لا توجد دولة تحترم نفسها، لا في أوربا ولا في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، ولا في آسيا، ولا في مجاهل أفريقيا، ولا في عطارد والمريخ، ترضى لكرامتها وهيبتها وأساس وجودها أن تقوم إحدى المليشيات بالاستعراض العسكري العلني في عاصمتها، بحرية كاملة، وبحماية جيش الدولة الرسمي وقوات أمنها وحكومة (شراكتها) الوطنية، وبحضور ممثلين عن أغلب الأحزاب المشاركة في السلطة.

ولا يقلل من تطاول هذه المليشيا على الدولة أن تتستر استعراضها الغوغائي الممجوج بشعارات وهتافات وطنية براقة من نوع ( كلا كلا يا أميركا) أو (كلا كلا يا ظالم) أو (نعم نعم للعراق). خصوصا وأن تاريخ هذه المليشيا أسود ومتخم بجرائم تراوحت بين القتل والتهجير على الهوية وبين السطو والاغتصاب والاختطاف واحتلال الوزارات والمحافظات، ومصادرة حريات المواطنين وحقوقهم وإرهابهم وتهديدهم بقوة السلاح. وقد أدان القضاء العراقي عددا من أفرادها. وما زال زعيمها مقتددى نفسُه مطلوبا للعدالة بتهمة القتل العمد للسيد عبد المجيد الخوئي قبل ثماني سنوات.

بل بالعكس. إن مطالبة جيش المهدي بخروج قوات الاحتلال الأمريكي من العراق تدينه ولا تبرؤه أمام الحكومة والجماهير.

فالمعروف أن له أربعين نائبا تحت قبة البرلمان، يستطيعون، بسهولة، فرض ما يريدون، وإقرار ما يشاؤون، بقوتهم وقوة حلفائهم نواب المجلس الأعلى وحزب الدعوة ومنظمة بدر والفضيلة وجماعة الجعفري وأتباع أحمد الجلبي وغيرهم. فهم أصحاب الحول والطول في البرلمان والحكومة، وهم الأقرب إلى رئيس الوزارء ونوابه، والأحبُّ على قلبه، منذ أن نصبوه وزكوه وفرضوه على البلاد والعباد.

وتفرض العملية السياسية التي هلكونا ودوخونا بالتغني بأمجادها أن يَعرِض كلُ طرف رأيه، بحرية، في أية قضية، صغيرة ً كانت أو كبيرة، مصيرية تمس حاضر الوطن ومستقبل أهله، أو حقيرة تتعلق بمشكلة المجاري الآسنة في مدينة أو في دربونة في محلة، فيستجوب وزيرا واحدا أو حكومة كاملة له فيها هو أيضا أكثرُ من وزير. ثم إذا لم تعجبه نتائج الحوارات داخل البرلمان، وفشل في إقناع شركائه في حكومة (المائدة المستديرة) بوجهة نظره في تلك المسألة يستطيع أن يختار الانسحاب من الحكومة أو البرلمان أو من كليهما، ويتحول إلى المعارضة، ويبقى في حدود القوانين وأحكام الدستور التي تمنع منعا باتا أن يوجد جيش في الدولة غيرُ جيشها، وسلاحٌ غيرُ سلاحها.

ولكنْ لإيران أهدافٌ أخرى من تسيير مثل هذا الاستعراضات العسكرية البعيدة كل البعد عن مصالح الوطن العراقي وقضاياه المصيرية العليا. فهي قد اعتادت على تطيير مثل هذه البالونات الاختبارية، واحتكار حق إنشاء الجيوش المرادفة لجيوش الدول، ودفعها إلى تنظيم المسيرات العسكرية العلنية، لتحدي الدولة أولا، ولإثبات قوة نفوذ وليِّها الفقيه ثانيا، وثالثا، لإيصال رسائل سياسية لئيمة وخبيثة إلى من تريد من أعدائها وخصومها العراقيين والعرب، قبل غيرهم، لا تنطلي على أحد، لا من حلفائها ولا من خصوم وجودها الاحتلالي البغيض.

وبالنتيجة فإن هدف هذا المسيرات العسكرية الاستعراضية واضح وبيِّن، وهو جعلُ تلك الجيوش دُولا داخل دول، وحكومات داخل حكومات، وفرضُ قادتها ملوكا على الملوك، ورؤساء على الرؤساء، وتحويل الوطن إلى حارة من حارات غوار الطوشة، (كلمن أيده ألو)، بفضل الديمقراطية التي يصر الاحتلال الأمريكي على المفاخرة بها دون حياء.

أمر آخر. إن مقتدى حين أصدر أمره لجيشه بحرق أعلام أمريكا وإسرائيل والمطالبة بخروج القوات الأمريكية المحتلة من العراق، لا يجعل من سلوكه هذا وطنية ولا جهادا ولا هم يحزنون، مهما حاول البعض تجميله وتبريره وتلوينه وتسويقه. وذلك لأن أمرا استراتيجيا خطيرا من هذا النوع يتعلق بمصير الدولة العراقية وأمنها ومستقبلها لا يمكن مناقشته بهذه الاستعراضات الغوغائية الدعائية العابثة، بل يتطلب حوارا وطنيا جادا هادئا وعقلانيا، يتدارس فيه خبراءُ السياسة والأمن والاقتصاد والشؤون العسكرية، على أعلى المستويات، من الحكومة ومن خارجها كالجامعات والمؤسسات الثقافية والسياسية المستقلة، جميعَ جوانبه القانونية والسياسية والديبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية، وانعكاساته المحلية َوالإقليمية والدولية، ثم يُصار بعد ذلك إلى اتخاذ القرار النهائي الحاسم والحازم بشأنه، ولكن بإجماع وطني عام لا غبار عليه.

ومسألة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى. فحين يجيز مقتدى لنفسه تأسيس جيش، وتسييرَه في الشوارع والميادين على مسمع ومرأى حكومة المحاصصة، ومنهم رئيس الجمهورية ونوابه، ورئيس الحكومة ونوابه، والوزراء والنواب، وقادة الكتل ورؤساء الأحزاب والتنظيمات المشاركة في السلطة، فهو يسجل سابقة ربما تستغلها جيوش (مجاهدة) أخرى تتستر، مثلَه، بالمقاومة وبالإسلام وبالجهاد والدفاع عن الأمة والوطن ضد جيوش الاحتلال، فتخرج إلى العلن، كلٌ في إمارتها المستقلة، لتدوس أحذية ُ فرسانها، مثلما داست أحذية ُ مجاهدي جيش المهدي، على كرامة الدولة وعلى رقاب مواطنيها، لتشتعل من جديد حرائقُ طائفية ٌ وقومية ودينية ذاق الوطن والمواطن مرارة أيامها السود الغابرة ولا يريد المزيد.

فلا يفعل جيش المهدي، بإعلانه الجهاد ضد قوات الاحتلال إلا ما دأب البعثيون الصداميون وإرهابيو القاعدة على فعله منذ سقوط نظام الديكتاتور إلى اليوم. فالذي ُتلحقه جيوش المقاومة السنية المتزمتة بالعراق والعراقيين أضعافُ ما تصيب به الاحتلال والمحتلين. فكل مفخخاتها وهجماتها وحرائق متفجراتها لا تصل إلى جيش الاحتلال إلا في أضيق الحدود، لكنها قتلت وما زالت تقتل العشرات والمئات، وربما الآلاف، من العراقيين في منازلهم وأسواقهم ومساجدهم وحسينياتهم ومستشفياتهم، باسم الإسلام والوطنية وهما بريئان منها ومن أفعالها وأهدافها المشينة.

وإذا كان حسن نصر الله قد اعتاد على استعراض جيوش حزب الله في وسط بيروت والضاحية وصيدا وطرابلس، كلما أراد هو أو وليُهُ الفقيه أو ظهيره اللدود نظام البعث السوري، خلطَ الأوراق اللبنانية الداخلية أو الخارجية، وإهانة الدولة، وإرهابَ أهلها، فإن على العراقيين أن ينظروا إلى لبنان كيف تحول إلى دولة فاشلة معطلة بدون حكومة ولا كرامة ولا هيبة، خرقة رخيصة لا تضر ولا تنفع، بفضل جيوش المجاهدين وكرم الولي الفقيه، ومن قلة الخيل، والعياذ بالله.