الجلسة الثانية لمحاكمة الرئيس المصري المطرود حسني مبارك يفترض أن تعقد في الخامس عشر من هذا الشهر. وتتحدث وسائل إعلام عربية عن شائعات في مصر، يروجها محامي مبارك، حول تهديدات بالقتل تلقاها الطبيب الألماني المعالج لمبارك لمنعه من مواصلة علاجه لمبارك. وطبقا لأقوال المحامي أن واحدة من الرسائل خاطبت الطبيب الألماني بالقول quot;إن هناك من يستخدمك في أن تمكن مبارك من عدم الذهاب إلى المحكمة بحجة الحالة الصحية، وأن مبارك فعل الكثير ويجب أن يترك لمصيره وأن يدفع الثمن.quot;
ليس من الصعب أن نستنتج أن الهدف من ترويج شائعات كهذه هو، أظهار الرئيس السابق ك(ضحية) و (شهيد)، ما يزال، يتلقى الطعنات حتى وهو في أرذل العمر، ويحرم من حقه في العلاج حتى ومسجى على فراش الموت. ولا ننسى أن البعض سارع، منذ الأيام الأولى للثورة لإطلاق تسمية (بطل العبور) على الرئيس السابق، لإضفاء مزيد من الهيبة، وكمبرر لثني المصريين عن (أهانته)، أي محاكمته، (وهل من العدل أن تحاكم أمة أبطالها؟)
بالطبع، من الطبيعي أن يروج محامي الدفاع لهذه الشائعات، فهذا من صلب وظيفته، فهو مكلف بإيجاد أو خلق أي حجج يراها مناسبة، وتعينه على الدفاع عن موكله. ولكن التمعن في الطريقة التي قدم بها مبارك للمحاكمة في الجلسة الأولى يقود للاستنتاج أن، هي ذاتها، كانت محاولة لإظهار مبارك كشهيد وضحية. فبعد مطالبة شعبية لم تتوقف، اضطرت قيادة القوات المسلحة على تقديم مبارك للمحاكمة، لكن المشهد الذي ظهر فيه مبارك بدا أشبه بمشهد مسرحي تم أخراجه بعناية ليحقق غايات محددة : مبارك ظهر داخل القفص، ليس جالسا، وإنما مسجى على سرير الموت، لا يسمع ما يقال إلا بصعوبة، ولا يقوى حتى على الكلام. هل هذا مشهد بريء، وقابل للإقناع ؟ هل حقا أن مبارك لا يقوى، الآن، على الوقوف، أو أقله البقاء على كرسي، ولو لبضع دقائق، أي تلك التي تستغرقها تلاوة قرار الاتهام ؟ هل أن مبارك كان يقضي وقته داخل المستشفى، طوال الأشهر الستة الماضية، أي منذ لحظة إقصائه من الحكم، ممددا على سرير؟
نعرف جميعا أن مبارك شيخ طاعن في السن ويعاني من عدة أمراض، لكننا جميعا نتذكر كيف أن مبارك، قبل ستة أشهر، ستة أشهر لا أكثر، ظل يتحدى جميع الذين طالبوه بالتنحي، وأكد في واحد من خطاباته أنه quot;يتمسك بالنهوض بمسؤوليته حتى تسليم السلطة في سبتمبر/ أيلول (أي الشهر القادم)quot;، رغم أن مبارك هو مبارك نفسه: في الرابعة والثمانين، وكان قد عولج في ألمانيا من أمراض يعاني منها. لكن، وقتذاك، ما كان مبارك بحاجة لأن يتمارض، و ما كان يتعكز على عصا الشيخوخة، بل كان حريصا أن يظهر، عندما كان يلقي خطاباته quot;العقلانيةquot;، في أوج لياقته البدنية، وكامل قيافته. وكانت جميع أفعال مبارك السياسية، بما في ذلك خديعة إنزال الجيش إلى الشارع لغرض تبريد الانتفاضة وإفراغها من شحنتها، واحتوائها، تنم عن مراوغة ثعلبية، وقابلية ذهنية متوهجة. و لكن، عندما فشلت جميع محاولات مبارك في البقاء في الحكم، ونجح الشعب في خلعه، وحانت ساعة محاكمته أمسى مبارك، هكذا فجأة وبين ليلة وضحاها، المريض رقم واحد في مصر كلها، هو الذي كان في الصباح قبل سويعات ممتلئا بالحيوية والنشاط. ثم بدأت التقارير الطبية تصدر الواحد تلو الأخر، تسبقها وتعقبها إشاعات، وكلها تتحدث عن تدهور صحة مبارك.
كان واضحا، ومنذ اليوم الأول بعد الإطاحة بمبارك أن قيادة المؤسسة العسكرية لا ترغب في تقديمه أمام القضاء، ولو كانت راغبة حقا لأودعته السجن فور طرده، ولما أصرت على إيداعه واحد من أرقى المنتجعات الصحية التي لا يستطيع أن يدخله المواطن المصري الفقير، حتى في الحلم، وظل يحظى بمعاملة الرؤساء.
بعد استمرار التظاهرات الشعبية المطالبة بمحاكمة مبارك وجدت القيادة العسكرية نفسها أمام خيارين، إما الوقوف ضد أرادة الشعب، وبالتالي عزل نفسها نهائيا، أو الرضوخ لأرادته، فاضطرت لمحاكمة مبارك، لكنها قدمته في مشهد مسرحي (مؤثر).
يبدو أن الذين اعدوا وأخرجوا هذا العرض المسرحي أرادوا أن يقولوا للمطالبين بمحاكمة مبارك، بأن المسألة لا تكمن في عدم رغبة المجلس العسكري في محاكمة الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة السابق، فقيادة المجلس راغبة كل الرغبة، ولكن المسألة كلها هي، أن مبارك أصبح جثة، ومن العيب أن تحاكم جثة، مع ذلك ها نحن نبرأ ذمتنا، ونحاكمه ، نزولا عند رغبة الشعب. أرادوا، ثانية، وهم يقدمون هذا العرض المسرحي التراجيدي، أن يثيروا تعاطف الشارع المصري مع مبارك. ومن جهة أخرى، أرادوا إيصال رسالة، قد تكون شاركت في كتابتها، بشكل مباشر أو غير مباشر، أطراف غير مصرية، إلى الشعوب التي لم تتمرد بعد ضد حكامها في المنطقة، مفادها أن ما يحدث في العالم العربي هي ليست ثورات وإنما أفعال شغب همجية، غير أخلاقية، وغير إنسانية، وغير متحضرة، تنفذها مجاميع من رعاع، ليس عندهم غير مشاعر الحقد والانتقام، والدليل هو هذا الإصرار على محاكمة شيخ طاعن في السن قضى حياته في خدمة بلاده.
وسواء كان افتراضنا صحيحا أو لا، فأن ظهور مبارك أمام القضاء له دلالات رمزية كبرى. مثول الرئيس المصري السابق أمام المحكمة أرسى أسس مرحلة جديدة في العالم العربي، فحواها سيادة القانون، بعيدا عن الأحقاد الشخصية. فالرجل الذي شاهده الشعب، من خلل القضبان، ممددا على السرير داخل قفص الاتهام هو، ليس شخصا أسمه حسني مبارك، إنما هو النظام العربي الرسمي القديم الذي ما عاد يقوى على الحياة، بعد أن شاخ ووهن. الذين أصروا على محاكمة مبارك أرادوا أن يقولوا بأن المعركة الدائرة ليست ضد شخص مبارك فهو، فعلا، رجل طاعن في السن ويتوجب، رحمة به، إيداعه أحدى المصحات الصحية وربما العقلية. وحتى نجليه اللذان وقفا بجواره داخل القفص، لم يدخلا القفص لأنهما أبناء شخص أسمه مبارك، ولكن لأنهما أبناء الرئيس مبارك، أي لأنهما أبناء quot;النظام القديمquot;. وإلا، ما هي مؤهلات جمال مبارك حتى كاد يصبح الرجل الثاني في مصر، ومرشحا لخلافة والده ؟ لا شيء قط سوى أنه نجل الرئيس. وما هي مؤهلات السيدة سوزان مبارك حتى يطيعها الجميع في مصر؟ لا شيء سوى أنها قرينة الرئيس. وما محاولات نجلي الرئيس السابق لحجبه عن كاميرات المصورين إلا محاولات لإخفاء عيوب النظام العربي السياسي القديم.
الدرس البليغ الذي أراد الشعب المصري أن يلقيه على مسامع الجميع، عبر إصراره على محاكمة مبارك هو، أن الحاكم، مهما كان، سيصبح، من الآن وصاعدا، مواطنا عاديا شأنه شأن ملايين المواطنين، لا يشفع له أي اعتبار، مهما كان: لا ماضي ولا نياشين، ولا ألقاب، ولا نسب، ولا ثروة، ولا أي شيء آخر. ونجل الحاكم وقرينة الحاكم وأخ الحاكم، وابن أخيه وابن عمه و و و هم مواطنون عاديون، إذا اكتنزوا الثروة وشيدوا القلاع في بلدانهم وخارجها، فمن حق الشعب أن يعرف مصادر ثرائهم وإلا فالشعب سيحاسبهم، وإذا أراد أحدهم أن (يتفرعن) فالسجن سيكون بانتظاره. وهذا كله أنجزته الجلسة الأولى للمحاكمة، أما الجلسة التالية التي ستعقد منتصف الشهر الحالي، والجلسات التي تليها، فهي ليست ذات شأن كبير لأنها ستدور حول تفاصيل. المهم، أو الجوهر هو الذي حدث في الجلسة الأولى وهو، أن الشعب المصري كسب التحدي وفرض أرادته، ونجح أن يشعل نيران المعركة من جديد، رغم محاولات أطراف كثيرة لإخمادها. والأرجح أن هذه المحاولات ستظل مستمرة ولن تتوقف، بعد هذا العرض المسرحي. إذ، مثلما يحدث مع كل العروض المسرحية سيأتي لاحقا، كما نتوقع، دور (نقاد) العرض المسرحي، وهولاء أصناف، لكن الأخطر بينهم هم، حكماء السلاطين، الذين سيتفرغون للحديث عن (فوضى) الثورات العربية وجوانبها الهدامة، و وعاظ السلاطين، الذين سيشددون على حرمة الخروج على الحاكم. أعضاء الفريق الأول سيتحدثون، وربما تحدثوا توا، عن الجوانب الدنيوية السياسية في قضية محاكمة مبارك. سيقولون أن مصر عاشت أهدأ فتراتها خلال حكم مبارك، ولقد آن لشعب مصر أن يضمد جراحه، ويكف عن التظاهر ويدع جانبا رفع الشعارات والمطالب التي أنهكت البلاد، ويلتفت للبناء والأعمار، ويترك مبارك وأولاده ورجال العهد السابق وشأنهم، الخ. الخ. الفريق الثاني سيتخصصون بالجوانب الدينية الشرعية، وربما سيقولون أي مهازل هذه التي تعيشها الأمة ونراها تحدث أمامنا، وأي أفعال فاجرة نلحقها بأولياء أمورنا من الحكام: أمس أعدموا صدام حسين، وهو رجل مسلم، ليلة العيد، وها هم يقدمون اليوم (الرئيس) المصري للمحاكمة في أول يوم من أيام شهر رمضان، ومن يدري ماذا سيحدث إذا استمر هذا العبث بثوابت الأمة، فربما سيتم إعدام حاكم آخر ليلة القدر، وسيختمون مواعظهم قائلين: آن أوان إيقاف هذه المهازل. لكن هذه (المهازل) ستستمر، لأنها بدأت بدون إذن من أحد، وستستمر بدون إذن.