يتفاجأ البعض من انزلاق النظام السوري نحو هذا القدر من التوحّش والبربريّة في مسعى سحق الانتفاضة السوريّة ومحاصرة المدن ومهاجمتها، الواحدة تلو الأخرى، وليس آخرها حماة وديرالزور!. إلاّ أن من يدرك تماماً حقيقة هذا النظام، وتركيبته العصابيّة، الطائفيّة _ الأمنيّة، والتوتاليتاريّة، وتاريخه المديد في سحق معارضيه، سواءً أكانوا في سورية ولبنان وفلسطين والعراق، تُنتفى لديه عناصر المفاجأة والدهشة من هذا المسلك الدموي. وعليه، فالوحشيّة والهمجيّة، هي من طباع وخصال النظام السوري المتجذّرة والمتأصّلة فيه، ولم تمليها مقتضيات الانتفاضة السورية من مخاطر وجوديّة على ديمومة النظام وهيبته وهيمنته الحديديّة.
والحقّ أنه ثمّة عوامل أخرى، تتشابك وتتضافر، لتنتج هذا القدر من التغوّل في المعالجة الأمنيّة للأزمة السورية، والتي أطاحت بكل الوعود الإصلاحيّة التي أثارها النظام نفسه وأبواقه وأزلامه في سورية ولبنان، في مطالع الانتفاضة. ذلك أن النظام السوري، محكوم بدوائر وملفّات ضاغطة، تشير الى أنه، إذا خرج من هذا الملفّ، quot;صاغ سليمquot;، سيواجه ملفّاً آخر، أكثر حدّةً، ينذر بالمزيد من الانفجار. ولعلّ الشغل الشاغل للنظام السوري، كان يتركّز على كيفيّة إبطال مفاعل المحكمة الدوليّة، المعنيّة بمقاضاة قتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري ورفاقه، وسائر عمليات الاغتيال الأخرى. وإذ بالانتفاضة السوريّة، والتي كانت إحدى أبرز وأهمّ حلقات ربيع الشعوب العربيّة والشرق أوسطيّة. وكان النظام السوري، يسعى للالتفاف حول ملفّها النووي في الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، وإذ بالانتفاضة السوريّة، تخلط كل حساباته.
واندلاع الانتفاضة السوريّة، شتت جهود النظام السوري وسعيه في نسف المحكمة الدوليّة السالفة الذكر. وكما ساهمت في وضع الملف النووي السوري على نار هادئة ايضاً. وصار النظام السوري، ملتهياً بأزمته الداخليّة، ولم يعد قادراً على تنفيذ استراتيجيّته السابقة، القائمة على إثارة الفتن والقلاقل والحروب، عن بُعد. كما جرى في لبنان والعراق وفلسطين سابقاً، كلّما أحسّ بأن الخطر يدنو منه.
وحين رأى نظام الأسد محاكمة زين العابدين بن علي، وحسني مبارك وأولاده وأركان حكمه، صار يعي تماماً أن الانتفاضة السوريّة، لن تكتف بالاطاحة بسلطة الأسد ونظامه، وأن آل الأسد، لن يفقدوا السلطة وحسب، بل سيحالون الى المحكمة، بتهمة القتل والكسب غير المشروع، وبل جرائم ضد الانسانيّة. لذا، نرى النظام السوري، يتعاطى مع أزمته الداخليّة بشراسة ووحشيّة، وفق ذهنيّة: أنا ومن بعدي الطوفان، مدركاً بأنه ساقط لا محالة.
على المقلب الآخر، هنالك عوامل تعزز وتغذّي مضي النظام في خياره البربري. يأتي في مقدّمها الصمت العربي الرسمي، الذي كان مع النظام ضد الشعب المنتفض. فالموقف العربي من النظام السوري ومساعي سحقه للانتفاضة وقتله للمدنيين العزّل بدمٍ بارد، لم يرقَ للموقف العربي من النظامين اليمني والليبي!. ذلك أنه لا يمكن اختزال الموقف العربي، في أداء فضائيّتي quot;العربيّةquot; السعوديّة، وquot;الجزيرةquot; القطريّة، المؤيدة للانتفاضة السوريّة، إلى جانب مواقف الكثير من المثقفين والفنانين والكتّاب العرب. فلم تشهد العواصم العربيّة تلك المظاهرات الشعبيّة الكبيرة الموالية لمطالب وحقوق الشعب السوري في الحرية والكرامة والديمقراطيّة ودولة المواطنة الحرّة. لكن، بعد إصدار مجلس التعاون الخليجي، بيانه المتأخّر، من المتوّقع أن يتبدد الصمت العربي، ويعلن النظام الرسمي العربي جهاراً، بأن على نظام الأسد، الرحيل. وبالفعل، أتت دعوة ملك السعوديّة، عبدالله بن عبدالعزيز، كوقع الزلزال على النظام السوري. ليأتي بعده الموقف الموقف الكويتي. ومن نافلة القول: ان بيان مجلس التعاون الخليجي لم يكن له ان يظهر للنور، ولولا المساعي السعوديّة. ومن المتوقّع أن تكون هذه المواقف، توطئة لمواقف غربيّة اكثر حزما مع نظام الأسد.
عامل آخر، كان بعزز ثقة نظام الأسد بنفسه ومعالجاته القمعيّة هذه، هو موقف المجتمع الدولي المرتبك. فالأوروبيون والأمريكيون، بكل الاجراءات التي اتخذوها حتّى الآن، لا يريدون اسقاط النظام، بل يريدون الضغط عليه لتغيير سلوكه. والصين وروسيا، لم يلمسا ذلك الحزم والجديّة القصوى في نيّة الأمريكان والأوروبيين في اسقاط النظام، حتّى تضع بكين وموسكو دعمهما للنظام السوري على بازار الصفقات. ذلك ان الموقف الروسي والصيني، كان مناهضاً للتدخّل الامريكي في العراق. وسرعان ما مالت هاتين الدوليتين الى ابرام صفقات مع الغرب في مناطق أخرى، وحدث الاتدخّل واقتلع نظام صدّام. وكذا الحال في رفض الصين وروسيا التدخّل الامريكي والاوروبي والناتو في ليبيا، إلاّ أنهما لم يمارسها حقّ النقض (الفيتو) على القرار الصادر من مجلس الامن الذي اجاز استخدام القوّة ضدّ نظام العقيد القذّافي. وبالتالي، عناد الصينيين والروس، هو عابر، مردّه عدم وجود حماس لدى واشنطن ولندن وباريس وبرلين لاسفاط النظام السوري، حاليّاً، على أقلّ تقدير، ناهيكم ان روسيا والصين، تريدان رفع مستوى مطالبهما في أيّة صفقة لهما على حساب نفض يديهما من النظام الاسد. وباتت مؤشّرات ذلك تلوح في الأفق.
وثمّة وجهة نظر أخرى، تفيد بأن واشنطن والعواصم الأوروبيّة المذكورة، وموقفها المتربك، وغير الداعي لاسقاط النظام، هو فخّ لجرّ النظام السوري الى مصيدة تسلل، كي يوغل في حلوله الأمنيّة الدمويّة، كتوطئة لمقاضاته لاحقاً أمام الجنايات الدوليّة. بعد الانتهاء من الملف الليبي واليمني. ذلك أن هذه العواصم، ومن خلفها الناتو، غير قادرة على فتح عدّة جبهات، دفعة واحدة، وفي الآن عينه.
وما هو مفروغ منه، أن استمرار مقاومة القذافي وعلي صالح، تصبّ في طاحونة بشّار الأسد. وأيّ من هذين الدكتاتوريين، الليبي واليمني، إذا سقط، فأن ذلك يساهم بشكل كبير، في إسقاط النظام السوري. ويبدو أن الأخير، ومن خلال لعبه على عامل الزمن، ومحاولته الصراع مع السقوط _ الموت، والرهان على قدرته الوحشيّة في إسقاط الشعب والدولة والوطن، قبل ان تتطوّر الظروف الدوليّة الإقليميّة بشكل أكثر خطورة ضدّه، كل ذلك، يشي بأن المشهد السوري دخل مرحلة حادّة من التضاد الدموي، القائم على متراجحة: إمّا النظام أو الشعب. ذلك أن هذا الشعب، لم يعد شعب النظام، ولا الأخير بات نظام الشعب. وكلما أريقت دماء أكثر، يصبح النظام والشعب في سورية على طرفي نقيض أكثر. ولكن سورية، يمكن أن تعيش بدون نظام الاسد، لكنّها، ترفض من الآن فصاعداً العيش دون شعب حرّ، ذو كرامة، يصنع أنظمته، ويقطع مع مرحلة أن تصنعه الأنظمة.
كاتب كردي سوري
[email protected]
التعليقات