الحديث عن الشيوعية وأحزابها، ونحن الآن في عام 2011، وبعد كل ما حدث من انهيارات، يذكرنا بالمثل القائل: الناس راجعة من الحج، وفلان ذاهب. فإذا كانت أوربا الغربية الصناعية، موطن البروليتاريا، والمكان الذي صيغ فيه البيان الشيوعي، لم تعد بحاجة لوجود أحزاب شيوعية، فهل أن المجتمع العراقي، كما نعرفه حاليا، بحاجة لوجود حزب شيوعي ؟ هذا السؤال قد يساعدنا في الإجابة عليه سؤال آخر هو: كيف نفسر، ليس فقط ظهور الحزب الشيوعي في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، وإنما توسعه، وتحوله فيما بعد إلى أكبر قوة سياسية في البلاد، وهو أمر لم يحدث في الكثير من بلدان أوربا، علما أن المجتمع العراقي كان وقتذاك أكثر انغلاقا، وأكثر تشددا في كل المجالات، من العراق حاليا وأوربا آنذاك ؟ نعتقد أن تفسير ذلك لا تقدمه لنا الايدولوجيا، وإنما السوسيولوجيا. بمعنى آخر، ليست آيدولوجية الحزب الماركسية هي التي كانت وراء انتشاره. ورغم تأكيد مؤسس الحزب، فهد، بأن الحزب الذي يقوده هو، (حزب شيوعي) ) (لا اشتراكية ديمقراطية)، فأن الايدولوجيا، في الواقع النضالي اليومي، ما كانت هي أولوية الأولويات. أولوية الحزب كانت للسياسة ولتركيبة المجتمع العراقي نفسه.
منذ الأيام الأولى لتأسيسه فكر الحزب، ليس بمنطق شيوعي أوربي، وإنما بمنطق محلي عراقي، شرق أوسطي، عالمثالثي. الماركسية، أي الجانب الأوربي، هي ملابس الحزب الخارجية، بينما عقله وروحه، وطريقة تفكيره، وتفاصيل اهتماماته فكانت محلية عراقية. ما من أحد في العراق، بما في ذلك قادة الحزب وفتذاك، كان يعرف عن الماركسية شيئا كثيرا، وما كان الإلمام بها مهما. المهم، أنها الطريق/ الحلم الذي سيقود السير فيه إلى خلق الجنة الموعودة، التي تشرع أبوابها أمام جميع العراقيين، المختلفين في كل شيء ما خلا الفقر والعوز المادي، والطامحين للعيش معا بغض النظر عن اختلافاتهم في الدين والمذهب والقومية والسلالة والعشيرة والمنطقة الجغرافية.

لكن، شيوع الماركسية لاحقا ، حتى بشكلها الغامض، وشيوع أدبياتها وأسماء رموزها السياسية الثقافية والفنية والأدبية، لدى النخب العراقية، أولا، وعند سواد الناس، ثانيا، كان أول جهد، شعبي وواسع، ساهم في عملية الانفتاح الحضاري للمجتمع العراقي إزاء ثقافة وحضارة الغرب، ربما حتى أكثر مما فعلته المؤسسات التعليمية الرسمية في البلاد. الأمر الآخر هو، أن غموض الماركسية لم ينفر العراقيين منها، بقدر ما أضفى عليها قدرا من الجاذبية الساحرة، خصوصا في ما يتعلق بجانبها التوحيدي لكل الملل، داخل عراق تتساكن فيه ملل كثيرة مختلفة، وربما متصارعة، ويعاني سكانه من الفقر والظلم. وألا، من كان يعرف من العراقيين، في النخب قبل العامة، شاعرا فرنسيا أسمه Eugegrave;ne Pottier ولد عام 1816، ومن يعرف ماذا تعني كومونة باريس، ولماذا حدثت ؟ ليسوا كثرة، على أي حال. لكن عندما كانت تتردد كلمات الفرنسي بوتيه: (هبوا ضحايا الاضطهاد ضحايا جوع الاضطرار... غد الأممية يوحد البشر) فأنها تلامس عواطف وآمال عراقيين كثيرين. لماذا ؟
لو عدنا إلى المجتمع العراقي في بداية الثلث الأول من القرن الماضي، فسنجد: مسلمين، مسيحيين، صابئة، يهود، أيزيديين، عرب، أكراد، تركمان، يتساكنون على بقعة جغرافية واحدة. كل هولاء يبحثون عن خيط يربط بينهم حتى يتمكنوا أن يعيشوا سوية داخل الدولة/ الأمة حديثة التكوين أسمها العراق. نظريا، ومنطقيا كان يفترض أن تكون الدولة العراقية الفتية هي ذاك الخيط. لكن الدولة العراقية ما كانت كذلك، لأنها منذ لحظة تكونها، لم تنجح تماما لأن تكون ممثلة بشكل متوازن لكل المكونات العراقية. القوة الأساسية والكبرى وقتذاك داخل المجتمع العراقي هي العشيرة، لكن العشيرة غير قادرة أن تقبل في صفوفها، بحكم طبيعتها، إلا على أفراد بعينهم، أي أبنائها، الخارجين للدنيا من رحمها الواحد. أما الأحزاب الأخرى التي ظهرت في العراق فأنها لم تكن قادرة على استيعاب (جميع) العراقيين، أما لأنها تعتمد علاقة الدم، أو العرق، كمعيار لقبول أعضائها، كالأحزاب القومية العربية والكردية، أو أنها تهتم بمصالح شرائح معينة داخل المجتمع، كالحزب الوطني الديمقراطي، مثلا. وحده الحزب الشيوعي تصدى لمهمة جمع الجميع، أي جمع كل المكونات العراقية، لكن ليس كقبائل متحالفة، ولا كمكونات، أو جزر متباعدة ترتبط بممرات برية، ولكن كمجموعة بشرية واحدة متحدة عضويا، أسمها (شعب)، يعيش على بقعة جغرافية محددة، أسمها (وطن)، وهذا الوطن يجب أن يكون (حر)، أي يدير شؤونه العراقيون أنفسهم (السيادة الوطنية)، بعيدا عن أي سيطرة أجنبية، ويجب أن يستثمر ثرواته بنفسه، وتوزع على الجميع بشكل عادل، ليكون الشعب (سعيد). هي يوتوبيا، أو حلم، لكنها ضرورية، ولا بد من الاعتماد عليها، لخلق شيء أكثر ملموسية (هوية المواطنة الواحدة) من رخاوة وهشاشة المجتمع العراقي، ذو الهويات الفرعية المتعددة المنغلقة على نفسها. وهذه الفكرة هي نفسها التي، ويا للمفارقة، دأب على تبنيها ونشرها مؤسس الدولة العراقية الحديثة، الملك فيصل الأول، عندما تحدث في بداية عهده عن ضعف الدولة إزاء قوة العشائر، وعن العوامل التي تعرقل نشوء أمة عراقية.

ولكي ينجح الحزب الشيوعي في إنجاز تلك المهمة الوطنية التوحيدية، والاجتماعية التنويرية، فأنه تحمل أعباء كان يفترض أن تنهض بها أحزاب مختلفة، ومنظمات مجتمع مدني متعددة: وطنيا، سعى للتخلص من السيطرة الأجنبية، وقيام نظام وطني يوفر الحريات الديمقراطية، ويساوي بين جميع العراقيين. طبقيا، طالب بإعادة توزيع الثرة الوطنية بشكل عادل. أمميا، طالب بمنح الأكراد حقوقهم، حضاريا، جهد من أجل تحسين ظروف النساء، ومكافحة الأمية بين الفئات الشعبية. ثقافيا، خلق جسورا من التواصل بين الثقافة المحلية والعالمية، قوميا، كافح ضد الصهيونية، وطالب بقيام دولة فلسطينية، وفق رؤيا متقدمة، واقعية، عقلانية، أساسها قيام دولتين فلسطينية إسرائيلية. وخلال سعيه لتحقيق هذه المهمات حرص الحزب منذ البداية، وبتوجيه من مؤسسه فهد، أن يتجنب، ما أمكنه، الاصطدام الفج مع أي جهة مؤثرة داخل المجتمع، لا مع المؤسسة الدينية، ولا مع المؤسسة العشائرية، ولا مع العادات والتقاليد المحلية، حتى التي يرفضها، أصلا. وفي ما يخص علاقته مع الأحزاب السياسية، ظل شعاره دائما: (قوا تنظيم حزبكم، قوا تنظيم الحركة الوطنية)، حتى لا تستفرد به وحده السلطات الحاكمة. الجهة السياسية الوحيدة التي خاض معها صراعا قويا، وأكثر الأحيان مريرا ودمويا، كان حزب البعث. والسبب أن الحزبين كانا يتصارعان على ساحة واحدة، ويتنافسان على كسب نفس الفئات الاجتماعية، ويرفعان شعارات طبقية متقاربة. ولهذا، فأن أول ما فعله البعث عندما وصل للسلطة ثانية عام 1968 هو، إصراره العنيد على سحب البساط من تحت أقدام الحزب الشيوعي، عن طريق رفع وتطبيق نفس شعاراته: منح الحكم الذاتي لكردستان، إطلاق سراح السجناء السياسيين وعودة المبعدين، تأميم النفط، رفع مستوى دخل الفرد، عقد معاهدة صداقة استرانيجية مع الاتحاد السوفيتي، والاعتراف بألمانيا الديمقراطية ( كان هاتان المنجزان يعتبران في العراق وقتذاك، أنجازيين تقدميين يساريين) تعميق الإصلاح الزراعي، الاهتمام بأوضاع المرأة. وعندما تيقن البعث، بمرور الأيام، بأنه أضعف (الحركة الوطنية)، ولم يبق أمامه غير الشيوعي، فأنه سدد إليه ضربة ماحقة، لم يفق منها إلا بعد سقوط البعث عام 2003.
لكن، عندما عاد الحزب لممارسة نشاطه العلني على الساحة العراقية عام 2003 كانت الأرض قد دارت على نفسها ألف مرة، محليا وإقليميا وعالميا. بالطبع، الحزب الشيوعي عاد إلى العراق عام 2003، ليس وحيدا، إنما مع بقية أحزاب المعارضة العراقية، إنما الفرق شاسع في الحالتين. الأحزاب الأخرى، ومعظمها إسلامية مذهبية، عادت وكل الظروف ملائمة لنشاطها وازدهارها، بينما وجد الحزب نفسه ينشط في ظروف محلية صعبة للغاية. فالمعروف أن الفئتين الاجتماعيتين الذي ظل الحزب، تاريخيا، يعتمد في وجوده عليهما هما، الفئات الشعبية، والطبقة الوسطى. الأولى بمثابة جسده، والثانية هي الداينمو المحرك للجسد. الداينمو كان، في واقع الحال، ميتا، وفي أحسن الأحوال مشلولا، لا يقوى على الحركة، بفعل الحصار الاقتصادي، والحروب. والفئات الشعبية كانت أكثر تعبا. وعندما اندلع الاقتتال الطائفي تحولت هموم الجميع إلى هم واحد هو، البقاء على قيد الحياة. الصعوبة الأخرى هي، أن الحزب وجد نفسه يعيش في غربة لم يألفها طوال حياته، إذ أن الغالبية العظمى من العراقيين (مثلا، الذين ولدوا عام 1960) لم يسمعوا باسم الحزب، ولم يعرفوا عنه شيئا، وإذا كانت لديهم معلومات فهي معلومات تشهيرية ضد الحزب وليس لصالحه.

في أوضاع وظروف كهذه كان مجرد بقاء الحزب على قيد الحياة يعتبر نجاحا. رغم ذلك، استطاع الحزب أن يواصل نشاطه، ويفتح له مقرات في أنحاء كثيرة في البلاد، ويكسب أنصارا جدد، معتمدا على قوته العارية، وليس على القوة المسلحة (ليس فقط بمعنى السلاح الفعلي)، مثلما الحال عند الأحزاب العاملة الأخرى.
هل سيحقق الحزب نجاحات، أم سيتراجع، وربما قد يضمحل ويختفي تماما، خصوصا مع وجود المئات من منظمات المجتمع المدني ؟ بقاء الحزب ونجاحه يعتمد على مسألتين جوهريتين، أولهما استتباب الأوضاع الأمنية، وترسيخ النظام الديمقراطي، مثلما أن مقتله يكمن في التدهور الأمني، والاحتقان الطائفي، ونشوب حرب طائفية، وتقسيم البلاد إلى مقاطعات سنية وشيعية. أما وجود المنظمات المدنية فهو لم يلغ الحاجة لوجود أحزاب سياسية، حتى في أوربا، موطن هذه المنظمات، لأن طبيعة وعمل المنظمات شيء، وطبيعة ونشاط الأحزاب السياسية شيء مختلف. وعلى أي حال، فأن نجاح الحزب في نشاطه سيضمنه استمراره في التخلي عن الشعارات الأيديولوجية، أكثر وأكثر، وفي تخليه عن أن يكون حزبا جماهيريا كما في العقود الماضية، وأن يصبح قوة سياسية وطنية توحيدية تنويرية، بهوية اجتماعية طبقية تستوعب جميع العراقيين الطامحين لتحقيق عدالة اجتماعية، كما كان عليه الأمر في بداية تكون الحزب. هذه عملية صعبة، وربما أكثر صعوبة مما كانت علية أوضاع العراق قبل سبعين عاما. لكن ما يشجع الحزب الشيوعي هو، أن شعاراته التي رفعها منذ عام 2003، كمحاربة المحاصصة، والإلحاح على قيام دولة القانون والمؤسسات، واحترام المواطنة، وإشاعة الديمقراطية، أصبحت تتردد الآن كالبسملة على ألسنة جميع القوى السياسية العراقية.