عجيب هو أمر الكاتب محمد حسنين هيكل الذي لا يتردد في الإدلاء بدلوه في جميع قضايا بلاده والعرب والعالَم وكأنه العالِم الأوحد بكل بواطن الأمور. عجيب أمر الرجل، الذي يطلق عليه حوارييه لقب quot;الأستاذquot; في إشارة لكونه الصحفي الذي يتعلم منه جميع العاملين ببلاط صاحبة الجلالة، فهو ابتعد عن السلطة قبل نحو أربعة عقود ولكنه ما زال يتحدث كما لو كان المُمسِك الأوحد بكل خيوط الأمور. لا يتوقف هيكل عن الحديث عن كل ما يعرفه والكثير مما لا يعرفه، وحين تستمع إليه أو تقرأ له تجده يكرس كل مواهبه الصحفية الكبيرة للتحدث أو الكتابة بلغة الإنسان الواثق تماماً من معلوماته، والصحفي الذي يمتلك أدلة دامغة على ما يقول أو يكتب. واكتسب هيكل عبر المعلومات الغزيرة التي يملأ بها أحاديثه ومقالاته ثقة الملايين في السنوات الستين الماضية. ولكن بالأمس تأكد أن خريف هيكل قد بدأ وأن الرجل الذي أمسى ربما لن يكون نفسه الرجل الذي سيصبح.

أدلى هيكل مؤخراً بتصريحات لجريدة الأهرام القاهرية نشرتها في عدة حلقات خلال مايو الجاري تحدث فيها عن الكثير من الأمور مثل ثورة يناير وفساد نظام الرئيس السابق حسني مبارك وعملية اغتيال أسامة بن لادن (وصفها بدقة ربما لا يقدر عليها إلا منفذي العملية) والاتهامات التي طالت أحد أنجاله وغيرها. الأهم في حديث هيكل جاء في معرض حديثه عن ثروة مبارك. قال هيكل quot; لقد كان هناك فساد واستغلال كبير في عهد مبارك، ولكن علي كل من يقذف بالأرقام أن يراجعها أولا بالعقل والمنطق قبل القياس والحساب!! لابد من تحقيق في كل ما جرى ولابد من مسئولية ومسئولين. لابد من حساب، لكن كل حساب له قواعد!! وإذا كان هناك من يريد أن يتحدث عن ثروة مبارك في الخارج فأنا لا أقتنع إلا بمعلومات موثقة من مصادر دورية محترمة.quot; حديث هيكل حتى الأن موزون ويدل على حنكة صحفي مخضرم.

قبل أن ينتهي هيكل من حديثه عن ثروة مبارك فجر مفاجأة كبيرة حين أضاف quot;وفي الأرقام التي قرأتها بنفسي تقريران: تقرير بمعلومات متوافرة لدي البنك الدولي وهي متوافقة مع تقارير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهي تتحدث عن هذه الأموال الموجودة في الخارج وتقدرها فيما بين 9 إلى 11 مليار دولار وهذا في حد ذاته رقم مهول. ثم وطبقا لتقارير اتحاد البنوك السويسرية والحكومة السويسرية فإن هناك حسابات لـ 9 أشخاص من عائلة مبارك موجودة في بنوك سويسرا مقدارها 512 مليون فرنك سويسري أي ثلاثة أرباع مليار دولار ولقد تأكد هذا الرقم رسميا تقريبا لأن الوفد السويسري الذي زار مصر أخيرا لإبلاغها حسابات أسرة مبارك في سويسرا أشار إلي ذات الرقم وأبدي الاستعداد لإعادته إلي الحكومة المصرية فور صدور حكم قضائي مصري.quot; (ملحوظة للكاتب: الرقم الصحيح الذي ربطته سويسرا بشخصيات مقربة من مبارك هو 410 مليون فرنك، أي ما يعادل نحو 465 مليون دولار.)

أثارت التصريحات ضجة واسعة في الشارع المصري. لم تكن تصريحات هيكل بشأن ثروة مبارك لتثير أية ضجة لو كان قائلها شخصاً أخراً، لكن الغالبية العظمى في مصر والعالم العربي يتعاملون مع أية تصريحات لهيكل على أنها كلام quot;مقدسquot; يجب تصديقها وعدم التشكيك فيها أو مساءلته بشأنها. سكبت تصريحات هيكل المزيد من الوقود على النار المشتعلة في صدور المصريين بسبب ما يقرأونه عن الثروات الهائلة التي يقال أن مبارك جمعها خلال سنوات رئاسته الثلاثين. ولم يكن الشارع المصري فقط هو من اهتم بتصريحات هيكل، ولكن الأجهزة الرقابية المنوط بها التحقيق في قضايا الكسب غير المشروع التي يتم بشأنها التحقيق مع الرئيس السابق إهتمت أيضاً بالتصريحات ظانة أنها عثرت على الدليل القاطع على إدانة مبارك.

على الفور استدعى رئيس جهاز الكسب غير المشروع المستشار عاصم الجوهري الكاتب محمد حسنين هيكل معتقداً أنه سيحصل منه على الوثائق التي تؤكد ثروة مبارك غير المشروعة بالبنوك الخارجية. غير أن المستشار عاصم الجوهري فوجيء بأن هيكل لا يمتلك وثائق وإنما يعتمد في كل اتهاماته لمبارك على ما تتداوله الصحف الدولية. لم يكن أمام رئيس جهاز الكسب غير المشروع سوى أن يصدر بياناً يؤكد فيه أن إطلاق أرقام جزافية بشأن ثروة مبارك من شأنه أن يشيع لدى الرأي العام أرقاماً تؤخذ على أنها حقائق رغم أنها أوهام تثير الفوضى في المجتمع. وطالب رئيس الجهاز الجميع أن يضعوا مصر وظروفها التي تمر بها نصب أعينهم، وأن يتقدم كل من يمتلك أي معلومات أو وثائق الى جهات التحقيق، مناشداً في الوقت نفسه وسائل الإعلام بعدم الوقوع في غواية الرأي العام بناءً على ظن لا يغني عن الحق شيئاً.

المثير أنه في الوقت الذي روج فيه هيكل لشائعات بخصوص ثروة مبارك فإنه عتب في نفس حديثه لجريدة الأهرام على وسائل الإعلام السقوط في فخ نشر فضائح وأخبار غير دقيقة. وقال هيكل أنه يتمنى أن quot;تلتقي كل العناصر المسئولة في الصحافة المصرية والإعلام، وأن تضع ما يمكن أن تسميه مدونة سلوك لقواعد التصرف Code of Conduct ترعاه بنفسها....... فليس معقولا بعد أكثر من مائة يوم علي الثورة أن نجد بعض ما نراه علي صفحاتها...... لم تعد هناك أخبار كثيرة ولكن هناك فضائح أكثر، ولم تعد هناك حقائق وإنما قصص لإثارة الرعب، هناك أشياء غير ذلك، وبعض ما نشر يصعب قبوله، فهناك مبالغات لا أظن أنها تليق.quot;

ولام هيكل الصحافة المصرية لنشرها أرقام، مبالغ فيها، قالت أنها تعود لمبارك. وقال هيكل quot;يقال لنا مثلا وقد قرأتها بنفسي في أوراق مقدمه لجهات رسمية، ومنشورة في الصحف أن حسني مبارك له وديعة في بنك اسمه كاليدونيا تبلغ قيمتها 820 مليار دولار، والمليارات ليست لعبة، وليست بهذا الحجم، وإذا تذكرنا أن أغني أغنياء العالم وهما اثنان: جيتس في أمريكا وكارلوس في البرازيل تبلغ ثروة كل واحد منهما ما بين50 إلي 60 مليار دولار، إذن لعرفنا أن رقم 820 مليار يصعب تصديقه، دعني أذكرك أن الدخل القومي المصري كله يبلغ 220 مليار دولار في السنة، فهل يعقل أن مبارك حصل علي الدخل القومي كله بكل شيء فيه لمدة 4 سنوات ووضعه كله في وديعة واحدة في بنك واحد؟!! ثم ماذا عن بقية الودائع وبقية الثروات في البنوك وغير البنوك؟!!quot;

حديث هيكل متناقض، كما نرى، فهو انتقد الصحافة بنشر أخبار غير دقيقة، ثم قام الرجل بنفسه للترويج لأخبار عاد ونفى أمام جهاز الكسب المشروع أن تكون موثقة. مما لا شك فيه أن ضعف موقف تصريحات هيكل لا يعني براءة مبارك من قضايا الفساد بقدر ما يعني أن مصداقية هيكل الصحفية التي وضعتها الملايين باستمرار فوق كل الشبهات صارت محل شك. لا يمكن لأحد أن ينكر على هيكل مواهبه الصحفية الفذة، علينا الاعتراف بهذا حتى وإن كنا نختلف جملة وتفصيلاً مع ما يقوله الرجل أو يكتبه. يكفي للتدليل على قدرات هيكل الصحفية نجاحه في تحويل جمال عبد الناصر من دكتاتور ومتسلط وقامع لشعبه ومؤسس لنظام مستبد غير شرعي ومستنفذ لإمكانات بلده إلى ولّي أو قديس تنحني أمامه الجماهير. وإذا كان الاعتراف بموهبة هيكل الصحفية حق للرجل، فإنه من المؤكد أن خريف الرجل قد بدأ بعدما ثبتت وهمية تصريحاته. ولعل خريف هيكل يتبعه ربيع صحافة مغايرة.

[email protected]