عندما كنا صغارا كانت تتواتر أحيانا إلى مسامعنا تنبؤات عن عودة المسيح. كانت جداتنا تحدثنا أنه سينزل إلى الجامع الأموي، وأنهم يضعون له في كل جمعة في مكان ما داخل مأذنة الأموي خفين ليلبسهما حين يهبط إلينا من السماء ليمشي بيننا. كنت أرى القصة مدهشة رائعة تداعب خيالي الطفولي بأبعادها الأسطورية الخلابة والروحانية.
لم أتوقع في حياتي أن أعيش لحظات تجعلني أعيش هذه القصة بشكل واقعي. لم أتوقع أن يصبح خيالنا الروحاني تجسدا لقيم المسيح في اللاعنف والسلام عند شعب بأكمله. لم أتوقع أن أعيش لأرى المسيح يمشي بيننا، لأني الآن عندما أرى تضحيات الشعب السوري، وأرى شبابه مضرجين بدماء حمراء طاهرة، وأطفاله معذبون، وأستاذ سلخ جلد ساقه تملأ عيني الدموع. أشعر أن المسيح قام وعاد ليمشي بيننا نحن السوريين، وفي كل يوم يهينه، ويعذبه، ويقتله نظام البعث على صليب الحرية. نعم لقد تجلت روح المسيح في كل شاب، في كل امرأة في كل طفل خرج ليهتف بالحرية والسلمية. عاد المسيح فعلا في يوم جمعة، وكانت أول صرخة له من الجامع الأموي حين حمل الشبان صور الهلال والصليب داخل المسجد. هذا هو جمال الثورة السورية. كانت بدايتها في الجامع الأموي، وكان أول شعار ارتفع يتعانق فيه الهلال مع الصليب. أي أن المكتوب يقرأ من عنوانه.
ولكن مئات المتظاهرين حبسوا هناك وضربوا وأهينوا. ثم قتلوا ودفنوا في مذابج جماعية، وسجنوا وعذبوا وصعقوا بالكهرباء، وأهينت طفولته ومثل باجسدهم وما يزالوا يقولون سلمية، سلمية. ورغم أن المسيحفي لحظات يقول إلهى لم سبتني (لم تركتني) ما يزال يقول على صليبه يا رب اغفر لهم فإنهم لا يعرفون ما يفعلون. وربما ليس غريبا إذن أن يكون بلال بن رباح، العبد الحبشي الذي كانت قريش تعذبه تحت الصخرة وهو يقول أحد أحد مدفونا في داريا. داريا التي لم تتوقف عن رفع شعارات اللاعنف، quot;سلمية، سلمية ولو قتلتم كل يوم مية!quot; داريا التي قدمت الشهداء وأعيد لها أحد أبناءها قبل أيام ميتا تحت التعذيب. ودوما التي رفعت آية quot;لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلكquot; شعارا عريضا لها. وقصص أخرى وشعارات سلمية كثيرة. نعم، في سوريا تعانقت قيم المسيحية بالإسلام لتنتج لنا مولودا صغيرا يشع نورا وتفاؤلا، وينطق في المهد ليبشرنا بعهد جديد لا نتحاكم فيه بعدها إلى الرصاص أبدا، ابدا، بل نتحاكم إلى العقل والكلمة.
إن الشعوب تستبطن كثيرا من ثمار ثقافتها بقصصها الروحية كما تستبطن بذرة التفاح ثمار صيف طازج. ما يحدث في سوريا الآن يثبت أن ثقافة اللاعنف بدأت تؤتي أكلها، وها نحن نراها تنضج. كان البذور قبل نصف قرن عندما كتب خالي جودت سعيد كتابه، مذهب ابن آدم الأول، والذي يدعو فيه إلى اللاعنف وكف اليد. ولذا فإن ثقافة اللاعنف في سوريا هي ليست وليدة اللحظة أو ارتكاسا لثورات المنطقة وإن تأثرت بها ودعمت بها، ولكن فكرة اللاعنف السورية نبتت قبل نصف قرن في تراب سوري.
وربما ليس من قبيل الصدفة أن المكان الوحيد الذي ما يزال ينطق بلغة المسيح الأصلية يتحول الآن إلى أرض تزهر بلغة المسيح المفاهيمية لتعيد للإسلام صلته الحميمة بقيم اللاعنف والسلام التي تأسس الإسلام عليها أيضا. كنا قد نسينا بلالا وعمارا وياسرا ونسينا أن أول شهيدة في الإسلام كانت سمية بنت الخياط، إمرأة عبدة قُتلت بحربة أبو جهل تحت التعذيب عندما طعنها في عورتها. كنا نسينا أن الإسلام كان أسس على أجساد المساكين والعبيد والأطفال والنساء، ولقرون بعد أن أعادها الأمويون هرقلية كنا سكارى بذكريات فرسان السيف وثقافة الانتصار التي غنت لوقت طويل بأن السيف أصدق أنباءا من الكتب.
ولكننا نرى الآن صبر شعب وهو يرى حمزة وقد قطع برعم رجولة لم تتفتح بعد كما فعل أبو جهل بسمية عندما قرر أن يقتلها بتلك الطريقة، لأن أعداء الحياة دائما يهينون مصدر الحياة ويقتصون من مصدر الحياة حتى في جسد الإنسان الغض. وفي صبره العميق وأنينه الحزين فإن الشعب السوري أقرب الآن إلى نصيحة السيد المسيح الذي قال للحوراي، أعد السيف إلى غمده، فمن أخذ بالسيف بالسيف يهلك. لقد صمم السوري أن يكسر لعبة السيف العربية العسكرية التي دامت قرونا ويخرج إلى نور السلام وهو عازم ألا يأخذ بالسيف. وعلينا دعمه والوقوف بجانبه أمام تضحياته الهائلة. وهو قد نجح إلى الآن في امتحانات هائلة يشيب لها الوالدن في أقيبة المخابرات. وكلما خفنا على مسيرته السلمية بسبب القتل والقمع فاجأنا هذا الشعب، وبهرنا بالتزامه الأخلاقي أمام بطش نظام أبى إلا أن يمثل دور الدجال الأعور لتكمتل قصص تشربانها في طفولتنا. فكما تستبطن الثقافة ثمار نضجها كذلك تستبطن تحذيرات ضمنية لأخطار تحدق بها. وقصة الدجال الأعور هي تجلي للتخوف من احتكار الحقيقة واختزالها في أحاديات عوراء وأفراد ينصبون أنفسهم أربابا على الآخرين. فكل من يدعي أن نظرته هي الوحيدة في الدنيا ويفرض الموت على معارضيه مدعيا أنه هو مالك الدنيا وواهب الحياة والعفو، سواء كان من زاوية دينية أو علمانية فإنه قد مثل نموذج الدجال الأعور الذي تحذرنا منه ثقافاتنا من قرون. بل تحذرنا بأننا قد لا نتعرف عليه، وبأننا قد نضيع في دجله وتمويهاته. إنها عبقرية الشعوب التي في لاوعيها وقصصها الساحرة تستبطن نضجها وكذلك كرياتها البيضاء لخلق مناعة ضد الجراثيم الثقافية القاتلة، لأن أي فكر أحادي بعين واحدة يقتل إبداع وتنوع وحيوية أي مجتمع.
عندما أرى يقظة الشعب السوري، وانضباطه الأخلاقي يزداد إيماني بأنه سيكون شعبا قادرا على تجاوز الأزمات القادمة. فمن يقف أعزلا أمام الدبابات، ويخرج أفواجا أمام رصاص القناصة وهراوات الأمن الكهربائية يجعلني أؤمن بأنه سيكون أيضا محصنا ضد حرب أهلية وضد أحقاد طائفية. إننا اليوم أمام شعب بدأ بتصمميه ولاعنفه وسلميته يبهر ليس فقط المنطقة بل العالم كله.
أشعر أن كلماتي تقف في حياء أمام تضحيات الشعب السوري في مسيرته البطولية نحو التحرر والحرية. وما حدث في حماة الآن يجعلنا ندرك أن النظام السوري يرفض أن يسقط بدون أن يعري نفسه ويعيد استعراض جرائمه كلها. حتى وإن نسيناها فهو يريد أن يذكرنا ويقدم نفسه لبقية العالم عاريا من كل إنسانية حتى لا يتركنا إلا وقد وصم نفسه في كتب التاريخ. ولذلك عندما أرى الانضباط السوري والتمسك باللاعنف بعد أسابيع من التشنيع أقف بصمت مهيب يجعلني أريد الانحناء أمامه بخشوع. ماذا يسعني أن أقول أمام معجزة سياسية اجتماعية بهذا المستوى؟ أجدني سعيدة بالمصطلح الجميل الذي أطلقه الأستاذ القدير برهان غليون على هذا الشعب الأبي حين سماه بالشعب الأسطوري. فعلا إن قدرة الشعب السوري على التمسك الصارم والعجيب بالسلمية وباللاعنف في وجه آلة القتل تذكرنا بملاحم أبطال انتصروا على مخلوقات التنين الأسطورية. يجعلنا ندرك أن قصة المسيح ليست تكهنات أسطورية، بل حقيقة تمشي بيننا. هذا الشعب الأسطوري والذي قدم أول أبجدية للبشرية عندما اخترع الكتابة المسمارية صار الآن مؤهلا أن يقدم أبجدية جديدة في التغيير السلمي لبقية العالم. شعب بجسده الغض يصنع الشرعية في أجواء اللاشرعية. يؤسس لمجتمع الأخلاق أمام عصابات اللا أخلاق. صبرا آل سوريا فإن موعدكم الحرية. اصبروا وصابروا ورابطوا ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون.
أعرف أن رجال الدجال سيتصدون لمقالتي ليدافعوا عن عبوديتهم لسيدهم ونظامهم بنظرة أحادية، ولكن لن يتمكن أحد من نزع انبهاري أمام الشعب السوري. وسأعمل ما بوسعي لأني أريد أن أنظر إلى عيون مواطنيّ بلدي عندما أخرج من مطار دمشق قريبا. أريد أن أكون قادرة على رفع عينيّ في وجوهم الرائعة والتي تمثل الملحمة التي تجاوزت الموت. الشعب السوري هو داعية السلام الذي يمشي على طريق الأنبياء والمصلحين والآمرين بالقسط. لقد استيقظ من قبر دام ظلامه ورطوبته واحدا وأربعين عاما، وها هو قد قام ليمشي بيننا رافعا يده بالسلمية داعيا إلى السلام والعدل والمحبة. هذه هي ملحمة الشعب الأسطوري. الشعب السوري الأبي.
التعليقات