بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشيوعي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، بدأ مايسمى عصر انهيار الايدولوجيات، وهو ماحصل بالفعل. في اثناء هذه الفترة تفتح وعي جيل عربي جديد على هذه الحقيقة وولد خلاله جيل اخر تفتح وعيه خلال السنوات العشر الاخيرة. هذه الأجيال تربت ونشأت في كنف اللايدولوجيا واللانتماء الى هذه الفكرة بشكل مطلق او الى تلك الايدولوجيا بشكل مطلق، وبالتالي فانها تحررت من النظرة المؤطرة والمؤدلجة الى العالم والحياة والانسان. أي بمعنى ان الافق الانساني لهذه الاجيال واقصد فيها المتنورة والمتعلمة بشكل سليم قد توسع ووصل الى مديات كبيرة وفسيحة بحيث جعلها تتعالى على مفاهيم الطائفية والقومية بوعي وادراك عاليين. اي ان الحس الانساني لهذه الاجيال قد توسع، وبالتالي فأن وعيها بمفاهيم الحرية والعيش بامان معاً قد ترسخت في عقله ووجدانه بشكل كبير. وصار لهذه الاجيال نسق عقلي مختلف تماما عن النسق العقلي للاجيال القديمة والتي تنتمي اليها جوقة الانظمة العربية الرابضة فوق صدر العالم العربي منذ عقود. هذه العقلية، هي عقلية متحجرة ومتكلسة ومؤدلجة ولا تتفاعل مع اللحظة التاريخية الحالية بديناميكية وتجدد. بينما عقلية الاجيال الجديدة تختلف تماما عن عقلية هذه الانظمة. فهي عقلية متجددة تنويرية، واسعة الافق، تتعامل مع الاخر بحب واحترام ومن دون اطار ايدولوجي محدد وثابت. لذا فان هذا الفرق بين العقليتين، هو السبب الأهم برأيي في كل مايحدث الان في المنطقة العربية. فالصراع الان هو بين عقليتين: الاولى عقلية الانظمة العربية ضيقة الافق التي خلقت الحروب والسجون والجريمة والفقر لشعوبها، والعقلية الثانية هي عقلية الاجيال الجديدة المتنورة التي ماعادت تستطيع ان تتحمل العيش في كنف هذه العقلية المتحجرة. وبما ان الاجيال الجديدة صارت كبيرة الحجم قياسا بحجم الاجيال القديمة، وبما ان الحس الانساني هو المحرك لها وليس الحس الايدولوجي، وبما انها صارت على تماس مباشر ويكاد ان يكون يوميا مع الاخر، فان وعيها ومعرفتها وحسها الانساني صار اكثر ثراء وتنوعاً. لذا راحت هذه الاجيال بالتحرك بشكل حضاري واخلاقي وسلمي لتغيير انظمتها.
ثمة لاوعي جمعي قد تأسس منذ عقدين يجمع الشباب العربي المتنور كله من دون ان يتفق هذا الشباب على ذلك في مؤتمر او اجتماع او جمعية. هذا اللاوعي تحول الى منطقة الوعي بعد أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه. فانتفضت هذه الاجيال بوعي حاد في ثورة تونس ومن بعدها في ثورة مصر، والان في الشارع العربي بأكمله. هذه الاجيال وجدت فرصتها التاريخية في القفز من الماضي الذي حاولت ان تحصره فيه المؤسسات الدينية والسياسية معاً مع اختلاف الوسائل الى الحاضر والتطلع الى المستقبل من شرفة واسعة لاتحدها حدود.
لذا انا اعيد وأكرر بأن القضية الان هي قضية صراع بين الجمود والحركة. بين الرجعية والتنوير. بين الماضي والمستقبل. بين الحس الايدولوجي وبين الحس الانساني. لذا اعتقد بأن مسائل الفقر والسجون وتقييد الحريات... الخ، لم تكن الاسباب الحقيقية او الخفية لاشعال هذه الثورات حاليا، وانما السبب يكمن هو ان عقلية الاجيال الجديدة لم تعد تتمكن من العيش مع العقلية القديمة للانظمة السياسية، ولم تعد تناسب تصوراتها ابداً. لذا انا اتوقع ان هذه الثورات ستمتد حتى الى اكثر البلدان العربية رفاهية من الناحية الاقتصادية، الا وهي الانظمة الخليجية. فالقضية لم تعد ان هذا النظام عادل الى حد ما او انه طيب و وكريم مع شعبه الى حد ما. كلا. القضية اعمق بكثير برأيي. لان هذا الجيل بدأ يعي ويدرك تماماً بأن تصورات هذه الانظمة للانسان وللحياة هي ثابتة محدودة الافق ولم تعد تفي بتصوراتها العميقة والانسانية.
ان هذه الاجيال ادركت ان الحياة ليست تحديث شكلي للمدن، وليس الاكتفاء ببيت فخم ومال كثير ونوم هادئ وطعام شهي. هذه الامور من دون ابداع وخلق لا تساوي شيئاً مهماً لدى الاجيال الجديدة. ان هذه الاجيال هزت او استطاعت ان تمزق الصورة الاستشراقية الغبية التي صورت العربي للمجتمع الغربي على انه انسان ميت وجامد. هذه الصورة التي خلقت مشكلة الهوية بالنسبة للعربي المغترب في العالم الغربي بدأت تتحطم، وأنا برأيي وان كنت لا أبالغ بالامر هي التي اجبرت ادارة اوباما واوربا على ان تغير بعضا من نبرتها تجاه هذه الثورات الباهرة. ان في اللاوعي الغربي سواء السياسي او الاجتماعي بشكل عام نظرة ضيقة الافق عن العالم العربي، وذلك كما اسلفت بسبب تلك الصورة الاستشراقية عنه من جهة وبسبب الصورة التي رسختها الانظمة العربية لدى الغرب عنه. فخطيئة الانظمة العربية كبيرة بحق مجتمعاتها وذلك لأنها خلقت صورة مشوهة عن العربي مفاده ان الديمقراطية والقيم الانسانية الجديدة لا تناسب المجتمع العربي، ولهذا قال مبارك في لقائه الصحفي الاخير قبل رحيله ( أن اوباما رجل طيب ولكنه لا يعرف ثقافة المجتمع المصرية ) وهو يقصد بذلك بأن اوباما يتعامل بديمقراطية مع مجتمع لا تفيد معه الديمقراطية.. أليست هذه وقاحة وجريمة بحد ذاتها؟
لا يوجد مجتمع ديمقراطي باجمعه ومجتمع ديكتاتوري باجمعه. هناك توجد نخبة متنورة تقود المجتمع وفق قانون مدني وديمقراطي تحميه الدولة بشكل صارم وحاد. وهذا لا يعني بالضرورة ان كل ابناء المجتمع الديمقراطي مبني بناء ديمقراطيا. فربما اذا ازيلت القوة الحافظة للقانون في المجتمع الديمقراطي ستظهر الذئبية والحيوانية لدى العديد من شرائحه وبالتالي تقضي على قيم الديمقراطية بأيام.
الشيء الذي أود قوله، هو ان الاجيال الجديدة في المنطقة يجب ان تقودها لكي تعيش هذه المجتمعات بقيم تحفظ انسانية الانسان، وتحفظ لها حقوقها وكرامتها وحريتها بأمان. فهذا هو الحلم. فكل تغيير حدث عبر التاريخ كان قد بدأ بالحلم. لنحلم اذن.
- آخر تحديث :
التعليقات