لو نظرنا خمسين عاما الى الخلف، لرأينا كيف كان المجتمع العربي يتحرك تاريخيا، وكيف كان يعيش في نوع من الليبرالية والمدنية... كانت هناك أحزاب - تتفق معها أو لا تتفق - تمثل شرائح عريضة من المجتمع، وتعمل لأهداف الشعب الاجتماعية. رغم أنها هي أيضا كانت مجبولة بالتسلطية والتطرف وميل الى التقديس. في الحقيقة، إن كل ما موجود من مقومات مشتتة مدنية في المجتمعات العربية اليوم هو ما تبقى من تلك الفترات البعيدة حيث كان لبعض الدساتير العربية سلطان ودور في الوعي المدني. إلا أنها اليوم دساتير مشوهة، وفي كثير من الأحيان مجرد حبر على ورق.

إذ ما إن صعدت الناصرية تيارا قوميا متسيدا إرادة الشعوب العربية، حتى أخذ المجتمع العربي يتزعزع ويفقد طابعه المدني، فبدأت بعض الأحزاب تلعب دور العميل أكثر مما دور الممثل الشرعي عن قضايا شعبها. وبعد نكسة حزيران، أخذ هذا التيار بالانحسار مما سمح الفرصة لصعود حزب البعث السوري وحزب البعث العراقي إلى السلطة، وكل يمثل تيارا ضد الآخر، لكنهما كان يسعيان إلى تحقيق هدف واحد: تحويل الدولة إلى سلطة، والأحزاب إلى أدواة دعائية لها. وقد نجحا إلى حد متطرف في تحقيق ما كانا يحلمان به. وكانت القضية الفلسطينية حجة هذا الصعود وباتت بعض تنظيماتها تابعا يتلقى أوامر من هذا والآخر من ذاك...، مثلما كانت في صعود التيار الناصري القومي. لكن الناصرية على الأقل خاضت حربين لصالح هذه القضية وخسرتهما، بينما البعث بوجهيه، لم يخض إلا حروبا كلامية، وهمية غالبا ما كانت في صالح التوسع الإسرائيلي، حروبا انحدر بفضلها المجتمع العربي من دولة إلى معسكر سلطة، والكاتب إلى كاتب عدل بالمعنى البوليسي، وليس حتى بالمعنى الحقوقي، للكلمة. والمنظّر إلى مبرر للقمع ولجمود المجتمع، بل إلى صمام أمان النظام في حال حدوث شرخ، أما الجماهير فحرمت من المكان العام، وتراجعت الى أماكن العبادة الوهمية، مما شجع انتعاش ومد الأصولية المتشددة وانتشارها.

ذلك إن بعبع إسرائيل الشبحي جعل منه نظاما البعث، وكل حسب أسلوبه وطبيعته المناورة، حجة لتجييش سكان الجوار، فأصبحت سوريا مثلا لها حق التدخل في لبنان... واللعب بمصيره والويل لمن يعارض، فقميص إسرائيل سيرفع بوجهه ويصفى بتهمة الخيانة. خيانة ماذا؟ ولو لا قبضة حسني مبارك، لكانت مصر اليوم حالها حال الوضع في لبنان؛ دولة بلا قرار.
إن ما حصل هو أن كل شعب في كل بلد عربي بات لا يفكر بقضاياه، وإنما يتجاهلها، بانتظار مهدي الانتصار على إسرائيل، وأن يتحول فيه هذا الحزب او ذاك طابورا خامسا يجييش الوضع لصالح نظام البلد المجاور الذي اشتراه. على أن نظام صدام كنظام عراقي غبي مغرور، لم يحظ بحرباوية وخبث النظام السوري (الذي لم يدفع تلك الأموال الضخمة التي صرفها النظام العراقي من أجل صورته الغبية)، فلم تكن له سطوة حقيقية على شعب بلد آخر، كالنظام السوري على لبنان مثلا، ولا على المنظمات الفلسطينيةالتي عرف كيف يشرذمها النظام السوري بيادقَ في شطرنج مناوراته. في الحقيقة، إن نظام صدام
لم يكن بطلا إلا مع العراقيين، فصب جام غضبه عليهم مدمرا ملامح المجتمع العراقي المدنية (بمساعدة رعاع الطوائف كلها) تدميرا لم يخرج منه العراق حتى بعد مرور 8 أعوام على زال صدام.

اليوم، بفضل الفيسبوك أو بسبب بلوغ سيلالكبت الزبى، حصلتquot;ثوراتquot; من نوع جديد، وانتصاراتها اعتمدت على لينة أو خشونة النظام الذي تريد إزاحته (ولو كان هناك في مصر حزب موال للنظام السوري لشهدت القاهرة عمليات انتحارية وتفجيرية كما حدث في العراق).

صحيح انهذه الثورات، التمردات، مزعزعات الركود،سمهابما تشاء (فهل عرفنامعنى لكلمة استقرار؟)، لم تخرج من المعامل، ويا ترى هل هناك وجود للمعامل بالمعنى الماركسي للكلمة، أو ميادين حسب أوراق النظريات الصفراء، أوجامعات كما موجودة في المجتمعات المحكومة بنظام دستوري وليس بسلطة طائفة؟

إن السلطة العربية، بالأخص شكلها السوري، لم تنتبه أنه بحرمان الشعب من مجال عام يتجمع فيه معلنا عن مطالبه الاجتماعية، سيجعل مما بقي له من مكان تجمع، كالجامع الذي هو بالأساس مكان تنفيس عن الآلام، منطلقا للتنفيس الأكبر: المواجهة. قام الشعب السوري ببطولة وهي الخروج من الجامع إلى الشوارعبحثا عن فضاء مدني، على عكس المصريين الذينحولوا الشوارع الى جامع للصلاة.ومن المغارات التي دفع النظام السوري الشعب الى أنيتجمع فيها، تخرج النيران لتلتهم ابراج سلطانه!

اليوم هناك خطر كبير: اسمه الخطر السوري/ الإيراني... هذان النظامان ينتظران انتهاز فرصة تخريب بلدان تحررت من السلطة وأصبحت مفتوحة كمصر أو تونس... هذان النظامان لهما طابور خامس في العراق: النظام العراقي، وفي لبنان: حزب الله. لكن إذا سقط النظام السوري، سوف لن يكون ثمة خطر كبير من النظام الإيراني، فالعاصفة آتية عليه بلا شك.

ولإزاحة هذا الخطر السلطوي الذي يريد احتواء التغييرات الاجتماعية الجديدة، والانتفاع منها على الأسلوب عينه المتبع منذ ثلاثين عاما في لبنان... يجب مساعدة الشعب السوري في انتفاضته، بل يجب التركيز كله على اسقاط نظام الأسد: بالتظاهر السلمي كل يوم، بحث شباب الفيسبوك العربي كلهإلى تعرية عنف النظام السوري وبشاعته من أجل البقاء.

إن بقاء نظام الأسد، حليف إسرائيل الموضوعي، يعني بقاء شوكة في بلعوم المجتمعات العربية، تمنعها من هضم التجربة الجديدة هضما ديمقراطيا.

إن بقاء نظام الأسد هو تدمير للبنان، الأردن، الخليج وللمجتمع العربي بأكمله (العراق تكفل به، سلفا،النظام الإيراني). ومن الآن فصاعدا يجب الانتباه إلى حقيقة كل حزب وتنظيم، والتأكد من برنامجه إذا كان فعلا حزبا اجتماعيا ولأسباب اجتماعية واضحة، وليس شبكة؛ خلية مبعوثة.

إن ما يردده الببغائيون (حليفو السلطة السورية المقنعون) بأنه من الضروري المرور بالتعليم والإعداد والتنسيق النظري المسبق، لهو مجرد سفسطة تصب في صالح النظام السوري الذي يعرف أن هذا الكلام، مثل مئات الكتب التي يطبعها حول المجتمع المدني،ليس سوى استمناءات منظرين صغار كشفت عورتهم احتجاجات الفيسبوك... لكن، لأنه كلام فارغ، يحتاجهالنظام السوري غطاءً يخفي بها عورته الحقيقية.

بعد خمسين عاما من الدمار والخراب والظلم والطغيان، لابد أن تكون حتى عقلية السلفيين قد تطورت إلى حد أن تنبذ شعارات من نوع: quot;العنف وحده طريق العرب إلى النصرquot;... فسلمية مظاهرات شباب الفيسبوك علمتهم أن يبدؤوا بالتفكير السلمي والدستوري. وهذا عين ما لا يحلم به النظام السوري القائم فكرا وروحا على الخراب والتدمير. وليس صدفة شعرية (الشعر لا يفرح بخراب البشر) أن كتب ادونيس في احد أعداد مواقف بعد الاجتياح السوري للبنان: quot;ما اجملك أيها الخرابquot; نعم ما أجمله بعين الجلاد الذي لو لا هذا الخراب لما كان له وجود.

اليوم هو بدء صراع ككل صراعات الحروب الأهلية التي شهدتها المجتمعات الإنسانية قبل أن تبني مجتمعات مدنية تُحترم فيها حرية التعبير، وحقوق كل إنسان مهما كان لونه أو دينه أو انتماؤه السياسي.

ليأخذ المدُّ مداه، فهو بادئة الخروج من إرادة العبودية إلى إرادة اختيار القدر الإنساني...

آن وقت فتح المجتمع العربي كله على هاوية مصيره: فإما مجتمع مدني حضاري الممارسة والتفكير، أو مجتمع تتجاذبه الصراعات من كل نوع إلى نهاية مجهولة. ومع هذا فإن الشيء المؤكد أنه حتى في التوقع الأسوأ، ستكون للمجتمع العربي فرصة الخروج وبلوغ سن الرشد العقلي والنمو الحضاري، أكثر مما له في ظروف اليوم حيث لا إرادة، ولا مستقبل ولا حتى موت نظيف:

بلدٌ
أنْ يولدَ
في الموت الذي فيه.