما، بعيدا عن أي حلول عملية يتطلبها واقعنا اليوم، وبقرارات من المسؤولين والزعماء العرب الذين لا اعرف هل يدركون حجم الخراب، ومبلغ الدمار، وهول المفاسد، وقوة الانهيارات التي أصابت حياتنا العربية!

فلسفة التغيير بديلا عن اكذوبات الاصلاح
1/ مبادئ ثورة حقيقية
إن أقصى ما يمكن عمله اليوم بعد أن طفح الكيل، ولم تنفع أية مناشدات لأولئك الرسميين الكبار من الزعماء والمسؤولين.. يقضي بتفعيل مبادئ ثورة حقيقية مسالمة وحضارية من اجل تغيير أوضاع مؤسسات دولنا ومنظومات مجتمعاتنا كاملة، وعدم الركون لما يقوله المستشارون والتابعون وبعض الإعلاميين والمتحزبين أو وعاظ السلاطين.. أو أولئك الذين ورثوا تقاليد نظم القرن العشرين وبقاياه البليدة من القدماء المتحجرين، كما وأتمنى عدم المصادقة على أية شعارات إنشائية لا معنى لها، كي يتم بها إسكات أفواه الناس الذين ينتظرون شيئا حقيقيا منكم اليوم، خصوصا وهم يشهدون حالة المتغيرات الصعبة لدى كل من المجتمعين التونسي والمصري، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تداعيات مخيفة لكل أولئك الذين لم يعد يسمعون أبدا لشعوبهم ومطاليب تلك الشعوب التي ثبت للعالم أنها لم تزل من الشعوب الحية التي انتظرت طويلا تحقيق كل الوعود أو التي أسموها بـ quot; المبادرات quot; بالإصلاح، ولم نجد أي شيء يذكر من تلك الإصلاحات.. علما بأننا كنّا نطالب منذ سقوط المنظومة الاشتراكية في العالم، بالتحديث والتغيير بديلا عن الإصلاحات والرتوقات!

2/ المنطلقات الاساسية:
اعتقد أن مجرد الحديث عن مقترحات واهنة وتقريرية وإنشائية ومفذلكات ومفبركات واكذوبات لا أساس لها من الصحة، بل ولا نفع فيها ستضر حياتنا العربية الصعبة وتزيد من تعقيداتها من دون تقديم:
1) الحلول الجذرية التي تستجيب للمطالبات ولما يريده الناس الذين سحقتهم كل هزائم القرن العشرين ودكتاتورياته العاتية وحروبه الفاشلة ونفقات العرب الخيالية على توافه الأمور.. مع أسرار الصفقات وقمع السلطات وسوء الإدارات.. الخ من عوامل الفشل.
2) استخدام براغماتية حقيقية لتحديث الحياة العربية من قبل قوى جديدة ذكية وشابة ومتخصصة ووطنية مخلصة ومتجردة من أمراض القرن العشرين التي إن بقيت مستمرة، فسوف تدمّر وجودنا ومستقبلنا بأسره، كونها تقف حجر عثرة أمام التقدم.
3) استنباط مفاهيم ورؤى وأفكار ومشروعات وبرامج جديدة تعمل على نسف كل القديم، وجعلها بدائل حقيقية لما يشاع من شعارات إصلاحية اتهمت قبل سنوات كونها أمريكية الصنع، أم عربية الدعاية، أم ليبرالية الهوى.. ومن قبل الاجهزة الحكومية العربية كيلا يحدث أي تغيير.
4) الاعتماد على الذات وعلى قوى وطنية وعلى مؤسسات البلاد نفسها.. من دون الاستعانة بأية قوى خارجية.. فضلا عن عدم الانصات لأية اجندات خارجية اقليمية ودولية.

3/ اسس الحراك الاجتماعي
إن السياسة العربية اليوم، ممثلة بزعماء ومسؤولين غير مدركين لحراك المجتمعات، ولا لتقدم الحياة، ولا لثورة المعلومات، ولا لسرعة الاتصالات.. إنما هي سياسة عربية أو إقليمية، تمشي على عكاز بين مطرقة هذا وسندان ذاك، ولتكن سياسة متوازنة تراعي مصالح العرب العليا، ولتكن جذرية في التغّيير، مقتلعة لكل الترسبات القديمة المتوارثة عن بقايا القرن العشرين ، وان تلعب على خمسة محاور أساسية، هي:
1) سياسية من اجل بناء دولة المؤسسات الحديثة الملتزمة بدستور حياة مدنية.
2) قانونية من اجل ولادة تشريعات دستورية وتجديدات قانونية واسعة لكل مرافق الحياة الجديدة.
3)معرفية من اجل تغيير مناهج التفكير والتربية والتعليم والثقافة العامة.
3) اقتصادية من اجل بناء أسس جديدة للتعامل مع المال العام والانفاقات وتطوير الموارد والبدء بثورة تنموية كبرى.
5) اجتماعية من اجل تطوير الحياة الاجتماعية على أسس العدالة والتنظيم والإدارة الذكية والعناية بالمرأة والاطفال وكل الاجيال الجديدة.

4/ متغيرات الاجيال
اعتقد انه لم يعد باستطاعتنا أن نخدع أنفسنا أكثر من خداعها لأكثر من خمسين سنة مضت، فالعالم كله يتغير بسرعة مذهلة من حولنا.. ومن لم يكن بمقدوره أن يصلح من شؤونه الداخلية، فلن يكن باستطاعته تحّمل حجم ما سيصيبه من جراء المواجهات القادمة، فالمجتمعات اليوم ليست كما كانت بالأمس. وان أجيالا عربية جديدة تختلف في تفكيرها وصنع ارادتها عن الاجيال السابقة في القرن العشرين.. وان تطلعات جديدة برزت تطفو على السطح، ونحن نسمع بها لأول مرة.. لقد بدأ استدعاء التغيير منذ قرابة السنة بتوسّع الوعي بحجم التحديات، وانشغال السلطات والمسؤولين العرب بقضايا تافهة، ناهيكم عن ردود فعل سببتها عوامل التردي التي ولدت منذ ثلاثين سنة، وصراع الماضي مع الحاضر من اجل المستقبل باساليب متباينة.. هنا كان لابد من إدراك متبادل لحجم التحديات وطبيعة المتغيّرات وكيفية الاستجابات التي جاءت مفاجئة للجميع مع بدايات العام 2011، وسنشهد ولادة احداث جدّ مهمة جراء تداعيات الحراك السياسي هنا او هناك وامتداده باتجاهات مختلفة.. كل هذا يحدث والمسؤولون والزعماء في كل من المنطقة والإقليم، ما زالوا يغنّون اغنياتهم القديمة، ويبيعوا هذه (الأمة المنكودة) المشاعر والعواطف، وهم يشحنون بالعنتريات وترديد الشعارات التي أودت بكل نفائسنا الثمينة.

5/ مسألتان أساسيتان
وعليه أعيد واكرر مسألتين أساسيتين، هما:
1) الشأن الداخلي لكل دولة عربية (أو من دول المنطقة) وكيفية ترتيبه بما يتوافق ومتطلبات أساسية ربما لم يقتنع بها أو حتى يفهمها العرب، وليس بالضرورة أن تكون متوازية السياسات في ما بين دولنا ومجتمعاتنا. أن على العرب معالجة بيوتاتهم المخربة دواخلها قبل أن يبحثوا عن صيغة تراضي لتوافق ما يسمّى بالبيت العربي، إذ لا وجود لمثل هذا quot; البيت quot; على ارض الواقع، بل هو راسخ في الذاكرة!
2) الشأن الخارجي لكل دولة عربية وكيفية ترتيب ذلك الشأن بما يتوافق والمتغيرات في العالم اليوم، إذ ليس شرطا أن ينسجم مع هذه الإرادة أو تلك، بل يمكن التعامل خارجيا مع الكتل الكبرى السياسية والاقتصادية في العالم.. فليس هناك سياسات أحادية عربية في التعامل مع الأطراف المختلفة.. واعتقد أن في ذلك عناصر ايجابية يمكن استثمارها في أن يكون هناك توزيع ذكي للأدوار العربية.

انتظروا الحلقة الثانية
www.sayyarajamil.com