ما معنى quot;الشعب العراقي طيب وبسيطquot;؟
عندما بدأت التظاهرات الاحتجاجية في العراق ناشد رئيس الحكومة العراقية السيد نوري المالكي مواطنيه العراقيين أن لا يشاركوا فيها. و في محاولة منه للتفسير، أو للتبرير، قال المالكي: quot;الشعب العراقي شعب طيب وبسيط يسعى للعيش بعد سنوات الظلم التي عاشها وأن المجتمع لا يمكن أن يترك للبسطاء قيادته.quot;
لا نجد علاقة بين طيبة وبساطة أي شعب في العالم، وبين ممارسته للديمقراطية، كأسلوب في الحكم، وكمنهج حياتي يومي. ما المانع أن quot;يسعىquot; شعب ما للعيش، وأن يتظاهر، في الوقت نفسه، لتحسين أوضاعه الحياتية ؟ هل أن الطيبة والبساطة، كصفتين بشريتين، تتعارضان مع الممارسة الديمقراطية ؟ هل أن الديمقراطية حكر على الأشرار، والنخب ؟
(الطيبة والبساطة) هما، بالأحرى، صفتان ديمقراطيتان، لأنهما تقترنان بالجماهير أو الطبقات الشعبية التي تمثل الأكثرية الانتخابية، في كل زمان ومكان. في الأنظمة الديمقراطية، والعراق بلد ديمقراطي، كما يؤكد المالكي دائما، الأمور يحسمها (الطيبون البسطاء) لأنهم، ببساطة، يكونون الأغلبية العددية، وعندما يتم فرز الأوراق التي تلقى في صناديق الانتخابات، فأن الجميع يتساوون في الأهمية، والنتيجة لا تحسمها (ماهية) الناخبين، إنما أعدادهم. وهذا عكس ما نجده في الأنظمة الفاشية، حيث لا أهمية للجماهير، وإنما لإرادة القائد، الأب، الراعي. في هذه الأنظمة التي تعتمد الدارونية الاجتماعية فلسفة لها، لا يسمع صوت (البسطاء والطيبين) لأنهم يعتبرون quot;القطيع الغبيquot; في المجتمع، كما يقول هتلر. ما يتحكم في الأنظمة الفاشية والنازية هي النظرية الانتقائية النخبوية (الجنس البشري المختار). هكذا، نرى أن الممارسات الديمقراطية، بما في ذلك حرية التظاهر، والإضراب، وتشكيل النقابات ينفذها (الطيبون البسطاء)، ليس سعيا للعيش فحسب، وإنما لتحسين ظروف عيشهم، وانتزاع حقوقهم. إذن، ما علاقة طيبة العراقيين وبساطتهم، من جهة، وإصرارهم على التظاهر، من جهة أخرى. لا علاقة البتة، اللهم ألا إذا كان المالكي يعني بمفردتي البساطة والطبية، الغباء والسذاجة.
مسطرة خاصة لقياس وعي العراقيين
يتساءل المالكي، في مناسبة أخرى، وهو يتحدث، أيضا، عن المظاهرات الأخيرة: laquo; كم عدد المظاهرات التي خرجت في العراق وحتى لو كانوا 1000 شخص فأنا لي في بغداد فقط 650 ألف شخص.quot; هنا تكمن مفارقة أخرى. هولاء الأشخاص الذي يقول المالكي أنهم انتخبوه لم يهبطوا من المريخ، إنما هم شريحة من (الشعب العراقي الطيب والبسيط الذي يسعى للعيش). ومن الواضح أن هولاء البسطاء الطيبون لم يثنيهم السعي للعيش عن المشاركة في النشاط السياسي العام، بدليل أنهم خرجوا من بيوتهم وأدلوا بأصواتهم داخل صناديق الانتخابات، وانتخبوا من يريدون، أي المالكي نفسه. لماذا، إذن، لم يغرر بهم أحد ويقنعهم بعدم انتخاب المالكي ؟ يبدو أن السيد المالكي، وعموم رجال الطبقة السياسية في العراق يملكون مسطرة قياس خاصة بهم يستخدمونها لقياس الوعي السياسي عند الشعب العراقي. إذا صوت العراقيون لصالحهم فهم أذكياء يعرفون من يدافع عن مصالحهم، وإذا صوتوا أو تظاهروا ضدهم فهم بسطاء طيبون، عليهم أن يتفرغوا لشؤونهم المعاشية الخاصة، ويتركوا للقادة الحكام إدارة مقاليد الأمور.
الديمقراطية والبيعة والولاء العشائري
المفارقة الثالثة في كلام السيد المالكي تكمن، هذه المرة، في فهمه للديمقراطية نفسها. المالكي يتوقف عند ميكانيزم، أو آلية الديمقراطية. المالكي يقول أن quot;من يهتف ومن يعارض ومن يطالب بإسقاط الحكومة يعني أنه يطالب بإسقاط الشعب وأرادته.quot; لماذا ؟ لأن الشعب هو الذي انتخب الحكومة. تفسير كهذا يعتمد على مفهوم الولاء العشائري، وليس المفهوم الديمقراطي، والمفهومان مختلفان، بل متناقضان. الأول ساكن وتملكي وسرمدي وغير مشروط، والثاني متحول وظرفي ومشروط. الأول يعتمد على علاقة الدم الأزلية الساكنة غير المتحركة مهما صار ومهما حدث، والثاني يعتمد على علاقة سوقية، بيع وشراء، ربح وخسارة. شيخ العشيرة هو شيخ العشيرة، لا يتغير ولا يتبدل ألا بموته. وعندما يكون لشيخ العشيرة نصف مليون من الأتباع، فهم يظلون نصف مليون مهما حدث لشيخهم، فشل أو أصاب. لكن، في الديمقراطية، عندما يكون لقائد سياسي نصف مليون من المؤيدين، فأنهم قد يصبحون نصف هذا العدد، أو ربعه، أو حتى أقل من ذلك، بعد سنة من انتخابه، أو حتى بعد أشهر، اعتمادا على احترام أو عدم احترام (العقد) الموقع بينه وبينهم، أي برنامجه الانتخابي، والوعود التي يكيلها. إذا التزم بالعقد ظلوا على ولائهم له، وإذا لم يلتزم تخلوا عنه وتظاهروا ضده، وطالبوا بتنحيته. هذا هو قانون الديمقراطية في كل زمان ومكان. فالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الايطالي بيرلسكوني، على سبيل المثال، لا الحصر، حصل كل واحد منهما على أصوات تعادل عشرات المرات الأصوات التي حصل عليها المالكي، مع ذلك فأن التظاهرات الاحتجاجية ضدهم لم تتوقف، وهي تزداد يوما بعد آخر، ولا تمنحهم استطلاعات الرأي الجارية هذه الأيام ألا نسب ضئيلة جدا، مقارنة بتلك التي حصلوا عليها في بداية فوزهم، دون أن ننسى، بالطبع، رؤساء وزارات ورؤساء جمهوريات في الغرب أجبروا على الاستقالة أو التنحي، رغم أنهم وصلوا إلى الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، وبأكثرية الأصوات. لكن الفرق بين هولاء كلهم، وبين المالكي ومن معه من أفراد الطبقة السياسية العراقية هو، أنهم يفكرون بعقل نصفه الأول ديمقراطي، ونصفه الثاني ديمقراطي، بينما تفكر النخب العراقية الحاكمة بعقل ربعه عشائري، وربعه الثاني ديني، وربعه الثالث عسكري بونابرتي، وربعه الأخير خليط من أفكار ورؤى وتفسيرات quot;ديمقراطيةquot; لم يتضح جوهرها بعد.
حقوق الإنسان وحقوق الدولة
مناشدة الحكومة العراقية للشعب نفسه الذي انتخبها بأن لا يتظاهر ضد أدائها، قد تكون حرصا منها على سلامة المواطنين، وأن لا تستغل التظاهرات من قبل قوى معادية للديمقراطية، و جماعات إرهابية لإلحاق أذى بالمتظاهرين، وتدمير الممتلكات العامة. وهذا حق من حقوق الحكومة، بل واجب من واجباتها، وكان يفترض، وفقا للمنطق الديمقراطي، أن يكتفي رئيس السلطة التنفيذية بهذه المناشدة، ويترك لمن يريد من العراقيين خيار التظاهر من عدمه، فهم يعرفون ما ينفعهم وما يضرهم. لكن الذي حدث هو، أن الحكومة استخدمت هذا الحق لمحاربة الحق الديمقراطي للناخبين، وبوسائل غير ديمقراطية. فعندما أيقنت حكومة المالكي أن مناشدتها قد لا تجد أذانا صاغية فأنها استعانت بجهات من خارج المؤسسات الديمقراطية (رؤساء عشائر ورجال دين) لثني الشعب عن التظاهر. وعندما رأت أن هذه الوسائل لن تنفع، فأنها استخدمت جثة خصم أو عدو سياسي مات وشبع موتا منذ ثمان سنوات (البعث)، كسلاح سياسي لابتزاز الشعب وتخويفه. وعندما تأكدت أن هذه الذرائع كلها لا تفي بالغرض، فأنها لجأت إلى أساليب قمعية مباشرة (الأجهزة الأمنية، فرض حظر منع التجول، محاصرة وسائل الإعلام، اعتقال بعض المتظاهرين) لقمع، أو لمنع، أو لثني المواطنين عن التظاهر. وهذا الانفصال بين ما يقال وما يطبق على أرض الواقع لا يقتصر على رأس هرم السلطة، بل نجده، كما سنوضح في السطور التالية، لدى المستويات الأدنى.
لأول مرة في التاريخ يهان العراقيون بهذه الطريقة الشنيعة
قبل أيام وصف وكيل وزير التربية (نعم، وزارة التربية لا غيرها) المعلمين العراقيين (هكذا، كلهم بدون استثناء) بأنهم (مطايا / حمير). وقبل ذلك، أو بعده قارن محافظ البصرة بين أهالي المدينة الذين يريدون التظاهر ضده، وبين (عاهرات باريس) فقال أن العاهرات أشرف منهم. وكيل وزير التربية والمحافظ لا بد أنهما ينتميان للأحزاب الإسلامية، وألا كيف احتلا منصبيهما، وبالتالي فهما شخصان متدينان، كما يفترض. والمعروف عن المسلم المتدين، خصوصا إذا كان من النخب، امتلاكه لقاموس لغوي راق، مفرداته مستمدة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية وأمهات الكتب التراثية وكل ما هو فخم في الشعر العربي. لكن وزير التربية المثقف، المربي، المتدين، الحريص على تطبيق تعاليم الإسلام، لم يجد غير مفردة (مطايا / حمير) (يبجل) بها مربي الأجيال وناشري الثقافة الذين لم ينهض العراق الحديث ألا بفضل جهودهم. ومثل الوكيل، لم يجد محافظ مدينة الجاحظ، والحسن البصري والجبائي، غير مفردة عاهرات لوصف أبنائها.
ليست زلات لسان
هذه ليست زلات لسان، ولا هي مواقف معزولة، ولا استثنائية، إنما هي تتمة لفصول هذا المسلسل التراجيدي الكوميدي الذي تدور أحداثه على المسرح العراقي منذ عام 2003، لكنها، أيضا، علامات تشير، ليس فقط، إلى تعب الممثلين، وإنما لنضوب إمكانياتهم، وتشير كذلك إلى خيبة المشاهدين، وبداية تسللهم من قاعة العرض، تبرما وحنقا. وما التظاهرات العامة التي بدأت تشهدها مختلف المدن العراقية، والإجراءات المضادة لها من قبل السلطات الحكومية، إلا دليل على ذلك. فعندما تقمع حكومة منتخبة من الشعب تظاهرات يشارك فيها الشعب نفسه الذي انتخبها، فهذا يعني أن هذه الحكومة (مرة أخرى نؤكد أنها منتخبة من الشعب) لا تثق بنفسها، وأن هناك هوة عميقة بينها وبين الشعب الذي يفترض أنها تتحدث بأسمه، وأن موقفها هذا يشير إلى خلل خطير في تفسيرها لمفهوم ولمعنى الديمقراطية.
هذه الاستنتاجات كلها تندرج تحت عنوان واحد هو، الإخفاق، لكن هذا الإخفاق يتحول إلى مأزق حقيقي. لماذا ؟ لأن هذه الأحزاب فقدت، أصلا، مبررات أو أسباب وجودها. فالمعروف أن هذه القوى الدينية السياسية التي قادت العملية السياسية وتبوأت وما تزال مواقع قيادية في الحكم والمجتمع منذ عام 2003، تأسست لرفع المظلومية عن العراقيين الشيعة.لكن الذي يحدث الآن، بعد مرور ثمان سنوات هو، أن العراقيين الشيعية، الذين تقول الحكومة والأحزاب التي تقودها أو تشارك فيها أنها جاءت للدفاع عنهم، هم أول من تمرد ضدها، كما حدث في واسط والمثنى والنجف وبابل والبصرة والعمارة. هذا يعني أن العراقيين الشيعة ما يزالون مظلومين، لكن الظالمين، هذه المرة، هم الشيعة أنفسهم، وتحديدا الأحزاب الشيعية التي تقود الدولة والمجتمع.
ثانيا، السبب الآخر لتكون هذه الأحزاب الدينية هو تطبيق تعاليم الإسلام على جميع الأصعدة، لكن العراق بعد ثمان سنوات على حكمها احتل المرتبة الأولى في الفساد بكل أنواعه. وبالإمكان أن يجد المرء كل شيء في عراق الأحزاب الإسلامية، ما خلا الإسلام نفسه.
ثالثا، أن هذه الأحزاب أعلنت، بعد وصولها للحكم في 2003 بأنها ستبني نظاما ديمقراطيا، وكتبت دستورا ينص على ذلك، لكن الديمقراطية ما تزال لقيطا تتبرأ هذه الأحزاب من أبوتها له.
رابعا، ظلت الأحزاب الدينية الحاكمة تتلفع بعباءة المرجعية وتؤكد أنها تحظى بتأييدها ومباركتها، لكن المرجعية أعلنت، عن طريق مكتب المرجع السيد السيستاني، أثناء انتخابات المحافظات الأخيرة، أنها تقف على مسافة واحدة من جميع العراقيين، ثم عادت المرجعية وحذرت، بعد التظاهرات الأخيرة، من مغبة قمع التظاهرات.
هذه ليست أخطاء، وليست مجرد أخفاقات، ولا فشل. هذا مأزق. فكيف سيتم الخروج منه؟
التعليقات