رجل صرعته نزواته
إذا كان مسلم بن الوليد سمي صريع الغواني لقوله: (وما العيش إلا أن تروح مع الصبا / وتغدو صريع الكأس والأعين النجل)، أو لقوله: (إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني / كأسا ألذ بها من فيك تشفيني)، فأن مدير صندوق النقد الدولي، الشيخ الألمعي الوقور المهاب، وباهر الذكاء، دومنيك ستراوس كاهن Dominique Strauss-Kahn (الفرنسيون يسمونه quot;دسكاquot; DSK اشتقاقا من الحروف الأولى لأسمه الثلاثي) راح، فعلا لا مجازا، يستعيد صباه المفقود داخل غرفته في فندق سوفيتيل فغدا ، حقا لا مجازا، أيضا، صريع نزواته التي أيقظها جسد الخادمة السمراء العاملة في الفندق. وبدلا عن (الراح) سقته المرأة الثلاثينية، انتقاما لكرامتها، كأس السم الذي دمر حياته السياسية تماما، ووضع حدا لطموحه السياسي، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من رئاسة الجمهورية الفرنسية.
وحالما تم الإعلان عن فضيحة الفرنسي دسكا، وظهر مقيد اليدين أمام المحكمة، شعرت فرنسا الرسمية بالعار والخزي لما لحق بابنها الذي اختارته ليمثلها في أرفع موقع دولي، وأعلنت الحداد، تماما مثلما تفعل أي دولة تصاب بكارثة وطنية، وهبط سعر اليورو، واضطرب التعامل في أسواق المال. ومنذ شيوع النبأ فأن ما من حديث لوسائل الإعلام الفرنسية، والمنتديات السياسية، ورجال الأعمال، والطبقات الشعبية إلا عنه. بالطبع، كل جهة تتحدث عن دسكا وفقا لموقفها منه، وعلاقتها به.
الاشتراكيون الفرنسيون، أو بالأحرى مناصرو دسكا داخل الحزب الاشتراكي، أصيبوا بالخيبة لأنهم فقدوا الأمل نهائيا بترشحه لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في السنة القادمة. أما منافسو دسكا من فيلة الحزب نفسه فهم يذرفون دموعا غزيرة أمام كاميرات الإعلاميين، لكنهم يفركون أياديهم فرحا، إذا اختلوا بأنفسهم، بعد أن تخلصوا من هذا الفيل العملاق الذي كانت استطلاعات الرأي تمنحه أعلى النسب في سباق التنافس على الفوز برئاسة الجمهورية. خصومه من أقطاب اليمين الحاكم مثلوا دور العاقل الحكيم، وأصدر كبيرهم، الرئيس ساركوزي، تعليمات صارمة لطاقمه الوزاري ولكبار قادة حزبه أن لا يدلوا بأي أراء حول هذه القضية، حتى لا يظهروا بمظهر الشامت المتشفي، لكنهم لم يستطيعوا ضبط أعصابهم والابتهاج بهذا النبأ السعيد. الجالية اليهودية كاد أبنائها أن يصابوا بالسكتة القلبية، كيف لا وها هو واحد من ألمع أبنائها يقضي نحبه السياسي على حين غرة. مناصرو إسرائيل أصابهم غم شديد لفقدان الرجل الذي قال مرة أنه quot;يفكر كل صباح كيف سيقدم خدمة لإسرائيل.quot;
والطبقات الشعبية ؟ اهتمت بالنبأ ربما أكثر من غيرها، ولكن لأسباب مغايرة، و بطرق مختلفة. البعض وجدوا في أخبار هذه (الكارثة) السياسية بمثابة مسلسل تلفزيوني شعبي يتمتعون بمشاهدة حلقاته على شاشات التلفزيون كل مساء، بعد أن يعودا منهكين من العمل. آخرون راحوا يتسلون بتعداد عشيقات دسكا، وربما بالغوا في أعدادهن. بعض ثالث رأوا أن ما فعله دسكا يفعله كل أفراد النخب السياسية في فرنسا، وربما ذكروا أسمائهم واحدا واحدا. وهولاء وأولاءك ينسون دسكا وعشيقاته وصندوق النقد الدولي والانتخابات الفرنسية والساسة كلهم، حالما يدب النعاس في العيون، فمشاغل الحياة اليومية وصعوباتها بانتظارهم في ساعات الفجر القادم.

السلطة الرابعة تصدر حكمها بالإعدام شنقا حتى الموت السياسي
القاعدة القانونية في جميع الأنظمة القضائية تقول، المتهم بريء حتى تثبت أدانته. لكن كلاما كهذا يصح على عامة الناس، أما النجوم والمشاهير فيحاكمون مرتين، الأولى أمام القضاء، وهذه محاكمة سهلة تستغرق فترة محددة، و تعتمد على الأدلة والقرائن، ويتكفل بها ذكاء المحاميين وقناعات القضاة، وشطارة المتهم. أما المحاكمة الثانية الأصعب، فهي تلك التي لا سقف زمني لها، وتدور وقائعها على صفحات الجرائد، و شاشة التلفزيون، وعبر المذياع، وكاميرات المصورين. فإذا كان المشتغلون في مهنة البحث عن المصاعب والمشاكل يتصيدون المشاهير تصيدا علهم يظفرون بصيد ثمين، إلى حد أنهم تسببوا في مقتل الأميرة ديانا، فما بالك لو جاءتهم المتاعب دون أن يسعوا إليها ؟ كان رئيس صندوق النقد الدولي، قبل هذه الحادثة، يضع ساقا على ساق، وهو يقول لصحافي حالفه الحظ وحظي بمقابلته: quot;نعم، أعشق النساء، وما الضير في ذلك/ تصريحه لصحيفة ليبراسيون الفرنسيةquot;. وكانت زوجته، نجمة التلفزيون الشهيرة تردد أمام من يسألها حول ولع زوجها بالنساء، وفيما إذا كانت تشعر بإحراج: quot; لا. على العكس، فأنا بالأحرى فخورة، أنه لأمر مهم أن يتمتع سياسي ما بقدرة على الأغراء/ مقابلة مع مجلة الأكسبريس.quot; الآن، وبعد أن جرب دسكا من جديد موهبته في الأغراء فسقط ولم يفلح، راح أفراد عائلته ورفاقه في العمل السياسي يتوسلون الإعلاميين أن يحترموا ما يقوله القانون عن براءة المتهم انتظارا لإصدار الحكم. لكن هيهات. فالإعلاميون راحوا ينبشون الأوراق العتيقة وينشرونها على الملأ، فضولا أو انتقاما أو أخلاصا للمهنة: دسكا كان قد تحرش بسيدة هنغارية، دسكا حاول اغتصاب كاتبة بعمر أبنته، دسكا مزواج مطلاق، دسكا متهم باختلاسات مالية، دسكا معروف بخفة أخلاقية لا تطاق، دسكا رجل حسي يركض وراء ملذاته.

عدالتهم وعدالتنا
جرائم الاغتصاب هي اعتيادية، مبتذلة، وقد تتكرر عشرات المرات في اليوم الواحد. ففي فرنسا نفسها تضاعف عدد جرائم الاغتصاب إلى ثلاث مرات خلال العقدين الماضيين، وفي عام 2008 وحده شكلت جرائم الاغتصاب ما نسبته 46 في المائة من مجموع الجرائم. والحادثة التي نحن بصددها لا تختلف كثيرا: رجل يحاول الاعتداء جنسيا على امرأة، ثم يغادر الفندق الذي يسكنه. المرأة الضحية ما كانت تعرف شخصية الرجل، ولا المنصب الرفيع الذي يحتله، لكن إدارة الفندق تعرف، بالتأكيد. وحالما أخبرت المرأة إدارة الفندق اتصلت هذه الأخيرة بالشرطة، وبعد سويعات تم اقتياد رئيس الصندوق الدولي من داخل الطائرة، ومنها إلى مركز التوقيف، ثم ظهر أمام الملايين بالهيئة المزرية التي ظهر بها. وعندما عرض محاميه أن يدفع موكله مليون دولار لقاء عدم حبسه مؤقتا، رفض القضاء العرض، وقال المدعي العام إن المتهم المذكور يملك إمكانيات مالية ضخمة، وبإمكانه أن يفر إلى بلاده فرنسا، وسيكون من الصعوبة استرجاعه، لعدم وجود اتفاقية مشتركة بين البلدين بهذا الشأن، وبعد ذلك تم إيداع المتهم داخل واحد من أتعس السجون الأميركية.
حادثة وتفاصيل كهذه لا يمكن أن تمر أمامنا، نحن سكان العالم العربي، دون أن تثير حسرتنا، وألمنا، أيضا. قد ترد إلى ذهن القراء، وهم على حق أن فعلوا ذلك، حادثة أحد أنجال العقيد القذافي مع خادمة في أحد الفنادق السويسرية، قبل سنة أو أكثر، وكيف هدد القذافي سويسرا بالويل والثبور إن هي سجنت نجله. ولكن حادثة نجل القذافي هذه تعتبر، رغم أهميتها، واحدة من مئات الحوادث التي يتجرع مرارتها الناس البسطاء على أيدي أصحاب الجاه والسلطان والمال في بلداننا. الحصانة في بلداننا ليس للقضاء، وإنما لمن يملك القوة الجسدية والمعنوية: حاكم يسوس العباد بالنار والحديد وينهب ثروات البلاد دون أن يخشى محاسبة أحد، رجل دين يفترس ما يحلو له من النساء دون عقاب، شيخ عشيرة ينتهك القانون دون أن يقترب منه شرطي، عمال أجانب يكدحون في بلدان الخليج في ظروف لا يطيقها حتى الحيوان، لكنهم لا يستطيعون الاحتجاج، مجموعات بشرية ولدت وترعرت في الكويت، ومازالوا يسمون (البدون)، يخشون أن يستيقظوا فيجدوا أنفسهم خارج الحدود، عراقيون أب عن جد ألقى بهم صدام حسين خارج الحدود بحجة التبعية ولم يستعيدوا حقوقهم حتى اللحظة، وأخيرا ها هو حسني مبارك يعامل، حتى بعد إقصائه من منصبه الرسمي، معاملة استثنائية، ويبقى نزيل حبس (مستشفى) هو فندق من خمسة نجوم.

والضحية من يتحدث عنها ؟
منذ الإعلان عن حبس مدير الصندوق الدولي، والجميع لا يتحدث إلا عنه. أما خادمة الفندق الضحية، فما من أحد التفت لمعاناتها، اللهم إلا بعض برلمانيات فرنسيات لا يتجاوز عددهن أصابع اليد، وبعض أصوات خجولة من الناشطات في ميدان الدفاع عن حقوق المرأة. كل ما عرفه الناس عنها هو أن أسمها نفيسة، وهي سمراء البشرة، مسلمة. وعندما قارنا بين عالمنا العربي والدول الغربية الديمقراطية، فنحن لا نعني أن هذه الدول جنة الله على الأرض. فالديمقراطية وحقوق الإنسان وصيانة كرامته في هذه الدول تصبح عوراء وعرجاء، بل جثة لا حياة فيها، أمام سطوة القوة بأنواعها: المال، والنفوذ، وتدخل جماعات الضغط، وإمبراطوريات الصحافة المملوكة، أحيانا، لشخص واحد. ولو عدنا ثانية للحادثة التي نحن بصددها فسنجد أن دسكا قد خلف وراءه في فرنسا، قبل أن يلتحق بوظيفته الحالية، عددا من الزوابع الأخلاقية، بعضها يتعلق بالتحرش الجنسي، وبعض آخر بعمليات غش مالية، لكنه خرج منها كلها كما الشعرة من العجين. وحتى هذه الفضيحة التي هزت العالم، قد يخرج منها سالما، أو أقله بأقل الخسائر. فقد بدأ الحديث منذ الآن عن فتح ممرات معبدة تسلكها الحادثة لتصل نهاية تسعد المتهم، منها أن عاملة الفندق الضحية غير جميلة، وبالتالي فأن ما من دافع جنسي دفع المتهم للتحرش بها، ومنها أن عاملة الفندق حصلت على سكنها الحالي عن طريق الغش، وهذا يعني أنها تكذب، ومنها أن أقارب العاملة يقولون أنها إنسانة طيبة وستتنازل، بالتأكيد، عن حقها الشخصي، إذا اعتذر لها المتهم. وقد ذهبت وقاحة بعض وسائل الإعلام إلى حد القول أن عاملة الفندق مصابة بمرض الايدز، ويخشى أنها نقلت العدوى إلى مدير صندوق النقد الدولي ! وسائل الضغط هذه لا يملكها إلا من يملك القوة، بأنواعها. وإذا كان من يملك الدبابة في عالمنا الثالث المبتلى، وينجح في السيطرة على دار الإذاعة، يتمكن لاحقا من تغيير الأمور من الأسود إلى الأبيض (نتمنى أن تكون هذه الحقبة قد ولت بدون رجعة)، فأن من يملك المال والإعلام في البلدان الغربية الديمقراطية يفعل الشيء نفسه. وعلى أي حال، فأن الوقت ما يزال مبكرا لمعرفة خاتمة هذه الحادثة التي ما تزال تشغل وسائل الإعلام في العالم كله