العراق أولا
لماذا شنت الولايات المتحدة الحرب على العراق عام 2003؟ لمجرد التخلص من شخص صدام حسين؟ للتخلص من أسلحة دمار شامل كان النظام البعثي يملكها؟ بسبب تعاون صدام مع تنظيم القاعدة؟ بهدف السيطرة على موارد النفط العراقي؟ لتطويق النظام الإسلامي في إيران؟ للتحكم بمنابع الطاقة في المنطقة، وإفهام الصين الصاعدة الواعدة أن (طريق الحرير) الجديد، أو الطاقة التي يعتمد عليها اقتصادها أصبحت الآن في قبضة أميركا؟ للدفاع عن مصالح إسرائيل؟ لنشر الديمقراطية، أولا في العراق، وبعد ذلك في عموم العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط؟

في ما يخص السبب الأول، لا نظن أن إنسانا عاقلا واحدا في هذا الكون يصدق أن أميركا (نعم، أميركا، وليس الجمهوريين وحدهم، فقرار الحرب كان أميركيا) شنت حربها وخسرت ما خسرت على الصعيد البشري والمالي والسياسي، وكدرت علاقاتها حتى مع أقرب حلفائها الاستراتيجيين، وضربت بعرض الحائط موقف الأمم المتحدة،وكادت أن تضحي بهيبتها، لغاية واحدة ووحيدة هي، أن تسقط صدام، بسبب عداء لشخصه، وتحاكمه، ثم تعدمه وتمكث قرب قبره ثمان سنوات، وعندما تتأكد أنه لن يخرج من قبره ثانية، تسلم العراق على طبق من فضة لعدوتها اللدودة، إيران الإسلامية، وتتركه في عهدة قوى عراقية إسلامية تهتف يوميا بالموت لأميركا، ثم تلتفت نحو العراقيين وتقبلهم واحدا واحدا، وتسحب قواتها وتعود من حيث جاءت، قائلة للعراقيين: لا تنسونا يا جماعة الخير، ولا تبخلوا علينا بالمراسلة، فقد تشاركنا الخبز والملح. هذا كلام لا يصدقه حتى المجانين.

الذريعة الثانية زائفة، وأميركا تعرف ذلك أفضل من غيرها. صدام كان قد دمر كل شيء، ومفتشو الأمم المتحدة دخلوا حتى غرفة نومه، والمخابرات الأميركية تعرف جيدا أن ما من علاقة تعاون بين صدام وبين تنظيم القاعدة، وإلا لأعلنتها على الملأ، أن لم يكن لشيء فلتبرير حربها. إما مسألة السيطرة على أنتاج النفط، أقله في المستقبل، أو في وقت الأزمات، وكذلك ضمان استمرار التفوق العسكري الإسرائيلي، والتواجد المباشر في منطقة ما يسمى (قوس الأزمات) فهي قضايا حيوية للمصالح الأميركية، ولكن كان بمقدور أميركا أن تجد حلا جذريا لها داخل (خيمة صفوان) التي نصبت بعد هزيمة النظام البعثي في حرب الكويت، آنذاك عندما كانت معظم الحكومات العربية مع واشنطن، وعندما كان صدام على استعداد أن يوقع على كل شيء تطلبه منه أميركا، وعندما كانت أميركا في أوج تفردها الدولي وتضع بقوة خطواتها الأولى في طريق نظام القطبية الواحدة، ناهيك عن أن أميركا حولت العراق، بعد حرب الكويت إلى خربة، وقيدته بعشرات القرارات.

نظرية الدومينو
لم تبقى، إذن، سوى مسألة نشر الديمقراطية، على الأقل كذريعة معلنة من قبل إدارة الرئيس بوش، وطبقا لفهم تلك الإدارة ومعها المحافظون الجدد، للديمقراطية. المحافظون الجدد كانوا يعتمدون، في اختيارهم العراق كمكان عربي أول لنشر الديمقراطية، على نظرية الدومينو التي ابتدعها الرئيس الأميركي أيزنهاور في أوج اندفاع الشيوعية لمنع تقدمها: إذا سقطت القطعة الأولى (أيزنهاور كان يعني أن تصبح شيوعية) فأن حركة سقوطها ستعجل سقوط بقية القطع، وفي الحال التي نتحدث عنها: إذا (سقط) العراق في حضن الديمقراطية، ستسقط الدول العربية الأخرى، الواحدة تلو الأخرى. هل تحققت هذه النظرية داخل العراق بعد الاحتلال الأميركي؟

في ما يخص الأسس والركائز الضرورية التي لا يمكن أن يقوم نظام ديمقراطي بدونها، فالجواب هو، نعم: حدثت في العراق انتخابات حرة، برلمان يضم جميع المكونات العراقية، الفصل بين السلطات الثلاث، حرية الإعلام، وتشكيل الأحزاب، والتظاهر، والسفر،ووجود لافت للمرأة في البرلمان وفي الحياة العامة، تحسين نسبي للحياة المعيشية، تشريع قانون المحافظات. لكن هذه الانجازات (وهي انجازات كبرى بدون شك وتحدث لأول مرة في تاريخ العراق، ووجدت أجماعا عراقيا عليها) غطتها، أو كادت أن تغطي عليها الأحداث المأساوية التي عاشها العراق لاحقا، عندما كادت الأمور أن تصل إلى حرب طائفية، وما رافق وتبع ذلك من تدخل إقليمي خارجي، وسيطرة جماعات سياسية إسلاموية مسلحة لا تؤمن ولا ترغب بقيام نظام ديمقراطي، مهما كان.


الأمن أولا والديمقراطية داخل غرفة الإنعاش
في هذه الظروف المستجدة، وهي ظروف معادية للديمقراطية بالكامل، وما كان صناع القرار في أميركا يتوقعون حدوثها، على الأقل بتلك الصورة، فأن الهم الأكبر الوحيد لإدارة الرئيس بوش أصبح، البقاء على قيد الحياة الأمنية العسكرية داخل العراق، بأي ثمن كان، وتحول هدف إدارة بوش المعلن: quot;أن يكون العراق ديمقراطيا أو لا يكونquot; إلى هدف عاجل عنوانه: quot;أن يكون العراق، فحسب، وليكن بعد ذلك ما يكونquot;. ولتحقيق هذا الهدف، وحتى لا يتحول العراق إلى فيتنام ثانية يجلى الجنود الأميركيون من عاصمته بواسطة المروحيات، فأن إدارة بوش كانت على استعداد للقبول بأي شيء يجنبها الوقوع داخل هذا المستنقع الفيتنامي العراقي، أي طبخ كل الأمور على نار ساخنة: الانتخابات، كتابة الدستور، المحاصصة، غض النظر عن تدخل النظام الإسلامي الإيراني في العراق، وحتى التفاوض مع هذا النظام نفسه وداخل العراق حول شأن عراقي بحت، الاستعانة بالدول الإقليمية لمساعدتها في تحسين الوضع العراقي، غض النظر عن نشاط المليشيات المسلحة حتى وهي تخطف رعايا غربيين، بل حتى التفاوض معها، أحيانا. باختصار، كانت إدارة بوش قد وقعت فريسة لمرض يصل حد الهوس أسمه (الاستقرار الأمني)، وكان هذا الهاجس يتحكم في كل خطوة تقدم عليها، بما في ذلك بنود اتفاقية سحب القوات التي وقعتها مع الحكومة العراقية، إذ لو كانت إدارة بوش في وضع أفضل لما قبلت بتلك البنود.

الجراح بيترويس فعل الأعاجيب لكنه جاء متأخرا
بعد استلام الجنرال بيترويس مهمة إدارة العمليات العسكرية في العراق تحسنت الأمور دراماتيكيا، لكن ذاك التحسن جاء متأخرا، وبالطبع، غير مكتمل. فالجمهوريون كانوا في سنوات حكمهم الأخيرة، وكلفة الحرب تتزايد، وتقلق الناخب الأميركي، خصوصا في ظل الأزمة المالية التي بدأت مؤشراتها تظهر في الولايات المتحدة والعالم، وبدا التواجد الأميركي في العراق، بل الحرب كلها، من ألفها إلى يائها، بدون هدف، ومضيعة للوقت وهدر للدماء واستنزاف للثروات. فالحرب لم ترسخ الديمقراطية في العراق، ولم تساهم في نشرها في المنطقة، و أميركا فشلت في القضاء على تنظيم القاعدة، وظل بن لادن طليقا، وزادت كراهية العرب والمسلمين لأميركا، وأزداد النظام الإسلامي الإيراني قوة، بل بدأ يطوق أميركا ويفرض شروطه عليها، هي التي جاءت للمنطقة لتطويقه.


quot;القسquot; أوباما يتقدم والمحافظون الجدد ينحنون أمام العاصفة
تحت وطأة هذا الانكسار لاذ المحافظون الجدد بالصمت، خصوصا بعد تنحية كبيرهم رامسفيلد من إدارة المعركة، وخسر الجمهوريون معركة الانتخابات الرئاسية، ووصل أوباما إلى البيت الأبيض.

أول ما فعله أوباما هو الإعلان عن تصميم إدارته على سحب القوات من العراق، وتوقيع ميثاق شرف غير مكتوب أعلن فيه خطل سياسة سلفه، وإحداث قطيعة معها، وإيصال رسالة للعالمين العربي والإسلامي أن لهم (خصوصيتهم)، وأن الديمقراطية لا تصلح، بالضرورة لكل البشر، وبالتالي لا يمكن تصديرها، وهنأ الإيرانيين في عيد النوروز، كدليل على حسن النوايا وتدشين سياسة اليد المفتوحة. وهذه الأفكار أوضحها أوباما في خطابه الذي ألقاه بتاريخ 04 حزيران 2009 في القاهرة بصحبة (رجل الاعتدال) الرئيس حسني مبارك. ورغم أن أوباما انتقد في خطابه المذكور الصورة النمطية التي يقدمها الغرب عموما وأميركا خصوصا عن العرب والمسلمين، إلا أنه، هو نفسه، قدم في واقع الحال، صورة نمطية عنهم. أوباما تحدث في القاهرة مثل أي قس مفوه، بليغ ومثقف، جاء يلقي موعظة على مستمعين من غير ديانته يقول لهم: ديانتي مباركة وديانتكم أيضا، وهذا أمر يبدو أنكم لا تعرفونه، وها أنا قطعت ألاف الأميال، وجئت لأعلمكم. إما الروح الاقتحامية التي طبعت السياسة الخارجية الأميركية قبل مجيئه، والوعود بنشر الديمقراطية والحريات في عهد ولاية الجمهوريين فقد تراجعت، ولم تعد من الأولويات، بل لم يعد لها وجود في تفكير الرئيس الديمقراطي الجديد. في الواقع، ما كان أوباما، وهو يلقي خطابه على مدارج جامعة القاهرة، يرى، لشدة تطيره وحذره المفرط، شبيبة مصرية تحلم بغد أفضل من حاضرها، إنما كان يرى عمائم لمجاهدين وسيوف ملوثة بالدم وأصوات تصرخ: القتال القتال، أيها الغرب الصليبي.


بوعزيزي يحرق خطاب أوباما
في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2010 أحرق الشاب التونسي بوعزيزي نفسه. وفي نفس اللحظة التي كان فيها جسد الشاب التونسي يحترق فأن لهب الحريق وصل لأوراق الخطاب الذي ألقاه أوباما في القاهرة. وعندما شبت بعد ذلك النار المصرية في ميدان التحرير، بالقرب من المكان الذي تحدث فيه أوباما، فأن الحريق أتى، هذه المرة، نهائيا على أوراق خطاب (القس) أوباما. بعد حريق ميدان التحرير، وليس قبله أبدا، بدأ أوباما يتحدث، ليس عن (خصوصية) العرب والمسلمين، وإنما عن قيم (كونية) قال أن على الرئيس مبارك أن يراعيها ويحترمها، ويطبقها، وأول ذلك حقوق الإنسان. الزلازل الجيوبوليتكية التي حدثت في تونس ومصر، وتلك التي بدأت بوادر ظهورها في بلدان عربية أخرى، جعلت أوباما أكثر جرأة في الحديث عن حاجة العالم العربي للديمقراطية، وجعلته يقترب أكثر من أفكار المحافظين الجدد، ومن روحهم الاقتحامية.

المحافظون الجدد يستيقظون
لكن الذين تجرئوا أكثر هم الجمهوريون، ومعهم المحافظون الجدد. لقد دبت الحياة إليهم من جديد. وأول من أشار إلى ضرورة أن تهتم الولايات المتحدة بمسألة نشر الديمقراطية في العالم العربي هو، وزير خارجية بوش الأب، جيمس بيكر. قال بيكر: (بالطبع، أنه لأمر ضروري أن نأخذ بنظر الاعتبار، ونحن نطبق سياستنا الخارجية،مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات)، ثم تبعه نيو غنغريش الذي عرف بمناهضته الشديدة لسياسة الرئيس كلنتون، وبعده جاء دور تيم باولنتي.

أما المحافظون الجدد، الطامحون لاستعادة مواقعهم في الانتخابات الرئاسية القادمة، أصحاب نظرية الدومينو، فقد بادر أبرزهم، أليوت برامز، إلى شن هجوم مضاد لاستعادة المبادرة، وتوبيخ إدارة أوباما بسبب ليونة سياسيته الخارجية. وفي مقال نشره في صحيفة الواشنطن بوست، في 29/01/2011 بعنوان ( الاحتجاجات المصرية تظهر أن جورج دبليو بوش كان على حق في مسألة الحرية في العالم العربي) انتقد برامز الرئيس أوباما لأنه (لم يسر على سياسة سلفه الجمهوري جورج بوش، ولم يؤيد الحرب على العراق عام 2003)، ولم يبد اهتماما بمسألة الحريات في العالم العربي، وانتقد موقف أوباما quot;الداعم للمحتجين ولحكومة مبارك، في آن واحدquot;، ورأى أنه جاء ناقصا ومتأخرا. وقال برامز: صحيح، ليس المطلوب منا أن نقدم الديمقراطية للدول العربية لكن، بالمقابل علينا أن نطبق سياسة واضحة وننهج مبادئ تكفل دعم الديمقراطية في هذه الدول.quot;

كيف ستنعكس هذه التطورات على موقف أوباما إزاء العراق؟
التطورات الحالية التي يشهدها العالم العربي، وانعكاساتها على الرأي العام الأميركي، وصعود نجم الجمهوريين بعد فوزهم في الانتخابات النصفية داخل الكونغرس التي جرت قبل أشهر قليلة، واستمرار تدهور الأوضاع المعاشية والخدمية ومحاولات الالتفاف على الانجازات الديمقراطية في العراق بعد مرور نحو ثمان سنوات على الحرب الأميركية تشكل، كلها عوامل مشجعة لدفع الرئيس أوباما لممارسة المزيد من الضغط على الحكومة العراقية، لتمارس بدورها المزيد من الانفتاح باتجاه تطوير وترسيخ العملية الديمقراطية. لماذا العراق دون غيره، أو لماذا العراق أكثر من غيره من الدول العربية؟ لأن السؤال الصعب الذي يحرج الأميركيين هذه الأيام هو، لماذا دعمتم حسني مبارك وزيد العابدين بن علي، وأنتم تعرفون أنهم طغاة؟ وعندما يلح أصحاب هذا السؤال على طرحه فأن الجواب الأميركي هو: لسنا نحن الذين اخترنا الحكام. لكن الأميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، لن يكون بمقدورهم تقديم الجواب نفسه، إذا سئلوا: لماذا تدعمون الحكومة العراقية وأنتم تعلمون أنها تسير في طريق يتقاطع مع الديمقراطية، وتضيق على الحريات العامة، ولا تبذل جهودا حقيقية لمكافحة الفساد المالي والإداري، ولا تقدم الحد الأدنى من الخدمات لمواطنيها، ولا تتم تشكيل الحكومة حتى بعد انقضاء عام على إجراء الانتخابات العامة؟ هنا، لا يستطيع أوباما أن يقول لسنا نحن الذي نختار الحكام، فالعملية السياسية الجارية في العراق منذ 2003 هي كلها، من ألفها إلى يائها، صناعة أميركية. وأوباما لن يكون بمقدوره أن يتذرع، بعد الآن، بذريعة فقدان الأمن داخل العراق، ولا بذريعة الخشية من استفزاز الأنظمة الإقليمية المناهضة للديمقراطية، ولا بذريعة عدم ملائمة الديمقراطية للعالم العربي. ولهذا، فأن أوباما العاقل، المهذب، الحصيف، العارف (على طريقة المستشرقين) بطبيعة المجتمعات المسلمة، كما قال في خطابه بالقاهرة، سيتحول، من الآن وصاعدا، إلى ذئب جمهوري، بثياب ديمقراطية، عله يباري مواقف الجمهوريين الذين سيدخل معهم معركة الانتخابات الرئاسية القادمة. أوباما سيختار من أبواب العالم العربي بابا واحدة يدق عليها، هي باب الحريات والديمقراطية، وإن فعل فهو الصواب بعينه، إذ شتان بين ظروف العالم العربي أبان وصول أوباما للرئاسة، وبين ظروف العالم العربي الآن، وهو يستعد لولاية ثانية، وشتان بين ظروف العالم العربي والعراق عندما دخلته جيوش بوش، وبين ظروفه الآن. في بداية ولاية أوباما كادت المطالبة بالديمقراطية للعالم العربي تكاد أن تكون شتيمة. الآن، وأوباما يستعد لولاية ثانية تحول مطلب الديمقراطية والحريات للعالم العربي مفتاحا للفوز. وما على القوى السياسية العراقية التي تقود العملية السياسية في العراق أن تعرف جيدا هذه الحقائق.