تنادت قوى سياسية مصرية عديدة لإقامة مظاهرات مليونية يوم الجمعة 27/مايو/2011 في القاهرة وبقية المحافظات، أطلقت عليها تسمية (جمعة الغضب الثانية) أو ( مليونية تصحيح المسار). ومن المطالب التي ينوي المشاركون رفعها: إجراء حوار مجتمعي قبل إصدار أي قانون جديد، تشكيل مجلس رئاسي مدني، إسقاط الإعلان الدستوري والدعوة للجنة تأسيسية لدستور جديد وإلغاء المحاكمات العسكرية وتحويل المتهمين إلى القضاء المدني، والإسراع في تطهير البلاد من مخلفات النظام السابق، ومحاكمة قتلة الشهداء ولصوص المال العام، وإسقاط قوانين التظاهر والاعتصام والأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية.
جماعة الأخوان المسلمين رفضت المشاركة ووصفت هذه المظاهرات بأنها quot;ثورة ضد الشعب وأغلبيته، وتهدف للوقيعة بين الشعب والقوات المسلحة.quot; وقالت إن هذه المظاهرات ينادي بها quot;العلمانيون والشيوعيون ضد أرادة الشعبquot;، وأعلنت أنها quot;تحترم دور المؤسسة العسكرية في حماية الثورة والشعب.quot; أما الجماعات السلفية، الظهير الاستراتيجي للأخوان، فأنها اعتبرت المظاهرات المنوي تنظيمها quot;خروجا على الحاكم وإقصاء الشريعة الإسلاميةquot;، وقالت إن المظاهرات ينادي بها quot;العلمانيون والليبراليون والكفرة والملحدون.quot; واكتمالا لما تسعى إليه قوى الإسلام السياسي الأكثر تشددا في مصر، أيد نائب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، د. محمد سليم العوا، دعوة الأخوان المسلمين في عدم المشاركة، إبعادا للفتنة التي ستحرق الأخضر واليابس، على حد قوله.
عن أي شيوعيين تتحدث الجماعة ؟ المصريون، وغير المصريين يعرفون أن الشيوعيين المصريين ما كانت لديهم قدرة على تنظيم مظاهرات مليونية حتى عندما كانوا يعيشون أوج نشاطهم في السنوات الخوالي، فما بالك الآن، بعد كل الذي حدث في العالم، والمنطقة، ومصر ؟ هذه حقيقة يعرفها تلاميذ الصفوف الأولية، فهل تجهلها جماعة أخوان المسلمين. ثم، إذا كان الشيوعيون والعلمانيون والليبراليون والكفرة والملحدون (هذا إذا سمحنا لأنفسنا أن نضع هولاء جميعا في خانة واحدة) في مصر لديهم رصيد شعبي هائل، وإمكانيات ضخمة لتنظيم مظاهرات مليونية، فكيف ولماذا تصف الجماعة المظاهرات التي يريدون تنظيمها بأنها quot;ضد الشعب وأغلبيتهquot; ؟ هذا كذب صراح تريد به الجماعة، وحلفائها الإستراتيجيون، تغطية الحقائق التي كشفت عنها ثورة الشباب، وهذه غوغائية تستعين بها الجماعة لمواجهة هذه الحقائق. فقد ظلت جماعة الأخوان المسلمين، طوال فترة حكم مبارك، ترى نفسها، وربما رأها العالم، أيضا، القوة السياسية الأكبر في مصر، وفقا لما كان يلاحظ من نشاطها السياسي العام، أو وفقا لعدد النواب التي نجحت بعض المرات في إيصالهم في الانتخابات. وكذلك الأمر مع الجماعات الإسلامية المصرية الأخرى الأكثر تشددا، فقد كان دوي عملياتها الانتحارية، وتصريحاتها النارية النشاز، وصخب إعلامها المروج لتلك الأعمال، يمنحها حضورا إعلاميا بارزا، ويضفي عليها قوة أسطورية لا تناسب حجمها وشعبيتها الحقيقيتين. أما الشعب المصري، بملايينه، فقد كان في الظل، وخارج اللعبة، تماما. ورغم أن مبارك يعرف، استنادا على تقارير أجهزة نظامه الاستخباراتية، الحجم الحقيقي للأخوان ومعهم جميع الجماعات الإسلامية، إلا أنه كان، هو الآخر، يضخم حجمهم، لابتزاز الغرب، مثلما كان الغرب يغض الطرف، بل يشجع نشاط الأخوان وجميع الجماعات الإسلامية طوال حقبة الحرب الباردة.
تلك الشعبية الأخطبوطية المفترضة كانت وهما أطاحت به ثورة الشباب، واستبدلته بحقائق يراها الناس على أرض الواقع. هذه الحقائق الجديدة تقول أن جماعة الأخوان المسلمين تنظيم سياسي كبير، ولها أعضاء ومناصرون بالآلاف، هذا صحيح. لكن جماعة الأخوان تعرف، والعالم كله يدرك أن الزمن الحالي الذي تنشط فيه الجماعة هو زمن أفول وهج الإسلام السياسي، بعد ما حدث في أفغانستان والعراق وإيران، وغزة، وبعد هذه البراكين المتفجرة في العالم العربي، دون أي مبادرة ومساهمة من قوى الإسلام السياسي. أيضا، علينا أن ندرك أن الجماعة تنشط في بلد تعداد نفوسه بالملايين، وليس بالآلاف. هذه الملايين كانت، بسبب السياسة القمعية للأنظمة السابقة، أشبه بدلفين عملاق ابتلعت مياه البحر جسده كله، ولم يعد أحد يرى منه غير ذيله الذي ظل متحركا على الدوام.
الآن، وبعد أن انحسرت مياه البحر، أثر هذه اليقظة الشعبية الجبارة، ظهر الجسد كله، وليس ذنبه، فقط. لكن المشكلة مع جماعة الأخوان المسلمين في مصر هي، أنها تريد أن تكون، في آن واحد، الذنب والأطراف والجسد والعقل المدبر واللسان الناطق، مرة بالتخويف من بعبع الشيوعية في زمن ما عادت فيه الشيوعية تخيف أحدا، وثانية عن طريق التقية، أي الإعلان عن أهدافها الإستراتيجية بالتقسيط، وليس دفعة واحدة، أو أن تقول عكس ما تضمر، وثالثة بتخويف الرأي العام المصري والعربي والإسلامي من هولاء (الملحدين) المصريين الذين يريدون هدم عرى الإسلام، ورابعة عن طريق تأليب قيادات الجيش المصري ضد الشعب، وخامسة عن طريق سلق الأمور وإجراء تعديلات دستورية، واستعجال الحصاد قبل أوانه، وسادسة عن طريق عقد تحالفات مع شخصيات مصرية طامحة للرئاسة، رغم أنها تختلف معها في الرؤيا، لكنها تريد الاستفادة منها لتحقيق أغراضها.
سياسة (الفهلوة) هذه، التي تعتقد الجماعة أنها وحدها التي تتقنها، قد تطيل من عمر المناورة، لكنها لن تقود إلى (بر الأمان)، بمعنى وبمواصفات الأمان الذي تنشده الجماعة، لأن ما تسميها الجماعة quot;الأيدي الخفية التي تحاول زلزلة الاستقرارquot; في مصر، أي القوى المصرية التي دعت إلى مظاهرة مليونية يوم الجمعة، ستظل تحاول وتحاول وتحاول، لأن هذه quot;الأيديquot; هي التي صنعت الثورة، وهي التي ضحت ورابطت أياما وليالي في شوارع وميادين مصر، وستزلزل الأرض تحت أقدام أي قوة سياسية مصرية تحاول أن تستأثر بتضحياتها، وتفرض على البلاد سياسة الأمر الواقع، تحت أي ذريعة كانت.
قد تظن جماعة الأخوان أن ما تحصل عليه من دعم وأموال عربية وإقليمية، وما تملكه من خبرة طويلة في النشاط السياسي والعمل الخيري، وما في سجلاتها من أعضاء ومؤيدين، وما لديها من علاقات خارج مصر، وما تكتنزه من خبرة في مجال العمل السري وممارسة العنف، وما قد تعقده من صفقات مع أميركا، سيؤهلها لقيادة مصر. لكن هذه الأمور كلها ستصبح مجرد (تراث فولكلوري) إذا لم تستطع الجماعة أن تخلق لها (ميدان تحرير) خاص بها تنجح، انطلاقا منه، لتعبئة شعب بأكمله، مثلما فعل شباب مصر. وإذا لم تحقق ، ولن تحقق الجماعة انجازا كهذا، فأن عليها، وعلى حلفائها من القوى الإسلامية الأخرى توطين النفس على العمل السياسي باعتبارها قوة واحدة ضمن قوى سياسية مصرية عديدة تضمن صناديق الانتخابات وحدها شعبيتها وقوتها، وليست القوة الأعظم، أو القوة/ الأم التي يتوجب على المصريين أن لا يقولوا لها، أف.
شباب ميدان التحرير ومعهم قوى سياسية مصرية هائلة ووراءهم قطاعات واسعة من المصريين سيقولون ألف (أف) لجماعة الأخوان المسلمين وحلفائها من الجماعات الإسلامية المتشددة، بل وسيشتبكون معها، إن هي حاولت فرض خياراتها بالقوة. هذه قوانين الثورات الكبرى، وهذا منطقها. فمثلما لأي ثورة كبرى في العالم حلفائها عندما تبدأ، فأن لها من يخذلها من هولاء الحلفاء، ومن يخونها، ومن يتوقف في منتصف الطريق، ومن ينقلب ضدها ويحاربها بشراسة.