لا يبدو أن بثينة كامل مصر بعيدة بنمط تفكيرها عن بثينة شعبان سوريا، كلتاهما اشتركتا في الاسم، كما تشاركتا، على ما يبدو، في الأوهام. إلا أن شعبان السورية تتحدث عن quot;استهداف سوريا المقاومةquot; وعن quot;مندسينquot; لتحمي نظاماً قائماً بالفعل، لكن كامل المصرية تتحدث عن quot;استعمار سلفيquot;، وعن quot;مخاطر رجعيةquot;، وquot;تدخلات دول الجوار للقضاء على الثورة المصريةquot; لتقيم نظاماً على الأوهام. وإن كنّا نرى لبثينة شعبان الحق في كونها غريق يتعلق بقشة، حتى وإن كانت قشة تشبه كثيراً بؤس النظام الذي تدافع عنه، إلا أننا لا يمكن أن نفهم سرّ تعلق بثينة كامل بقشة كونها نجتْ من الغرق منذ أشهر طوال. الحق أن كثيرين من شعب مصر الذين يحترفون السياسة الآن، بكافة طوائفهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم ومستوياتهم المعيشية، يتشبثون بهذه القشة لعدم ثبوت وجود أي شيء في quot;برّ مصرquot; سواها، أي سوى quot;قشّةquot; اللطم السياسي المتواصل لسدّ فراغ تركه مبارك بعد ثلاثين عاماً من الحكم، وهو الحكم الذي نجح، إلى حدّ بعيد، في إفراغ مصر من أي برنامج سياسي معارض، كما أورثهم quot;دستوراًquot; مرقعاً فشل المصريون في كتابة دستور جديد كبديل له ليضمن لهم الخطوة الأولى لتصحيح الأوضاع في المحروسة، مكتفين بترقيعه على الطريقة المباركية التي لم يخرجوا من سطوتها على عدة أصعدة حتى الآن!.
نعم، بثينة شعبان سوريا تدافع عن نظام في طريقه للزوال، إذن فهي أهون بكثير من بثينة كامل التي خرجت علينا في قناة quot;فرانس24quot; لتتحدث عن استعمار سلفي لمصر، وعن العمل المتواصل لدول quot;الجوار الخليجيةquot; على إفشال ثورة مصر. وهذا التعبير: quot;دول الجوار الخليجيةquot; ورد نصاً على لسان مرشحة الرئاسة المصرية السيدة كامل، كما وردت العديد من الجمل والعبارات والمصطلحات التي تحتاج إلى quot;تحليل محتوىquot; لرصد خطابها السياسي ومعرفة تراكيبه وفرز الحقيقي منه عن المتوهم، فجملة كجملة quot;كان بعض السلفيين معنا منذ اليوم الأول للثورة في ميدان التحريرquot; تحتاج لمراجعة، إذ تبدو مليئة بادعاء معرفة تفاصيل ثورة نبتت على أيدي شباب هم أبعد ما يكون عن عديد ممن يحاولون اختطافها الآن. على كل حال، جاء اللقاء مليئا بالعويل غير المبرر، فكون دول المنطقة، أو حتى quot;دول الجوار الخليجيةquot; بحسب كامل، تحاول حماية مصالحها في مصر ليس مهدداً للثورة المصرية إذا سلمنا جدلاً أن الثورة المصرية ذات أهداف محددة، وأن الثوار يمتلكون رؤية واضحة لمستقبل مصر.
يبدو أن لا وجود لأي برنامج سياسي للسيدة بثينة كامل، فقد خرجت للمناداة باستعادة أموال مصر التي تم تهريبها عن طريق السعودية ودبي للخارج، كما رددت ما يردده كل غافل حول محاكمة مبارك والأموال التي تُصرف من أموال مصر لعلاج مبارك، إلى غير ذلك من الحديث المكرور في الإعلام المصري، وهو الإعلام الذي ذكرتْ شعبان أنه لا يزال يدين لمبارك وينحاز إليه. كان كل ما ورد في اللقاء يدين السيدة المرشحة لرئاسة مصر، كما يشف عن أوجاع الثورة المصرية، والتي من أبرزها:
أولاً: انحراف الثورة المصرية عن بناء مستقبل مصر إلى لغة المحاكمات وتعليق المشانق والانتقام من العهد البائد ورموزه، وهو الصوت المصري الذي طغى إلى درجة أنه جعلنا نرى مصر ما بعد الثورة وكأنها سجن كبير ومشانق تطهير لرجالاتها قبل الثورة. مع العلم أن أي ثورة لكي تنجح فإنها مطالبة بالتسامح، إذ لا يمكن أن يثور ملايين المصريين للانتقام والتشفي فقط، بينما تتراجع مصر على مستوى الاقتصاد بدرجة قد تجعل كثيرين ممن هتفوا بسقوط مبارك يعودون للترحم على عهده الأكثر استقرارا من عهد ما بعد 25 يناير.
ثانياً: جعل مبارك، بصفته وشخصه، المسؤول الوحيد عما تم في مصر خلال ثلاثين سنة، وبالتالي تباري بعض التيارات السياسية في المطالبة بمحاكمته وشنقه (وهنا لا بد من هؤلاء أن يثقوا بالنظام القضائي المصري والمطالبة بمحاكمة مبارك، أو إعلان حكمهم النهائي بضرورة شنق مبارك بدون محاكمة، فليس من المنطقي المطالبة بالمحاكمة وإصدار الحكم في ذات الوقت). وأيضاً، وهذا ما يمكن ملاحظته على حديث السيدة بثينة عن الرئيس المخلوع، يبدو أن لا أحد في مصر يدرك معنى أن يكون حسني مبارك في الرابعة والثمانين من عمره!، ولإدراك ذلك يمكن للمصريين الرجوع إلى قصة حياة وحكم ونهاية الديكتاتور التشيلي quot;بينوشيهquot;، فالشعوب لا تطارد رجلاً تسعينياً بغرض التشفي، كما أن الأحزاب السياسية لا تتشدق بضرورة سلخ جلد الرئيس المخلوع لمجرد تحقيق مكاسب سياسية من خلال تغذية الأحقاد. فمبارك لم يفعل ما فعله بينوشيه بالشعب التشيلي، كما أنه لا يستحق أكثر من محاكمة مرحلته لمعرفة أين الخلل والاستفادة من معرفته لتجنبه مستقبلا.
ثالثاً: يبدو أن بعض المرشحين لرئاسة مصر، وبثينة كامل أبرزهم، ترشحوا لحكم شعبٍ هم لا يدركون عن طبيعته أكثر مما تبثه المسلسلات العربية من سيناريوهات وحوارات أبعد ما تكون عن واقع مصر. نعم، السيدة بثينة كامل تتحدث عن مصر هي لا تعرفها، كما أنها مرشحة لحكم شعب لا تدرك طبيعته. فعلى سبيل المثال ذكرت السيدة كامل أن السلفيين ينفذون أجندة خارجية داخل مصر، وهذا تخوين مبكر جداً لشعب مصر المنتمي لمصر أكثر من انتماء أهراماتها الراسخة. كما أن السيدة كامل، المرشحة لحكم شعب لا تعرفه، لم تطلع على دراسة معهد quot;جلوبquot; الأميركي التي نشرها عام 2009م عن الدول المتدينة في العالم، فمصر متدينه بنسبة 100%، بحسب الدراسة التي كانت نسبة الخطأ فيها لا تزيد عن 4% فقط. إذن، الشعب المصري هو أكثر شعوب العالم تديناً، ما يجعل حديث بثينة كامل عن السلفيين وعن الأجندات الخارجية التي تنفذها quot;دول الجوار الخليجيةquot; مجرد هراء لا يدل إلا على أمرين: الأول جهلها المريع بالشعب الذي تريد حكمه، والثاني إفلاس برنامجها السياسي إذا ما قورن بالتيارات والأحزاب الإسلامية ذات المصداقية والانتشار الواسع في جمهورية مصر العربية نظرا لطبيعة هذا الشعب المتدين ذي الغالبية المسلمة، وليس شرطاً بالنظر إلى جدوى البرامج السياسية لتلك الأحزاب. إذن، بثينة كامل تريد حكم شعب هي لا تعرفه، وعوضاً عن طرح برنامج سياسي واضح ومحدد فإنها تعيد اسطوانة مرحلة مبارك حول الإسلاميين والسلفيين، وإن كان مبارك نظر للإسلاميين في مصر على أنهم هم أبناء مصر وليسوا كائنات هبطت من الفضاء، أو أنهم يقومون بتنفيذ أجندة quot;استعمارquot; على حد وصف السيدة كامل.
رابعاً: يبدو أن حديث السيد رياض الترك عن ثوار سوريا بحاجة إلى أن يتم تداوله في مصر على نطاق واسع، فالترك يتبرأ، حتى قبل نجاح الثورة السورية بالكامل، من رغبته في السير أمام الثائرين من شعبه، بينما يتقافز مرشحو مصر للمزايدة على ثورة شباب مصر بدءا من موسى وليس انتهاء بالسيدة كامل بكل تأكيد. كل هذا القفز يأتي ببرامج سياسية quot;صوتيةquot; لا أكثر، وبجهل باحتياجات مصر الآن ومستقبلا، وبرغبة كاملة في حصر ثورة مصر في ضرورة تطهير المؤسسات الرسمية من بقايا نظام دام لأكثر من ثلاثين عاما، ما يعني أن فوز السيدة كامل برئاسة مصر سيلقي بملايين المصريين في البحر.
وأخيراً، الحوار التلفزيوني لمرشحة الرئاسة المصرية quot;بثينة كاملquot;، والذي بثته القناة الفرنسية مطلع هذا الشهر، يضع اليد على جروح الثورة المصرية التي كانت ناجحة في بدايتها، لكنها فقدت بريقها كثيراً على أيدي ساسة لا يمتلكون برامج سياسية لإنقاذ الثورة، كما لا يسعون لاستمالة الجماهير الناخبة إلا بالدعوة إلى تطهير مصر من بقايا النظام السابق والدعوة لمحاكمة وشنق مبارك، وكأن شنق مبارك سيحل مشاكل مصر التي لا أشك أنها ستتفاقم في وسط سياسي موبوء بالشوفينية وليس بالرغبة الحقيقية في بناء مصر جديدة ذات نظام سياسي واقتصادي فاعل. خرج مبارك من الحكم، لكن المصريين سيترحمون على عهده كثيراً إذا لم يسكتوا أصوات دعاة الانتقام ممن يرغبون في حكم مصر ببرامج اللطم السياسي والمزايدة على أهداف ثورة تلاشت، أو توشك..