أثبت النظام السوريّ خلال أزمته المتدحرجة أنه نظام أمني بامتياز يحترف القمع ويجهل كل ما عداه. فالتفاصيل المنشورة رغم التعتيم القسري والطوعي تفيد أن العقل الأمني السوري يعمل وفق القواعد والأصول ضمن منهجية لا أوضح منها طوّرها وكرّسها عبر تجربته المستمرة منذ عقود! وقد أضاف عليها تجربة التحكّم بلبنان ومقدراته وشعبه نحو 30 عاما. كما يتّضح من أداء القوات الأمنية المتعددة على الأرض أنه حفظ عن ظهر قلب مناهج القمع والتحكّم الإيرانية كما جسدها نظام نجاد وحرسه الثوري وباسيجه في السنوات الأخيرة خاصة في ضرب موجة الاحتجاجات بعد ثبوت التزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ومن المفارقات أن أداء النظام السوري في مدنه وريفه هذه الأيام يتطابق حرفيا مع أداء الاحتلال الإسرائيلي حيث هو!
حتى ليخال المرء أن مستشارين أمنيين إسرائيليين يشرفون مباشرة على ما يفعله النظام وأذرعه في درعا وبانياس وحمص واللاذقية. سيناريو قد يبدو خياليا بعض الشيء في واقع الأمور، لكن وجود خبراء إيرانيين يقومون بهذه المهمة قد يكون سيناريو أقرب إلى الواقع ومحصّلة حاصل quot;التعاونquot; بين نظامين متماثلين! فمحاصرة بلدة وتجميع رجالها واحتجازهم معصوبين أو مكبّلين، مداهمات من بيت مشتبه بالمعارضة إلى بيت مشتبه آخر، منع الماء والغذاء، حظر التغطية الإعلامية، وإعلان البلدة منطقة عسكرية مغلقة حتى أمام المساعدات الإنسانية، إذلال المحتجزين وإهانتهم، غياب الشفاعة للمرأة والطفل والمسنّ والمريض والمصاب، كلها، إجراءات تندرج في إطار العقل الأمني الخالص الذي يبدو متشابها في كل موقع، من طهران إلى الضفة الغربية إلى دمشق إلى كوريا الشمالية إلى الجمهوريات السوفييتية سابقا.
إنها عقلية تستدعي أشدّ مناهضة ممكنة لكنها عقلية خطرة لا يجوز الاستهانة فيما يُمكن أن تُلحقه من أذى بالثورة وناسها وبالمجتمع وموارد البلد وتاريخه. نقول هذا مع استبعادنا حصول تحرّك دولي فاعل ضد موجة التقتيل الحاصلة للمعارضين المطالبين بالحريات والكرامات سوى إعلان نوايا وتدابير لا توقف هذا القمع ولا العقوبات الجماعية ولا محاولات السحق الصارمة التي تطال مدنا بريفها ومناطق بناسها. وهو بالذات ما يجعلنا نتفهّم إحجام قطاعات عن السوريين عن المضيّ قدما في تحركها ضد نظام صادر من الناس أعز ما تملك. فما صدر من مواقف دولية، لا سيما أمريكية وأوروبية، لا يتناسب هول التقتيل الحاصل. صحيح أن القانون الدولي واعتباراته، كذلك العلاقات الدولية وما تعنيه من مصالح وقوى متصالحة متصارعة، قد تشكلان عوائق أمام تدخّل دولي يردع النظام ويحمي المواطنين، ومع هذا فإن المحكمة الجنائية الدولية وميثاقها قد يُشكّلان منفذا لاستقدام ضغط رادع على النظام من خلال مؤسسات المجتمع الدولي السورية أو الدولية.
ينصّ ميثاق المحكمة على إمكانية المقاضاة أمامها في حال ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة شعب أو أعمال عدوانية ضد السكان المدنيين. يشمل البند الأخير، رغم سعته النسبية وعدم وضوحه في الميثاق، قتل المدنيين أو العقاب الجماعي ضدهم أو التنكيل بهم. وهو ما يقوم به النظام السوري الآن. أما المقاضاة أمام المحكمة فقد يتمّ بثلاثة طُرق، من خلال توجه مجلس الأمن إلى المحكمة أو بواسطة دولة وقّعت على ميثاق المحكمة أو بالتوجّه المباشر للمدّعي نفسه، وهنا جهات حقوقية أو مواطنين سوريين.
تنصّ بنود الميثاق على أن المقاضاة أمام المحكمة هي مقاضاة استكمالية تتم إذا رفضت الدولة المعنية العضوة في الميثاق أو امتنعت مقاضاة المتهمين فيها بالجرائم المذكورة. ومع هذا، فإنه بالإمكان مقاضاة مسؤولين سياسيين وأمنيين في الدول التي لم توقّع على ميثاق المحكمة كسورية في حال تواجدوا خارج بلدهم. ويُشار في هذا السياق إلى حقيقة أن لا حصانة وفق الميثاق لأي مسؤول أمنيا كان أو سياسيا في أي دولة كانت. وهو ما يفتح الباب لإمكانية مقاضاة كل من يقف في رأس هرم النظام السوري وصولا إلى عناصر الأمن وquot;الشبيحةquot; في الميدان الذين يقتلون ويحاصرون ويعاقبون قرى وأريافا ومدنا.
إنها آلية أربكت إسرائيل وحالت دون سفر ضباط في جيشها إلى الخارج خشية صدور مذكرات اعتقال ضدهم لا سيما في الدول الأوروبية. وهي آلية جديرة بأن تجرّب في الحالة السورية ولو لغرض ردع النظام وأمنه من التمادي في التقتيل والعدوان على المدنيين. ويبدو أنه انفتحت بينهم وبين النظام هوة سحيقة يحاول النظام ردمها بقوة الحديد والنار واحتلال المدن والأرياف وتطبيق مناهجه الأمنية القمعية على جثث الضحايا وكرامات الناس. إن القانون الدولي على مؤسساته واضح وصريح ومعمول به عندما تحتل دولة مناطق من دولة أخرى أو شعب آخر، لكن القانون نفسه ومؤسساته ترتبك حيال احتلال النظام الأمني لشعبه وأراضيه! هنا، تتعثّر أدوات هذا القانون وهذه الأعراف، وتتلعثم دول ومنظمات لأنها حالة استثنائية. أما مفتاحها فهو المزيد من إصرار الشعب السوري على العيش موفور الكرامة وتطوير تقنيات المواجهة وآليات الثورة من أجل الحريات. وفي لحظات من التاريخ يختار الشعب حريته لا quot;راحتهquot; وكرامته لا سلامته!
[email protected]
التعليقات