غادرت الولايات المتحدة الأمريكية العراق وهو في وضع أزمة خطيرة قد تطيح بكل ما أنجزته العملية السياسية منذ تسع سنوات، فهل انسحبت أمريكا حقاً من العراق أم أنها خرجت من الباب وتسللت من الشباك؟ وهل تعمدت أن تترك بلد ما بين النهرين في وضع بائس وضعيف، فريسة للتوترات وعدم الاستقرار؟ بعيداً عن تفاصيل الإرهاصات والتداعيات التي ستتمخض عن الخلل الحاصل في جسم العملية السياسية المبنية على التوافق والشراكة والمحاصصة المنافية للواقع، بسبب الصراعات القائمة بين القوى السياسية وانعدام الثقة والمناورات الدنيئة التي تحيكها هذه القوة السياسية ضد تلك بلا حياء ولا تردد، يمكننا أن ندرج في سياق ذلك محاولات بعض الشخصيات السياسية التي سرقت ونهبت واختلست وقتلت ومارست الإرهاب أو تواطأت مع الإرهابيين على نحو مكشوف والأمثلة على ذلك كثيرة وبالأسماء والتفاصيل خلال السنوات التسع الماضية، مثل قضايا الميليشيات السنية أو البعثية المسلحة الإرهابية و ملفات محمد الدايني وحازم الشعلان و أيهم السامرائي وعدنان الدليمي وصالح المطلك وطارق الهاشمي وغيرهم كثيرون. وفي الطرف الآخر أيضاً توجد جرائم وفضائح تزكم الأنوف كقضية اغتيال السيد مجيد الخوئي على يد رجال مقتدى الصدر وجرائم الميليشيات الشيعية وملفات الفساد التي يتهم بها مسؤولون كبار في الدولة الخ..

كان المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة جورج دبليو بوش قد وعدوا بأن العراق سيكون واحة أو نموذج يحتذى للديموقراطية، أثناء إعدادهم للحملة الأمريكية على العراق قبل تسع سنوات واليوم نرى أننا بعيدون كل البعد عن هذه الصورة الوردية التي رسمها الزعماء الأمريكيون لتبرير غزوهم واحتلالهم للعراق ولم تكن لهم إيجابية واحدة غير الإطاحة بنظام صدام حسين والسماح للحكومة العراقية بمحاكمته وإعدامه بصورة علنية وشفافة وعادلة، رغم أنني ضد الإعدام من الناحية المبدئية والأخلاقية والإنسانية واحتراماً لحقوق الإنسان.

هناك الانسحاب الرسمي والعلني الذي نفذه الأمريكيون حسب الاتفاق المبرم بين الجانبين العراقي والأمريكي، وهناك الوجود الخفي الذي نصت عليه اتفاقية الإطار الاستراتيجي، والمتمثل بعدد هائل يشاع أنه 16000 أجنبي، أغلبهم تابع للمخابرات والشركات الأمنية والخبراء العسكريين والأمنيين والإداريين تحت غطاء التدريب وتأمين المهمات القنصلية والاقتصادية والأمنية وتأهيل للكوادر العراقية، سوف يتواجدون داخل أكبر سفارة أمريكية في العالم، بغية تجنب عقبة الحصانة التي رفضت السلطات العراقية منحها لهم خوفاً من غضب العراقيين.

وهكذا أدخل السياسيون المحترفون بلدهم في نفق وأزمة خطيرة قد تقود إلى انزلاق البلاد إلى اقتتال طائفي لا سمح الله بسبب خلافات تتعلق بأشخاص أعلنوا أنفسهم ممثلون لهذا الطيف العراقي أو ذاك عنوة ولم ينتخبهم أحد بهذه الصفة.فقضية طارق الهاشمي يفترض بها أن تكون قضائية وجنائية خالصة يتعين على المعني إثبات براءته من التهم الموجهة إليه وليس اللعب بالكلمات وإطلاق التهديدات وتوريط العراق برمته في حرب طائفية دامية ومدمرة لكي ينقذ نفسه من جريمة يحاسب عليها القانون ولم تثبت بعد براءته منها ولا إدانته فيها. أما نائب رئيس الوزراء صالح المطلك فقد تجاوز كل حدود الكياسة المسموح بها عادة بين شركاء في عملية سياسية يفترض أنهم يتحملون جميعهم مسؤوليتها فكيف سمح لنفسه بكيل التهم جزافاً لشخص رئيس الوزراء ووصفه بأنه دكتاتور أسوء من صدام حسين وأن الرئيس المقبور دكتاتور يبني بينما المالكي دكتاتور يهدم، وبالتالي فإن أقل ما يمكن أن يفعله رئيس الوزراء هو أن يطالب باستبدال هذا الشخص واختيار آخر من نفس القائمة لشغل منصبه والمحافظة على التوازن والمحاصصة المتفق عليها في تشكيل الحكومة لأنه لا يمكن أن يعمل جنباً إلى جنب مع شخص ينظر إليه بهذه النظرة المهينة وهذا التحقير والاتهام المجحف، لا سيما والكل يعرف ماهي خلفية صالح المطلك وتاريخه الشخصي والسياسي المشبوه في زمن النظام البائد، فحركته السياسية باتت ملجأ ومرتع لكل فلول وحثالات النظام البعثي البائد، لذلك جاءت توجيهات حزب البعث المحظور لأعضائه بالتصويت بزخم كبير لصالح المطلك لإيصاله للبرلمان بقوة بغية التأثير بالتوجه والقرار السياسي العراقي بالاتجاه الذي يرتأى ويرغب به خصوم العملية السياسية، وهناك وثائق مؤكدة بهذا الخصوص، بل وحتى منافسي رئيس الوزراء من معسكره داخل المنظومة السياسية العراقية نفسها، لم يسمحوا للمالكي بتحقيق أي إنجاز أو خدمات للشعب العراقي بما فيها إخراجه للأمريكيين من العراق وعدم توقيعه على اتفاق تمديد بقاء القوات الأمريكية رغم الضغوط الهائلة التي مورست عليه، وذلك لكي لا يجني أرباح أو يقطف ثمار مثل هذه المواقف وتزداد شعبيته بين الناخبين العراقيين..ولقد كانت المناورات السياسية من الخطورة بمكان أنها كادت أن تمزق العراق بأكمله من خلال حث بعض المحافظات على إحراج الحكومة واللجوء إلى حيلة دستورية للمطالبة بالفيدرالية كمقدمة للانفصال مما يعرض وحدة البلاد للانقسام و والتفتت، مثل ديالى وصلاح الدين والأنبار التي يتمتعون فيها بنفوذ كبير، وهم يعرفون جيداً أن المالكي لا يمكن أن يتصرف بشكل انفرادي أو دكتاتوري متفرد كما يدعون لأن هناك معايير دستورية تحكم تصرفاته ويخضع لها كأي عراقي ولا يوجد في العراق من هو فوق القانون أو فوق الدستور وبالتالي لا يمكن اتهامه باحتكار السلطة بل هو يمارس سلطاته التي يخولها له الدستور العراقي، وهذا لا يعني أنه معصوم وبلا أخطاء. فوحدة البلاد لا تزال هشة وقابلة للانفصام إذا ما أصر الفرقاء على تغليب المصالح الفئوية على حساب المصالح الوطنية. من المؤكد أن تفاقم الأزمة السياسية الحالية يهدد بتجذير وترسيخ الانقسام الطائفي والقومي والمذهبي والديني القائم في العراق مما أوجد عملية استقطاب وتنافر حاد بين المكونات المذهبية والدينية والقومية ازدادت حدة وخطورة منذ عام 2003 وهذا ما دفع الزعيم الكردي ورئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني للتصريح بنبرة يائسة وتحذيرية بأن الوضع ينزلق نحو أزمة عميقة قد تهدد الشراكة القائمة لذلك دعا ومعه رئيس الجمهورية جلال الطلباني إلى عقد اجتماع عاجل أو مؤتمر وطني يضم جميع القوى والفعاليات السياسية الناشطة في العراق لمناقشة الأزمة والتحاور من أجل الخروج من المأزق قبل فوات الأوان، وهو الأمر الذي نتمنى أن يتحقق خلال الأيام الأولى من العام القادم 2012، ولا داعي للالتجاء للمحتل الأمريكي، خاصة بعد انسحابه الشكلي، لكي يتدخل لفض النزاعات وإملاء الأوامر والحلول وكأننا أطفال لا يمكننا أن نتدبر أمورنا بدونه.

إن الدعوة للحوار والتفاوض تتطلب من جميع الأطراف تقديم أقصى ما يمكنهم من التنازلات والتخلي عن الشروط التعجيزية التي وضعوها قبل استئناف أي حوار بين المتنازعين على السلطة، من قبيل عدم الإصرار على أشخاص بعينهم وإلغاء المقاطعة والمشاركة في جلسات مجلس الوزراء والبرلمان وعدم التدخل أو التأثير على مجرى القضاء فيما يتعلق بملف طارق الهاشمي واعتذار صالح المطلق أو تقديمه استقالته وإتاحة المجال لاختيار غيره لشغل منصبه وتسوية كافة الملفات العالقة بين جميع الأطراف بما فيها المناطق المتنازع عليها وتعديل الحدود الإدارية للمحافظات والقانون 140 والوزارات الأمنية الخ.. فلا توجد موضوعات محرمة مهما كانت حساسيتها وينطبق ذلك أيضاً على التعديلات والإصلاحات الدستورية بشأن العديد من بنود وفقرات الدستور التي تثير إشكاليات في التفسير والفهم والتأويل. شعر البيت الأبيض أنه ربما يكون قد تعجل أمر الخروج من العراق لكن لم يكن أمامه خيار آخر لذلك أعرب الناطق الرسمي بإسم الرئاسة في واشنطن جاي كارني عن قلقل البيت الأبيض بشأن التطورات الخطيرة التي وصلتها الأزمة السياسية في العراق وحثت الولايات المتحدة الأمريكية جميع الأطراف لحل خلافاتهم بالطرق السلمية وعن طريق الحوار والتفاهم بصورة تحترم الدولة العراقية والقوانين والدستور والعملية السياسية والديموقراطية في العراق والمحافظة عليها، بل وقررت إرسال نائب الرئيس الأمريكي على عجل إلى العراق للتدخل مباشرة في لحلة الوضع المتأزم، وإقناع الزعماء المتصارعين بالتوصل إلى تسويات سياسية تنقذ العملية السياسية من الانهيار حتى لا تخلق إحراجاً للإدارة الأمريكية هي بغنى عنه في مرحلة الإعداد للانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة.

لقد تركت أمريكا العراق ضعيفاً تنهشه الانقسامات الداخلية، والفساد، والمطامع الإقليمية، مكشوف الحدود ناقص السيادة لأنه ما يزال يرزح تحت ثقل البند السابع، مكشوف الأجواء، بلا طيران وقوة جوية، وبلا دفاع جوي ولا رادارات و لا جيش مؤهل ومدرب ومجهز بما فيه الكفاية. انتهت الحرب الوقائية والاستباقية التي شنتها إدارة جورج دبليو بوش اليمينية ليلة 20ــــ19 آذار2003 بدعم من بريطانيا وبعض الدول الهامشية غير المهمة على رقعة الشطرنج الدولية، وبدون موافقة أو تفويض أممي أو دولي صادر عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، وانتهى الاحتلال رسمياً في 31 ديسمبر 2011-12-31، قبل أن يستعيد العراق عافيته أو يعيد بناء نفسه بعد. كانت الحصيلة مرعبة أكثر من 110000مدني عراقي سقطوا قتلى بلا ذنب و ربع مليون جرحوا أو صاروا معوقين وذوي عاهات وتهجير حوالي مليوني عراقي، إلى جانب 4800 جندي أمريكي وأجنبي قتلوا ممن أعلن عنهم رسمياً مع 36000 جريح في حين بلغت كلفة الحرب أكثر من 800 مليار دولار ونترك للجيوسياسيين مهمة استخلاص الدروس والعبر ونرى بوضوح أن النتائج لا تصل إلى مستوى المخاطر ولا الوسائل التي وفرت لأن حكم التاريخ سوف لن يرحم الرئيس الأمريكي السابق وبطانته في كذبهم وغيهم وادعائهم بوجود أسلحة الدمار الشامل التي يعرفون مسبقاً أنها غير موجودة، والديموقراطية التي تركوها عرجاء متعثرة وآيلة للسقوط في أية لحظة. وقد اعترف جورج بوش نفسه بضحالة معلوماته الاستخباراتية بخصوص أسلحة الدمار الشامل في العراق والتي شن بإسمها حملته العسكرية على العراق كما قال في مقابلة معه على قناة آ بي سي التلفزيونية في الأول من ديسمبر سنة 2008 ولم يعتذر أو يتأسف على ذلك. وقد سبق لوزير خارجية بوش كولن باول أن تهجم على وكالة المخابرات المركزية في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 8 أيلول 2005 لأنها خدعته بخصوص أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق ولم تخبره بالحقيقة قبل تورطه في خطابه المثير للسخرية في الأمم المتحدة.

يتبع

في كواليس الهجمة الأمريكية على العراق بعد عقد من الزمن

باريس
[email protected]