التغيرات الجذرية التي حدثت في تونس، وبعد ذلك في مصر بالذات، وتلك التي ظهرت بوادر حدوثها في بلدان عربية عديدة، أثارت دهشة وذهول العالم كله، بما في ذلك العرب أنفسهم، لأنها فاجأت الجميع، كما الصاعقة لحظة وقوعها. وألا، من كان يتوقع أن تونسيا يحرق نفسه فيفر رئيس البلاد، وأن يتظاهر مجموعة من الشباب المصري فيتنحى رئيس أكبر دولة عربية. هذه المفاجأة/ الصدمة أسقطت ما بيد جميع الجهات المعنية بالوضع العربي، وجعلتها تعيد حساباتها. الجهات هذه متعددة ومتباينة في أهدافها الآنية، وفي استراتيجياتها بعيدة المدى. فبالإضافة إلى المجتمعات العربية والحكام العرب، وهي الجهات المعنية مباشرة بالأحداث، هناك أطراف خارجية: إسرائيل، أميركا، النظام الإسلامي في إيران، حركات الجهاد الإسلامي العالمي. كل هذه الجهات اتسمت ردود أفعالها، حتى الآن، أما بالانفعال، أو الحذر، أو الهروب للأمام، أو ترقب ما يحدث أملا في احتواء ما يمكن احتوائه من تطورات، أو لاذت بالصمت.
في ما يخص الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فأن مرشد الجمهورية رحب بحماسة بالأحداث، واعتبرها امتدادا للثورة (الإسلامية) في إيران، لكن حكومة بلاده منعت قيام تظاهرات عامة أرادت أن ترحب، هي أيضا، بالأحداث !! تنظيم القاعدة لاذ بالصمت حتى الآن ولم يدل قادته، حسب علمنا، بتصريحات مفصلة عن الأحداث. الحكام العرب لزموا في غالبيتهم الصمت، وبعضهم تجرأ وأعلن رفضه لما حدث، والبعض الآخر رشا مواطنيه حتى يسكتوا. إسرائيل شعرت بالذعر عندما أدركت أن نظام الرئيس مبارك في طريقه للزوال نهائيا، وما تزال في حيرة لم تعرفها سابقا.
أما الولايات المتحدة، القوة الأعظم في العالم، فقد تباينت مواقفها، فهي كانت أكثر وضوحا فيما يخص الشأن التونسي، لكن عندما بدأت أحداث مصر، شعرت واشنطن بحرج كبير وظل موقفها غامضا، لكنها أصبحت أكثر وضوحا عندما تيقنت أن المتظاهرين في طريقهم لتحقيق مطالبهم.
في الواقع، أن الاهتمام بالتغيرات الأخيرة في العالم العربي، خصوصا من قبل الغرب، فاق كثيرا الاهتمام الذي ترافق مع سقوط نظام صدام حسين، وما أعقبه من تغيرات في بنية النظام السياسي الجديد في العراق. الاهتمام الغربي بالتجربة العراقية اتسم، عموما، بموقفين اثنين متباينين، ايجابي وسلبي. الأول، السلبي، يكمن في أن التغيير الديمقراطي لم ينجز بأيدي العراقيين أنفسهم، وإنما فرضه عليهم الاحتلال الأميركي، وبالتالي فأن الديمقراطية تم استيرادها بالقوة المسلحة إلى العراق.الموقف الثاني الايجابي، ينبع من أهمية العراق، كبلد مسلم ظلت عاصمته تحتفظ بكرسي الخلافة الإسلامية لعدة قرون، وما يزال يحتفظ بمؤسسة دينية (شيعية) هي الأقوى في العالم الإسلامي. وهذا يعني أن التجربة الديمقراطية إذا نجحت في هذا البلد فأنها ستطيح بمقولة عدم صلاحية النظام الديمقراطي للمجتمعات الإسلامية، وستصبح التجربة العراقية مصدر إلهام للمجتمعات العربية الأخرى.
الآن، وقد حدث ما حدث في تونس والعراق، فأن المحللين الأميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، تشجعوا على القول: أنظروا، كما أكدنا وتنبأنا، ها هي قطع الدومينو (الديمقراطية) بدأت تتساقط، بفضل ما حدث في العراق. لكن هذا الفرح (الأميركي) لم يكتمل بعد، وربما لن يكتمل لمدى بعيد، لأن ما من أحد بإمكانه التنبوء كيف ستتطور الأمور لاحقا. فقد بدأنا نسمع أصحاب نظرية الدومينو (الديمقراطية) أنفسهم وهم يقولون: نعم، بدأت قطع الدومينو تتساقط، لكننا quot;لا نعرف إن كانت هذه القطع تتجه نحونا أو ضدناquot;، كما كتبت على الموقع الاليكتروني لقناة فوكس نيوز، السيدة ك. ت، ماكفارلاند، مسؤولة العلاقات العامة في البنتاغون في ولاية الرئيس ريغان، وكاتبة خطابات وزير الدفاع الأسبق كاسبار وانبرغر. ورغم أن هولاء يروون أن ما حدث في مصر أخيرا يفوق، في أهميته، سقوط جدار برلين، بسبب أهمية مصر، لأسباب عديدة تخص مصر، إلا أنهم لا يتوقفون إلا عند مسألة واحدة هي، خشيتهم أن تقطف حركة الأخوان المسلمون وحدها، ثمار هذا التغيير، مثلما قال دوغ سشون، المحلل السياسي في قناة فوكس نيوز، أيضا.
وهكذا، نجد أن ردود الأفعال إزاء ما حدث ويحدث في العالم العربي، تتحكم فيها الأماني والانفعالات والمواقف الأنانية، طبقا للمصالح الذاتية لكل طرف. ومن هنا أهمية الاستماع لقراءة أكاديمية هادئة للأحداث.

قراءة أكاديمية لما حدث
هذه القراءة قدمها الباحث الأكاديمي الفرنسي المعروف والمتخصص بقضايا العالم الإسلامي، أوليفيه روي Olivier Roy. يرى الباحث أن الغرب في تعامله مع الانتفاضات الشعبية التي يشهدها المغرب العربي ومصر ما يزال سجينا لرؤية قديمة تعود لثلاثين عام مضت، أي لزمن حدوث الثورة الإسلامية في إيران قبل أثنين وثلاثين عام. ونحن نقدم هنا ترجمة لمقاطع من مقال نشره روي في صحيفة لوموند الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 13-14 شباط 2011.
يرى أوليفيه روي أنه من الواضح أن الجيل الحالي الذي يقف وراء الأحداث الأخيرة هو، جيل quot;ما بعد الحقبة الإسلاموية Post-islamistequot;. وأبناء هذا الجيل ينظرون للأحداث الثورية العظمى التي حدثت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كquot;تاريخ قديم، هو تاريخ أبائهم، وليس تاريخهم هم. أبناء هذا الجيل لا يهتمون بالايدولوجيا، فشعاراتهم كلها هي شعارات براغماتية، ملموسة، يلخصها شعار واحد هو (أرحل)، دون الإشارة للإسلام، مثلما كان يفعل أبائهم في الجزائر، مثلا، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. أبناء هذا الجيل يعبرون، وقبل أي شيء أخر، عن quot;رفضهم لديكتاتوريات فاسدة، ومطالبتهم بأنظمة بديلة ديمقراطية.quot;
يقول روي quot; إن هذا الجيل هو، جيل تعددي لأنه، بدون أي شك، جيل أكثر فردانية. وهو جيل يملك معلومات أكثر، وغالبا ما يملك وسائل اتصال بشبكة الاتصال المعلوماتية الحديثة، ولا يسحره، لا المثال الإيراني ولا السعودي. وأبناء هذا الجيل الذين يتظاهرون في مصر هم، بالضبط، أنفسهم الذين يتظاهرون في إيران ضد أحمدي نجاد. وقد يكون هولاء من المؤمنين بالإسلام، لكنهم يفصلون أيمانهم عن مطالبهم السياسية، وبهذا المعنى فأن حركتهم (علمانية)، لأنها حركة تفصل ما بين الدين والسياسة. وفي هذه الحال فأن ممارستهم للشعائر والطقوس الدينية هي، ممارسة فردانية.quot;
ويرى أوليفيه روي أن ما يطالب به هولاء المتظاهرون، قبل أي شيء آخر، هي، quot;الكرامة والاحترامquot;، وهي quot;قيم كونيةquot; لا تخص مجموعة بشرية بعينها، ولكن الديمقراطية التي يطالبون بها الشبان في العالم العربي هذه الأيام quot;لم تعد مستوردة من الخارج، وهنا يكمن الاختلاف مع الوعود التي أعلنتها إدارة الرئيس بوش عام 2003quot;، أيان الغزو الأميركي للعراق، والتي quot;لم تجد لها أذانا صاغية، لأنها كانت تفتقر لأي شرعية سياسية، واقترنت باحتلال عسكري.quot; ويتوقف الباحث عند حقيقة أن quot;التحركات الحالية التي يشهدها العالم العربي quot;لا قائد لها، ولا تقف وراءها أحزاب، وبعيدة عن التأطير، وهذا أمر ينسجم مع طبيعتها.quot; ورغم أن هذا أمر إيجابي، لأنه يبعد هذه الحركات أن تكون تحت وصاية جهة بعينها، لكن عدم وجود أحزاب سياسية نشطة له عواقبه السلبية على مصير الديمقراطية، وتطورها لاحقا، في ما يتعلق بمشكلة quot;إضفاء طابع مؤسساتي على الديمقراطيةquot; الوليدة. ويستشهد روي بالتجربة العراقية، فيقول، استنادا على ما حدث في العراق، فأنه quot; ليس من المؤكد أن القضاء على نظام ديكتاتوري يفضي، أوتوماتيكيا، إلى نظام ديمقراطي ليبرالي quot;، مثلما كانت واشنطن تأمل أن يحدث في العراق، بعد سقوط نظام صدام.

وفي ما يخص الإسلاميين، يقول روي quot;أنهم ما يزالون داخل المشهد ولم يختفوا، لكنهم تغيروا. فالأكثر راديكالية من بينهم غادروا المشهد والتحقوا في معمعان الجهاد العالمي، في الصحراء حيث يوجد تنظيم القاعدة في المغرب العربي، وفي باكستان، أو في ضواحي مدينة لندن. إنهم لا يملكون قاعدة اجتماعية أو سياسيةquot; داخل البلدان العربية حيث تندلع الانتفاضات. والجهاد المعولم معزول بشكل كامل عن الحركات الاجتماعية والنضالات الوطنية.quot;
يتوقف أوليفيه روي عند ظاهرة إعادة أسلمة reacute;islamisation المجتمعات في العالم العربي التي حدثت بشكل واسع خلال الثلاثين عام الماضية، ويرى أن ربط هذه الظاهرة بوجود تطرف سياسي إنما يعبر عن تشوش وعدم وضوح في الرؤية. ولدعم وجهة نظره، يطرح الباحث السؤال التالي: quot; لو أن المجتمعات العربية هي، فعلا، مثلما تبدو الأمور على السطح، أكثر إسلامية مما كانت عليه قبل ثلاثين أو أربعين عام، فكيف نفسر إذن غياب الشعارات الإسلامية في التظاهرات الحاليةquot; التي تشهدها المدن العربية ؟ إن عملية الأسلمة هذه تنطوي على مفارقة، كما يرى روي. فبدلا من نجاحها في تسييس الإسلام، أدت إلى quot;إبعاد السياسة عن الإسلام lrsquo;islam deacute;politiseacute;quot; . الملاحظة الأخرى هي أن إعادة أسلمة المجتمعات، اجتماعيا وثقافيا (الحجاب، أعداد المساجد، تضاعف أعداد الوعاظ الدينيين، تزايد القنوات التلفزيونية الدينية)، تتم بمعزل عن الناشطين الإسلاميين، وأدت إلى ظهور (بازار) ديني لم يعد بمقدور أحد أن يدعي حق احتكاره. باختصار، لقد فقد الإسلاميون احتكارهم للخطاب الديني في المجالات العامة، مثلما كانوا يفعلون في الثمانينيات من القرن الماضي.quot;

يقول أوليفيه روي: quot;لقد دأب الديكتاتوريون في أغلب الحالات (ما خلا تونس) على تفضيل إسلام محافظ، ظاهر للعيان، لكنه بقدر كبير غير مسيس، وهو إسلام يركز بشكل هوسي على الآداب والأخلاق العامة. فالحجاب، مثلا، أصبح أمرا مبتذلا (عاديا). والمفارقة الصارخة هنا تتجلى في إن عملية إعادة أسلمة المجتمعات قادت، هي نفسها، على المستوى الديني، إلى ابتذال، وابتعاد عن السياسة: عندما يكون كل شيء دينيا، لم يبق، بالتالي،أي شيء لاديني. إن ما كان يعتبر، في نظر الغرب، موجة عظيمة خضراء كدلالة على إعادة أسلمة المجتمعات العربية ليست، في المحصلة النهائية، سوى ابتذال للأمور: كل شيء أصبح إسلاميا، من وجبات الأكل السريعة حتى الأزياء النسائية.
سوء الفهم الآخر الذي يرى أوليفيه روي أن الغرب وقع فيه هو، quot;النظر إلى الديكتاتوريين باعتبارهم مدافعين عن العلمانية بوجه التعصب الديني. إن النظم الأوتوقراطية لم تعلمن (من العلمانية) المجتمعات، بل على العكس، فهي، ما خلا تونس، ارتضت بإعادة أسلمة من نوع نيو تعصبية neacute;ofondamentaliste، حيث يتم الحديث عن تطبيق الشريعة، لكن دون إثارة مسألة طبيعة الدولة. وفي كل مكان من هذه البلدان فأن العلماء ouleacute;mas والمؤسسات الدينية الرسمية تم تدجينها من قبل الدولة، وحدثت عملية نكوص محافظة دينية مرضية. وهذا التغير أطال، أيضا، الحركات السياسية الإسلامية التي تتجسد في حركة الأخوان المسلمين وتوابعها، مثل حركة النهضة في تونس.quot;

ويتوقف أوليفيه روي عند quot;الأخوان المسلمونquot;، فيرى أنهم، أيضا، تغيروا بسبب عوامل تندرج تحت عنوان واحد هو الفشل، فشل النموذج الإسلامي في إيران، وفشلهم الذاتي في مصر نتيجة القمع الذي عانوه، ولكن التغير الأهم هو أن الأخوان المسلمين لم يعودوا حملة نموذج اقتصادي أو اجتماعي. والبرجزة التي طالت الإسلاميين هي، أيضا، ورقة رابحة لصالح الديمقراطية: عدم استخدام ورقة الثورة الإسلامية دفعهم إلى عملية تصالح، وتسوية وتحالف مع قوى سياسية أخرى. إن السؤال المطروح هذه الأيام لم يعد معرفة إن كان الديكتاتوريون هم المتراس الأفضل ضد الإسلامية، أو لا. فالإسلاميون أصبحوا شركاء في اللعبة الديمقراطية. وسيكون لهم وزنهم الكبير في ما يخص ميدان ضبط الأخلاق والآداب العامة، ولكن بسبب عدم وجود آلة قمعية يعتمدون عليها، كما في إيران، أو عدم وجود شرطة دينية كما في العربية السعودية، فأن الأخوان المسلمين سيكون عليهم أن يصبحوا جزءا من المطالبين بالحرية التي لا تتوقف فقط عند حق انتخاب البرلمان.quot;
و يتوقف أوليفيه روي عند المقارنة بين التجربتين التونسية والمصرية. في ما يخص تونس، يرى الباحث أن quot;جماعة بن علي أضعفت كل حلفائها الممكنين، عن طريق رفضها لأن يشاركها أحد، ليس فقط على المستوى السياسي، وإنما خصوصا في ما يتعلق بجني الأرباح وتكديس الثروة. أما في مصر فأن النظام هناك كانت له قاعدة اجتماعية أكبر مما في تونس، فالجيش المصري لا يرتبط فقط بالسلطة السياسية الحاكمة، ولكن، أيضا، بإدارة الاقتصاد وجني المنافع. هذا التعقيد الداخلي الذي يضاف إليه وقوع مصر في قلب جميع الصراعات في منطقة الشرق الأوسط (مصر ضامنة لعملية سلام مع إسرائيل، وهي تقود تحالف عربي- سني لا يجرأ الإعلان عن نفسه، بمواجهة إيران) يفسر التغيرات المفاجأة المتقدمة للأمام وليس إلى الوراء الذي نراقبها منذ أيام عديدة في القاهرة. الآن، وبعد رحيل مبارك هل سيحتفظ الجيش بسلطته القيادية، أو سيأخذ زمام الأمور بشكل مباشر، أو سيسير على الطريق التركي (ضامن للمؤسسات والمعاهدات الدولية، أم سيتضاءل دوره أمام السلطة المدنية) ؟ quot;
هذه الأسئلة يتركها أوليفيه روي معلقة، ويعبر عن قناعة يختتم بها، مفادها أن ما كان يقال بأن العالم العربي هو حال استثنائية، انتهى ولم يعد قائما. يقول روي: quot; هناك أمر مؤكد هو: إننا لم نعد بعد الآن داخل استثنائية العربي- الإسلامي. فالأحداث الحالية تعكس تغيرا في العمق للمجتمعات في العالم العربي. وهذه التغيرات ليست وليدة اليوم، إنما كانت تتوالد منذ زمن طويل، ولكن ما حجبها هي، الكليشهيات التي جهد الغرب لإلصاقها بمنطقة الشرق الأوسط.quot;