رئيس البرلمان العراقي لم يكفر إنما نقل كفر مواد دستورية

ما تزال ردود الأفعال تتوالى على التصريح الذي أدلى رئيس مجلس النواب العراقي، السيد أسامة النجيفي. وكان النجيفي قد ظهر في برنامج تلفزيوني إثناء تواجده في زيارة رسمية في العاصمة الأميركية في نهاية حزيران الماضي، وسأله المذيع السؤال المحدد التالي (ونحن نورد السؤال والجواب بالنص الحرفي):
quot; كيف تقيم وضع السنة في العراق الآن ؟ quot; فأجاب النجيفي: quot; الانطباع الذي لدي من خلال اللقاءات والزيارات حقيقة الأمور أنهم يشعرون بالإحباط الشديد، ويشعرون أنهم مواطنون من الدرجة الثانية ويشعرون أنهم غير مشاركين حقيقة في السلطة، وهذا أمر خطير يجب أن يعالج بحكمة وبسرعة قبل أن تتطور الأمور إلى التفكير بنوع من الانفصال والإجراءات التي تضمن الحقوق. على بغداد أن تنتبه أنها يجب أن تكون عادلة مع الجميع. نعم، مشروع الأقاليم يدور بقوة في المناطق السنية وهذه خطوة ممكن أن تعطيهم نوع من الاستقلالية والكيانات، ونخشى إذا لم تتم إدارة الأمور بمستوى عال من المسؤولية أن يتفكك البلد لاحقا، اعتقد أعطاء الحقوق للناس والمشاركة السياسية والدستورية وعدم الضغط على المحافظات العراقية ممكن أن يعالج الأمور.quot;
رئيس البرلمان العراقي لم يدع، كما قرأنا، إلى انفصال السنة، وإنما عبر عن خشيته ومخاوفه أن quot;تتطور الأمور إلى التفكير بنوع من الانفصالquot; لدى السنة. أما مسألة تكوين الأقاليم فأنها ليست بدعة ابتدعها النجيفي من عندياته، إنما هي نصوص موجودة في الدستور. والنجيفي على حق، عندما قال، في مؤتمر صحفي عقده في بغداد بعد عودته، بأن quot;من يرفض فكرة الإقليم فليعدل الدستور، من دون القفز عليه.quot;
مع ذلك، فأن تصريح النجيفي أثار ردود أفعال عاصفة غاضبة لدى السياسيين العراقيين، السنة والشيعة، ما خلا الكتلة الكردية (وسنناقش، في القسم الثاني من هذا المقال، خصوصية الموقف الكردي). ووصفت بعض كبريات الصحف العراقية التصريح بأنه (قنبلة)، وعده البعض تجاوزا للخطوط الحمراء، وطالب نواب باستجواب النجيفي.
وعلى المستوى الرسمي، شجب رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، الذي يعتبر، وفقا للدستور العراقي، أهم وأرفع شخصية في الدولة العراقية (لا ننسى هو، في نفس الوقت، زعيم حزب إسلامي شيعي)، تصريح النجيفي، وقال، بنبرة استنكارية غاضبة وحزينة، إن النجيفي quot;تحدث عن الانفصال، بمعنى هو تقسيم للعراق، وهذا مخالف للقسم (الدستوري)quot;، وقال أن تصريح النجيفي quot;شكل صدمة للجميعquot;، وأكد المالكي أن quot;قناعة العراقيين ترفض فكرة الانفصال وتقسيم العراقquot; لأن quot;فكرة الانفصال خسارة للجهة التي تتبناها ولا يأتي بمصلحة لأي طرف.quot;

مؤشرات تحسب للعملية السياسية، لا عليها
تصريح رئيس البرلمان، والتوضيح الذي قدمه فيما بعد، وتعليق رئيس الوزراء، وقبله وبعده جميع ردود الأفعال الغاضبة ( ونحن نعرف أن البعض اجتزأ التصريح، عامدا متعمدا، والبعض الأخر استخدمه لحسابات ولأجندات ولأغراض حزبية خاصة، وآخرين استخدموه للطعن والتشهير بشخص رئيس البرلمان، أو القائمة التي ينتمي إليها) إنما هي مؤشرات إيجابية. إنها تعني أن أي حديث عن تقسيم العراق إلى أقاليم شيعية وسنية أضحى تجديفا سياسيا يلقي بقائله إلى التهلكة السياسية، وأن مسألة التقسيم البلاد على أساس مذهبي أصبحت وراء ظهورنا. وهذا كله يعني أن العملية السياسية العراقية دخلت في طور النقاهة، وأنها بدأت تتعافى وتنضج ( قلت بدأت، ولم أقل تعافت، ونضجت).
نضج العملية السياسية الذي أشرنا إليه توا، وبالأحرى بداية النضج، لا يمكننا أن نلمسه إلا عندما نعود لثمان سنوات خلت، أو حتى لثلاث سنوات، ونقارن بين ما كانت عليه الأوضاع وقتذاك، وما هي عليه الآن. لو أن النجيفي، أو أي قائد سياسي آخر يحتل منصبا متقدما، أدلى بتصريح كهذا في تلك الفترة لكان تصريحه قد مر مرور الكرام، وما أثار حفيظة أحد. وقتذاك، كان الاحتقان المذهبي على أشده، وكانت عمليات التشهير والتسقيط المتبادلة على أوجها، وكانت الريبة والشكوك المتبادلة هي القانون السائد، وكانت لغة السلاح هي الوحيدة المستخدمة، وكان الحديث عن الأقاليم أو الكانتونات المذهبية، أو حتى التقسيم، يجري على الشفاه كالبسملة. باختصار، كانت السفينة العراقية على وشك أن تغرق نهائيا. ويكفي أن نعيد للأذهان التصريح البائس واليائس لنائب الرئيس الأميركي، بايدن، حول تقسيم العراق، ويكفي أن نعيد للأذهان ما قاله المالكي، مرارا وتكرارا، بأن كثيرين نصحوه، قبل ولايته الأولى، أن لا يورط نفسه ويصبح رئيسا للوزراء لأن السفينة العراقية، على حد قولهم، غارقة لا محال، ولا جدوى أطلاقا من أي محاولة لإنقاذها.

السياسيون العراقيون تنقصهم رؤى وطنية ناضجة
هل أن العراق، الآن ونحن في عام 2011 كما كان في عام 2003، عام الفوضى العمياء العارمة، أو في عام 2005، عام التصويت على الدستور وسط مقاطعة أغلبية العراقيين السنة، أو في الأعوام التي تلت عام 2008 بعد تفجير سامراء، أعوام الجثث المرمية على أرصفة الشوارع ؟ قطعا، لا، فقد تحسنت الأمور كثيرا، وتقدمت العملية السياسية إلى الأمام، قياسا ببدء انطلاقتها عام 2003. لكن، لمن يعود فضل التقدم ؟ للنخب السياسية، أم للمجتمع المدني ؟
عندما نقول (العملية السياسية) فنحن نعني، كما هو شائع، أفكار ورؤى واجتهادات وتطبيقات وتساؤلات، وقوانين ، ومشاريع وصيغ، وعمليات حذف وإضافات، وتعديلات، واستحضار تجارب سياسية سابقة، محلية وأجنبية للاستفادة منها. وعندما تبدأ عملية سياسية، فليس لكي تستمر إلى ما لانهاية، وإنما لتصل إلى مخرج متفق عليه من الجميع، ولو بالحد الأدنى. وبالطبع، فأن هذه النشاطات التي ذكرناها لا تتحقق وتنجز وحدها، إنما ينجزها بشر، هم، من جهة سواد الناس، أو الأكثرية، أو الجماهير، أو المجتمع المدني، ومن جهة ثانية السياسيون، أو الطبقة السياسية، أو النخب السياسية، أحزابا وكتل حزبية وأفرادا. والمعروف، في كل زمان ومكان هو، أن النخب السياسية التي تقود وتنفذ العملية السياسية، وتصنع القرارات الكبرى، يفترض بها أن تكون الأكثر نضجا ووعيا وشجاعة من سواد الناس أو الجماهير، لأن النخب هي الصفوة، أو زبدة الزبدة. وكما يقول المفكر الفرنسي غوستاف لو بون Gustave Le Bon (1841-1931) فأن quot;التقدم الديمقراطي الحقيقي يحدث عندما ترتفع الجماهير إلى مستوى النخب، وليس عندما تهبط النخب إلى مستوى الجماهير.quot;
هل العراق، منذ عام 2008، يخضع لقاعدة كهذه ؟ لا نعتقد ذلك، بل هو العكس، أي أن تقدم العملية السياسية حدث عندما ارتفعت النخب السياسية إلى مستوى الجماهير.
في الواقع، أن ما يحدث في العراق منذ ثمان سنوات هو، ربما، أمر فريد في غرابته في عالم السياسة. ما يحدث هو، أن الأكثر استيعابا ومرونة وتفهما لتعقيدات الواقع العراقي، و الأكثر نضجا، و الأكثر شجاعة، و الأكثر صبرا واستعدادا لتقديم التضحيات، و الأكثر انفتاحا، ليست النخب السياسية، إنما المجتمع المدني. المجتمع المدني العراقي ظل خلال السنوات الثمان الماضية هو (النخبة) الواعية القائدة، التي تصنع الحدث، والنخب السياسية هي التي تلهث وراء الحدث. كيف ؟
نعرف أن الإلحاح، فور سقوط النظام السابق، على إقامة دولة دينية، والمحاصصة بأنواعها، والشحن والتحريض المذهبي، ومن ثم الاقتتال الطائفي، والتلويح بتقسيم البلاد على أساس مذهبي، واستغلال الدين والمذهب لأغراض سياسية وحزبية ضيقة، وفرض ثقافة البعد الواحد، وتطبيق سياسة التحريم الديني في الثقافة والحياة، والفساد المالي والإداري، والمحسوبية، وتوزيع الوظائف الكبرى والصغرى كما توزع الغنائم، والاستيلاء على ممتلكات الدولة، والإبطاء في أعمار البلاد، وعدم ثبات الأوضاع الأمنية، وعمليات التخوين المتبادلة، والاستقواء بالقوى الأجنبية غير العراقية، والاعتماد على مليشيات مسلحة بالضد من القوانين الرسمية المعمول بها، وزرع الدستور بمواد دستورية هي الألغام عينها، والتهديد بها كمستند دستوري لتقسيم العراق، هي كلها من صنع الطبقة السياسية، وليست من صنع المجتمع المدني.

الجماهير أجبرت النخب السياسية على تغيير مواقفها
وبينما ظل المجتمع المدني واضحا في رفضه لتلك الحالات، ولم يغير ويبدل مواقفه، فأن الطبقة السياسية هي التي ظلت تبدل مواقفها، أو تغيرها أو تتنازل عنها، أحيانا، لتصبح مقبولة من الشارع العراقي. والأمثلة كثيرة على ذلك، لكننا سنذكر بعضها. فالدستور العراقي المعمول به حاليا كتبته النخب السياسية، ولم يحظ بموافقة شاملة من المجتمع المدني. ولكن عندما استمر المجتمع المدني في انتقاده للدستور، عادت النخب السياسية نفسها التي كتبته، فبدأت تطالب بتعديله، كما ورد مرارا على لسان رئيس الوزراء الحالي. وعندما شرعت النخب السياسية، عن طريق المليشيات التابعة لها ، بتنفيذ عملية أسلمة المجتمع بقوة السلاح، وراحت تطبق سياسة التحريم بمهاجمة محلات الموسيقى ومنع الغناء، ومنع الاختلاط في الجامعات، وغلق أماكن الترفيه الاجتماعية، وفرض زي ديني موحد، والمطالبة بأن يرافق المرأة الموظفة واحد من محارمها يتقاضى راتبه من خزينة الدولة، وحتى لعن و تفسيق من يمارس لعبة كرة القدم، فأن المجتمع المدني أعلن رفضه لهذه الممارسات، ونجح في تغيير الأمور، إلى حد كبير، عندما بدأت النخب السياسية تتراجع عن مواقفها السابقة، وتعلن (ونعرف أنها تتذاكى) أنها ليست مع (سياسة التحريم، بل التنظيم)، في مسعى منها لترضية الشارع العراقي. وعندما شكلت النخب السياسية المليشيات لم يرحب بها المجتمع، وظل يرفضها، وهذا الرفض هو الذي شجع رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي، على خوض معارك ضد نفوذ المليشيات في البصرة، فحصد بفعله ذاك شعبية واسعة. وعندما أدركت النخب السياسية أن المجتمع المدني يرفض التقوقع المذهبي، فأنها راحت تجاري المزاج الشعبي، واضطرت أن تسمي قوائمها الانتخابية بمسميات وطنية عابرة للمذاهب، مثل (دولة القانون) و (العراقية) و الائتلاف (الوطني). وبالطبع، لا ننسى أن الذي أرسى دعائم التحسن الأمني وعبد الطريق أمام عودة السلم الأهلي، وقدم تضحيات باهضة، هي الجماهير ( الصحوات) عندما تصدت بشجاعة لتنظيم القاعدة، بينما كانت النخب السياسية، المؤيدة والمعارضة لتنظيم القاعدة، تستخدم القاعدة لأغراض سياسية خاصة.

فرص ذهبية وفرتها الجماهير وضيعتها النخب
وحتى عندما تحاول النخب السياسية أن ترتقي إلى مستوى نضج الشارع العراقي فأنها تفعل ذلك على استحياء، أي أنها لا تفعل ذلك بطريقة (كسر العظم). وقد توفرت أمام النخب السياسية، كلها، فرص ذهبية، وفرها الشارع العراقي، وكان بإمكانها ، لو استغلت، أن تحدث تغييرا جذريا في الخارطة السياسية، وتجنب العراقيين الكثير من المشاكل التي ما يزالون يواجهونها وتنغص عيشهم، لكن الطبقة السياسية لم تستغلها. لقد توفرت مثل هذه الفرص الذهبية أمام المالكي مرتين، الأولى عندما وقف في منتصف الطريق في حربه ضد المليشيات، التي ابتدأها في البصرة وسط تأييد شعبي عارم من الشيعة والسنة. والمرة الثانية عندما شق المالكي عصا الطاعة المذهبية وخاض الانتخابات الأخيرة بقائمة منفردة، لكنه توقف في منتصف الطريق ورفض أن يشكل مع القائمة العراقية كتلة برلمانية موحدة، وعاد إلى بيت الطاعة الذي غادره. وبدورها فرطت القائمة العراقية بفرصة ذهبية عندما رفضت أن يكون المالكي رئيسا للوزراء وأن تؤلف مع قائمته كتلة برلمانية تحظى بالأكثرية، وأصرت على حقها الانتخابي. وفرط التيار الصدري، هو الآخر، بفرصة وطنية بعد فوزه الكبير في الانتخابات الأخيرة، عندما لم يعلن حل أذرعه العسكرية نهائيا، كجيش المهدي ولواء اليوم الموعود، ويتحول إلى حزب سياسي ببرنامج سياسي واضح، وعندما رضخ للضغوطات، ولم يدخل البرلمان بقائمة مستقلة يجعلها في خدمة (أي) كتلة برلمانية يرى أنها تخدم العراق أكثر من غيرها. مع كل ذلك، فالجميع يتحدث عن نبذ الطائفية، ويؤكد حرصه على الوحدة الوطنية.

فكيف نفسر ذلك ؟