(سامحنا يا فيكتور، ولا تحمل علينا، وإن التقيت بريتشل لا تخبرها بأسفك على ما قدمت، ولا تساوي الكف بالمخرز، فبئس اليد التي أتيت تصافحها فطعنتك، وبئس القلب الذي بكيت لأجله فانتزع قلبك..

(بقلم شجاع الصفدي)

لم يحدث أن هزتني جريمة من أعماقي كما فعلت الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق ناشط السلام الإيطالي المناضل فيتوريا أريغوني المعروف باسم (فيكتور)..هذا المناضل الذي حرم نفسه من مباهج الحياة في بلده وترك والديه وخطيبته وأصدقائه وجاء إلى غزة ليتضامن مع أهلها فكان جزاؤه أن قتله بعض المجرمين المفسدين في الأرض.
أعرف فيكتور شخصياً وقد التقيت به أول مرة في أغسطس 2008 حيث كان قطبان أول سفينة كسرت الحصار عن غزة فكان من السابقين، وسجل له أصدقاؤه كلمةً كان يرددها كثيراً في إبحاره إلى غزة حيث كان يقول :quot;كن إنساناًquot;، فقرروا تخليدها بأن أطلقوها اسماً لرحلتهم القادمة إلى غزة..
رأيته وهو يجلس مع خطيبته على شاطئ غزة يحتسيان الشاي وقد سرح ببصره نحو الأفق يتأمل بعينيه العميقتين اتساع البحر وترامي أطرافه، ويرقب أمواجه الهادرة الآتية من بعيد وهي تتكسر على شاطئ غزة، ويبدو أن هذه الزيارة تركت انطباعاً عميقاً في نفسه، فعاد في المرة الثانية بمفرده، ولكن هذه المرة ليبقى وليشارك أهل غزة معاناتهم وصمودهم..
حاورته مرات عديدةً بإنجليزيتي المتكسرة فرأيت فيه شخصيةً مرحةً محبةً للعدالة ثائرةً على الظلم واختلال الموازين في هذا العالم، وقد سألته ذات مرة عن رئيس وزراء بلده برلسكوني، ودعمه لكيان الاحتلال فثار غضبه عليه، ولم يجد ما يعبر به عن غضبه سوى أن قال بلسان عربي فصيح:هذا خنزير، قلت له:ما دام بكل هذا السوء فلماذا أعاد الشعب انتخابه، قال لي:إنه يملك امبراطوريةً من الإعلام يضلل بها الجماهير، فاستفدت من كلامه بأن الديمقراطية منقوصة حتى في بلاد الديمقراطية، وقال لي مرةً أخرى:أنا مسيحي وأنت مسلم، وكلنا إخوة في الإنسانية..

لم تكن إقامة فيكتور في غزة للسياحة والتمتع بملذات الحياة، ففي العالم الفسيح خارج غزة متسع لذلك، ولكنه جاء مناضلاً فاختار أن يسكن في غرفة متواضعة في ميناء الصيادين بغزة، كان تواجده في غزة من أجل النضال فكان يتقدم الصفوف في مناهضة الاحتلال، تراه يتقدم المسيرات السلمية على حدود فلسطين المحتلة عام48 بصدره الأعزل وهو يهتف ضد سياسة الاحتلال العنصرية البغيضة.كان يشارك فقراء غزة طعامهم وشرابهم، وكان يلعب مع الأطفال بشخصيته المرحة المعهودة يدخل السرور على قلوبهم، وفي حرب غزة كنت تراه في الميدان يسعف الجرحى، ويحمل الشهداء، كنت تراه مع الصيادين في رحلات صيدهم المحفوفة بالمخاطر، وهم ينتزعون لقمة عيشهم من أنياب الاحتلال والحصار.
لقد ضرب فيكتور مثلاً في الشجاعة والإقدام عجز عنها كثير منا نحن أصحاب القضية من الفلسطينيين والعرب.
هذا القلب النابض بحب الخير والعدالة كان عامل إزعاج لأعداء الحياة والإنسانية، فقرروا أن يوقفوا نبضه، فامتدت إليه الأيادي الآثمة في خلسة من الليل بعد أن تجرد أصحابها من أي قيمة إنسانية وأخلاقية، واقترفوا جريمتهم التي لا تكشف إلا عن نذالة وخسة وحقارة تعجز الكلمات عن التعبير عنها..

لكن من الذي قتل هذا المناضل البطل ؟؟
من الصعب جداً افتراض البراءة فيمن اقترف هذه الجريمة الآثمة، أو الظن بأن دافعها الوحيد هو الجمود والانغلاق الفكري، وأنها لا تتعدى كونها فعلاً طائشاً غير محسوب النتائج، فثمة جملة من الملاحظات تعزز فرضية أن تكون هذه الجريمة ذات أهداف سياسية، وأنه أحكم التدبير لها لتحقيق أهداف مسيئة للفلسطينيين في هذه المرحلة الحساسة..
هل هي مصادفة بريئة أن تأتي هذه الجريمة تماماً في الوقت الذي كانت تشهد فيه إسرائيل حالةً من القلق والاستنفار لمناقشة سبل التصدي لأسطول الحرية الثاني وبحث كافة الخيارات لمنع وقوع الاحتلال في ورطة مثل التي وقع فيها العام الماضي أو أشد، حتى أنها استنفرت رئيسها ورئيس وزرائها ووزراء الداخلية والجيش كما لم يحدث من قبل في جولات خارجية عنوانها الرئيسي هو إفشال رحلة أسطول الحرية، وأن يأتي تنفيذ هذه الجريمة بعد ساعات معدودة من تصريح نتنياهو بأن إسرائيل ستبحث في طرق أخرى لمنع انطلاق أسطول الحرية نحو غزة؟!
وإذا استعنا بمبدأ (من المستفيد؟) في محاولة التعرف على الفاعلين، فمن مصلحة من في هذا التوقيت بالذات أن ينتشر بين المتضامنين الأجانب وهم يعدون العدة للإبحار نحو غزة خبر أن غزة تقتل القادمين إليها، وأن غزة ليست مكاناً آمناً للذهاب إليه، ومن الذي يمكن أن يتصل في صبيحة اليوم التالي لهذه الجريمة بوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي ويقول لهم:ألم أنصحكم يا نظرائي الأعزاء قبل أيام قليلة بأن تمنعوا إبحار المتضامنين صوب غزة؟ وألم أقل لكم إن غزة لا تستحق التضامن معها، وأنها ليست محاصرةً بل هي وكر للإرهاب والتطرف؟

هناك ثغرات عديدة تضعف من فرضية أن يكون دافع الجريمة هو التطرف الفكري وحسب، من هذه الثغرات أن المتضامن قتل بعد ساعات قليلة من اختطافه رغم أن من خطفه أعطى في البداية مهلة ثلاثين ساعةً لحكومة غزة للإفراج عن أحد المعتقلين، فلماذا لم ينتظر الخاطفون انقضاء هذه المهلة، وسارعوا إلى قتله، هذا يرجح أن الخطف كان ابتداءً بقصد القتل، كذلك فإن تعمد نشر صور تبين خنقه وقتله بطريقة بشعة من شأنه أن يضاعف من أضرار هذه الجريمة على الفلسطينيين، وأن يضاعف من تأثيرها السلبي على نفوس المتضامنين مع الشعب الفلسطيني.
أضف إلى ذلك ما أعلنته المصادر الأمنية في غزة بأن أحد المقبوض عليهم بتهمة المشاركة في الجريمة هو شخص مشبوه أمنياً، وأنهم تلقوا أوامر التنفيذ من جهات مجهولة عبر الانترنت.
من الملاحظات القوية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار هو نفي ما تسمى جماعة التوحيد والجهاد مسئوليتها عن هذه الجريمة، بعد أن كان قد أعلن بأنها هي من نفذت هذه الجريمة، وهذا النفي له قيمة كبيرة، فأصحاب هذا الفكر المتشدد رغم أننا نرفض فكرهم إلا أن هذا ينبغي ألا يخرجنا عن العدل في التعامل معهم..صحيح أن فكرهم منحرف ومتشدد إلا أنهم أقرب إلى الصدق من غيرهم، لأنهم ليسوا أصحاب خبرة كبيرة في فنون الكذب والمناورة، وهم أصحاب مبدأ وليسوا ساسةً فإذا فعلوا شيئاً برروه ودافعوا عنه، وحين يقولون أننا لم نفعل هذا فالأرجح أنهم صادقون، ويبقى التحري الدقيق هو الحكم في هذه المسألة..
بالطبع فإنه ليس من الصعب على إسرائيل بأذرعها الأمنية الطويلة أن تقوم بمثل هذه الجريمة في غزة، فغزة بحكم التصاقها بالاحتلال ووقوعها تحت الاحتلال المباشر عقوداً طويلة هي ساحة مكشوفة يمكن بسهولة تنفيذ مثل هذه العملية فيها..
سواءً كان من يقف وراء هذه الجريمة هي إسرائيل أو الفكر المتطرف أو أن تزاوج كليهما قد أنتج الجريمة، فاستفادت إسرائيل من وجود قلة من أصحاب الفكر المنحرف وقامت باختراقهم وتوجيههم من حيث لا يشعرون في الاتجاه الذي يخدمها، أياً كان الأمر فإن الواضح هو أن المستفيد الأكبر من هذه الجريمة هي إسرائيل خاصةً في هذا التوقيت الحرج، وأن الخاسر الأكبر منها هو الشعب الفلسطيني وقضيته الأخلاقية العادلة، والجهل هو الوجه الآخر للخيانة فكلاهما في الضرر سواءً، ولا تبرر مثل هذه الجريمة مهما كانت نوايا أصحابها وقناعاتهم الفكرية.
إننا أمام لحظات صعبة تعصف بنا بعد هذه الجريمة البشعة، ويجب أن نقوم بكثير من العمل لكشف الفاعلين الحقيقيين لهذه الجريمة، ولإقناع حركة التضامن العالمية بأن هذه ليست غزة، وأن هذه الفعلة الآثمة لا تعبر عن قيم الشعب الفلسطيني وأخلاقه، وأن فلسطين لا تنكر جميل من وقف معها وناصرها، ومن قام بهذه الجريمة على افتراض أنهم فلسطينيون فهم أفراد معزولون لا يمثلون الصورة الحقيقية لجهاد شعبنا وتضحياته، بل إنهم امتداد للاحتلال الإسرائيلي ولن يخلو مجتمع في الدنيا من أصحاب قناعات منحرفة، لكن الشعوب لا تؤاخذ بجريرة مثل هذه القلة المنحرفة.
إذا كان هدف الفاعل الحقيقي لهذه الجريمة هو التأثير على حركة التضامن الدولية، فإن في إعلان والدة فيكتور نيتها المشاركة في أسطول الحرية الثاني إفشالاً لهذا المخطط القذر، وطعنةً في الصميم له، وهذا يعني بفضل الله أن هذه الجريمة لم تنجح في الإساءة لصورة غزة الصامدة الأبية..فشكراً لك أيتها الوالدة الصابرة..
ختاماً أوجه كلمتي لبعض وسائل الإعلام التي ما إن تحدث مثل هذه الحوادث في غزة حتى يصوروا غزة بأنها باتت مأوىً للإرهاب والتطرف، وأن قضية غزة الأولى هي مثل هؤلاء الأفراد النشاز إن ثبت وجودهم، وليست قضية شعب يتوق للحرية ويعاني من الاحتلال والحصار، ونفس هذه الفضائيات لا تتناول الوجه المشرق لغزة في مقاومتها للاحتلال وصمودها في الحصار إلا قليلاً، أقول لهم إن كيدكم سيرد إلى نحوركم ولم تعد الشعوب على درجة من السذاجة التي تظنونها، ومن سيخسر من التحريض الذي تمارسونه هو أنتم لأن الشعوب ستنفض عنكم بعد أن اكتشفت ألاعيبكم وتجردكم من المهنية وأخلاق العمل..

تحديث/
علمت بعد أن فرغت من كتابة هذه المقالة بأن فيكتور كان قد أوصى خطيبته قائلاً:quot; إذا استشهدت في غزة فلا تخرجوا جثماني من معبر إيرز ولكن أخرجوه من معبر رفح حتى أكسر الحصار عن غزةquot;..وهذا ما كان فعلاً حيث جاءت خطيبته عبر معبر رفح لتسلم جثمانه..
ما أعظمك يافيكتور وأنت تفكر في كسر الحصار عنا حتى بعد استشهادك، وما أجبن وأنذل من تجرأوا على اقتراف الجريمة بحقك..
وإنا لله وإنا إليه راجعون
quot; إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍquot;
والله أعلى وأعلم..

[email protected]