يمر العراق اليوم بمرحلة ربما تكون الأخطر في تأريخه كله، وإذا كانت الجماهير في المحافظات السنية خاصة تعيش نشوة الجلاء فإن حكماء أهل السنة ينظرون إلى ما هو أبعد من هذا الحدث، فجلاء الأمريكان جاء في توقيت سيء بالنسبة لتوازن القوى، حيث يعيش أهل السنة حالة من الضعف العام وفقدان المشروع الناظم لطاقاتهم وإمكانياتهم.
وقد زاد من حالة الضعف هذه سقوط النظريات ( الحالمة ) التي كانت تبشر بجلاء العملاء فور جلاء الاحتلال، وأن الرهان على سقوط النظام لم يكن إلا حلقة من حلقات تبرير الفشل في تشخيص المعضلة العراقية المعقدة وتوصيف العلاج الناجع، وازدادت قناعة أهل السنة اليوم أن النظام شيء والحكومة شيء آخر مع ما بينهما من وشائج، فالنظام يعني الدستور والجيش والقوى الأمنية والعلاقات الإقليمية والدولية..الخ وهذه لا سبيل لأهل السنة في تغييرها حتى لو ذهبت حكومة المالكي بل حتى لو سقطت العملية السياسية برمتها.
إن النظام بكل مؤسساته اليوم ليس مؤتمنا على هوية العراق ولا على استقلاليته، فضلا أن يؤتمن على تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية بين مكوناته.
وفي هذا الخضم يتلفت أهل السنة في كل صوب للعثور على طريق الخلاص بعد أن أصبح كل ما لديهم مهددا حتى في اختيارهم لأسماء أبنائهم وبناتهم بل وحتى أسماء المناطق والشوارع!

إلا أن أبواب التفكير عندهم كثيرا ما تصطدم بمسلمات دينية أو وطنية، وفي مثل الأجواء المشحونة التي يمر بها المشهد العراقي وثقافة ( المزايدات ) والتنابز غير المحسوب بالألقاب، فإن المفكر يعاني من رعب الوقوع في مثل هذه الألغام ربما أكثر من معاناته من سطوة رجال الأمن في الأنظمة الدكتاتورية.

لقد قرأت بعض الفتاوى المتعلقة بالحل الفيدرالي ولمست فيها نفسا لإرهاب فكري أكثر من كونها تعبيرا صادقا عن اجتهاد أمين لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره المعروفة، فهي أقرب إلى الأسلحة منها إلى الفتاوى مثل ( التقسيم خيانة ) ( التقسيم مشروع بايدني أو صهيوني )، وفي المقابل يتم تجاوز هذه الفتاوى بدعاوى أخرى لا تخلو من كونها أسلحة في مقابل أسلحة، من مثل مقولة ( هذه فتاوى مسلفنة واردة من الخارج ) و ( هذه فتاوى مدفوعة الثمن من إيران أو المالكي أو النظام السوري ).

وأنا هنا لا أريد أن أكون طرفا في هذه المعركة الخاسرة بكل نتائجها ولكل فرقائها، ولكني أدعو كل إخواني هؤلاء وهؤلاء إلى النظر في النقاط المنهجية الآتية:
أولا: أخذ العبرة من طرائق تعاطينا الماضية مع الأزمات المشابهة، فقد اختلفنا من يوم 9/4 /2003 بمحطات مفصلية خطيرة: الموقف من المقاومة، والموقف من العملية السياسية، والموقف من الدستور..الخ وفي كل مرة نتخندق بمقولات مسبقة، ونتنابز بالألقاب، ونشرع بنشر ثقافة الكراهية والقطيعة، وإلى اليوم لم تصدر مراجعة علمية صادقة من أي طرف حتى أولئك الذين غيّروا مواقفهم وتنكروا لفتاواهم وتصريحاتهم السابقة، فماذا كانت النتيجة؟ من الذي ربح؟ ومن الذي خسر؟ أرأيتم في كل التأريخ مقاومة تنتصر على عدوّها وتجبره على الجلاء ثم يبقى قادتها ورموزها مشردين مطاردين خارج بلدهم المحرر؟

ثانيا: إن المفتي لا يتكلم عن رأيه ورغباته وإنما هو موقّع عن رب العالمين، وهذه قاعدة في الفتوى تخر لها الجبال، وهؤلاء المتنابزون بالألقاب أيدركون هذه المسؤولية؟ أيدركون لماذا حرّم الإسلام على القاضي أن يقضي وهو غضبان؟!! حتى لو كان القضاء في دينار أو دينارين، ولك أن تنظر يا أخاه إلى الأوداج المنتفخة والأصوات المرتفعة ممن يتناولون قضايا بحجم مصير العراق ومصير الإسلام على أرضه، أين الاجتهاد العلمي وأين الحوار الهادف؟، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما للتابعين إنكم تُسألون عن مسائل فتفتون فيها ولو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر!

ثالثا: إن استخدام مصطلح ( الثوابت الشرعية ) في مثل هذه القضايا الشائكة لا يخلو من خيانة علمية وخرق منهجي لأصول البحث والاجتهاد والحوار، فالثوابت هي القطعيات التي لا تحتمل الاجتهاد، وهي ( المعلومات من الدين بالضرورة ) التي وردت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، مثل الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الربا والخمر..الخ وإدراج موضوع الفيدرالية تحت هذا العنوان تحكّم لا دليل عليه، والاستشهاد بقوله تعالى ( وأن هذه أمتكم أمة واحدة ) وأن الفيدرالية ضد الوحدة ! قياس باطل من جهتين: فليس العراق هو الأمة، ! بل إن تقسيم المسلمين بحدود قومية أو جغرافية هو ما يصادم مفهوم الأمة القرآني، وهذا ما هو حاصل منذ سايكسبيكو، أما كون الفيدرالية تصادم الوحدة ( وحدة الأمة أو وحدة الوطن ) فهذا ما يحتاج إلى بحث ndash; ليس هنا محله ndash; فللفيدرالية أنواع لا تحصى يجمعها الحد من صلاحيات المركز، ولا شك أن المسلمين قد مارسوا في تأريخهم الطويل أشكالا متعددة من هذا النظام اللامركزي، فصلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية لم يكن يرتبط بدولة الخلافة وعاصمتها بغداد إلا ببعض الرسوم والتقاليد الدينية والسياسية، وقد ضمت دولته مصر والشام والموصل !! ولم يفتِ أحد من المسلمين بردته أو مخالفته للثوابت الشرعية، وكانت الدولة الحمدانية تتكون من الموصل وحلب، ودولة الأندلس منفصلة عن الدولة العباسية، وممارسات الخلفاء الراشدين ثم الأمويين وحتى العثمانيين كانت تختلف بحسب الظروف السياسية، فمعاوية اقتطع الشام في خلافة علي ndash; رضي الله عنهما ndash; لاختلافهما في طريقة القصاص من قتلة الخليفة عثمان بن عفان ndash; رضي الله عنهما ndash; ثم يأتي الحسن ndash; رضي الله عنه- ليجمع العراق والحجاز إلى معاوية ! فالأمة هي التي التحقت بالإقليم ndash; إن صح التعبير ndash; وليس العكس، أما البصرة والكوفة فمرة تجتمعان في ولاية واحدة ومرة تفترقان إلى ولايتين، وأما أيام الدولة العثمانية فكانت البصرة ولاية وبغداد ولاية والموصل ولاية ثالثة، ولم تكن العلاقة بين الخليفة والولايات تتخذ طابعا واحدا، وأخيرا وليس آخرا تظهر حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتقيم دولة منفصلة عن الخلافة العثمانية بمبررات دينية تصحيحية حتى بسطت نفوذها على أغلب الجزيرة العربية.

وفي كل هذا التأريخ لم نقرأ من يفتي بحرمة هذه التجارب فضلا عن الحكم بالردة، بل هناك إجماع على تبجيل التجربة الأيوبية مثلا وإكبار لنتائجها وقريب منها التجربة الأندلسية.

ونحن في كل هذا التاريخ نتكلم عن خليفة مسلم وأمة مسلمة، أي أننا لا نتكلم عن المالكي والمشروع الصفوي الذي يهدد الدين والدم والمال والعرض.
رابعا: إن وضع كلمة ( تقسيم ) محل كلمة ( الفيدرالية ) فيه نوع من الغش الذي لا يناسب قواعد الفتوى، ولا آداب العالم والمتعلم، فالتقسيم ليس مطروحا كرأي معتبر، ولا أعلم من يتبناه لا من المثقفين ولا من السياسيين، وإنما هي بأفضل الأحوال من قبيل ( محاكمة اللازم بالملزوم ) وهذا يتطلب أن نثبت أولا اللزوم بين الفيدرالية والتقسيم، فالطرف المقابل لا يسلم بهذا، بل هو يعكس القضية تماما، فيقول إن الناس لا يلجؤون إلى التقسيم إلا في حالة خوفهم من ضياع خصوصيتهم وحقوقهم في ظل حكومة منحازة وظالمة، أما إذا اطمأنوا في نظام يكفل لهم ما يريدون فلماذا يطالبون بالانفصال؟ وفي الحالة العراقية هناك عناصر جذب قوية، فالثروات مثلا موزعة بطريقة غير متوازنة، وانظر كيف يتشبث الأكراد اليوم بحقوقهم العراقية وتمثيلهم في حكومة المركز بعد أن اطمأنوا على خصوصيتهم وأمنهم، فلماذا السنة العرب يتهمون بضعف انتمائهم الوطني وأنهم لا يريدون من الفيدرالية إلا التقسيم والانفصال؟ والواقع بخلاف ذلك تماما.

خامسا: إن الربط بين الفيدرالية والمشروع الصهيوني، وكذلك الربط بين الدولة المركزية والمشروع الإيراني، يؤكد حاجتنا إلى الورع العلمي بل الآداب الأولية في البحث وطلب العلم، وربما يؤكد حاجتنا إلى الشعور بالمسؤولية واحترام الذات قبل احترام الآخر، فنحن لنا مصادرنا في استنباط الأحكام، وينبغي أن تكون لنا استراتيجياتنا الذاتية وفق منظورنا الإسلامي وتحقيق مصالحنا المشروعة، أما بناء المواقف على ردود الأفعال فهذا شأن المفلسين أو العابثين، مع أن تلك المشاريع المعادية قد لا نعرف عنها إلا القشور الطافية على السطح، فأي عراق تريده إيران موحدا؟ ولماذا تعالت الأصوات الشيعية بتكوين الإقليم الشيعي ثم تخفت الآن؟ وأي عراق تريده إسرائيل مقسما؟ عراق صدام حسين أم عراق المالكي؟ وإذا كان دعاة الوحدة المركزية إيرانيين ودعاة الفيدرالية صهيونيين؟ فما الطريق الذي يناسب الشرفاء والوطنيين؟

سادسا: إننا في معضلة معقدة غاية التعقيد، وحينما نطلب الحل فمن المنطقي أن يكون الحل معقدا أو مركبا، ولا يمكن أن نعالج المعضلة المركبة بحل منفرد وخيار أوحد، فمثلا لو أردنا أن نشخص المعضلة بإيجاز فسنجدها مركبة من عدة تحديات مثل تحدي الهوية، وتحدي الاستقلال، وتحدي الوحدة، وتحدي الظلم..الخ والمطلوب هنا أن نضع هذه التحديات على منصة البحث، وندور بينها ذهابا وإيابا بحركة لولبية وحتما أننا بهذه الحال فقط سنتجاوز معادلة ( أنت مع أو ضد ) لنصل إلى حل مركب، وهذا الحل قد يتطلب منا تعدد الخيارات وتوزيع الأدوار، لننظر مثلا إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب كيف أعدّ للمواجهة المسلحة المحتملة كامل الإعداد، وفي الوقت ذاته حفر الخندق وهو ما يعني الرغبة في تجنب المواجهة، وفي الوقت ذاته سمح بمرونة تفاوضية بأقصى درجاتها من خلال تفكيره بإعطاء ثلث ثمار المدينة لبعض فصائل الأحزاب، ثم استغل فرصة نعيم بن مسعود في تفكيك جبهة العدو، هذا كله في معضلة لم يكن فيها حجم الخطر إلا بتفوق الأحزاب بنسبة 3/1، وأهل السنة اليوم قد لا تصل إمكانياتهم أمام التحديات التي تواجههم إلى نسبة 1/ 10، ومع هذا لا نفكر غالبا إلا بالخيار الوحيد والحل الأوحد.

وعَودا على قواعد الفتوى أين قاعدة ( السبر والتقسيم ) التي تمثل منهجا أصوليا رائعا؟ ألا تعلمنا هذه القاعدة أن علينا وجوبا أن ندرس كل الاحتمالات ومآلاتها، فمثلا لو ركزنا على قيمة ( الوحدة ) ورأينا الطريق إليها لا يكون إلا بحكومة مركزية قوية، فهل الوحدة هي القيمة الوحيدة عند المجتهد؟ ماذا لو حافظنا على هذه القيمة بضياع الدين؟ أو بضياع الكرامة؟ أو بضياع الاستقلال وجعل العراق تابعا لإيران بكل من فيه وما فيه؟ ولو أردنا أن نبعد المثال قليلا، لنقول ما هي أولويات الأهداف عند أهل السنة في إيران اليوم من الناحية الشرعية؟

وكما أننا مطالبون شرعا بسبر الأهداف وتصنيفها فإننا مطالبون أيضا بسبر أدواتها وتصنيفها أيضا، فهناك أهداف جليلة لكننا لا نملك الأدوات لتحقيقها، وعلماء الإدارة يقولون: كل هدف لا تملك خطة لتحقيقه فهو أمنية أو شعار، فمثلا أن تضع المقاومة العراقية المسلحة هدفا لها وهو إقناع المحتل بجلاء قواته العسكرية هذا ممكن ndash; وهذا ما حصل والحمد لله، لكن أن نقول: إن مشروع المقاومة قادر على توحيد العراق فهذا أمنية، فمع أن المقاومة هي نفسها تحتاج إلى توحيد صفوفها فإن المقاومة لا وجود لها أصلا في المحافظات الشيعية ولا المحافظات الكردية، بل إن الواقع يقول إن النظرة العامة لهذه المحافظات هو التخوف وعدم الثقة من جميع الفصائل، وكون هذه المحافظات ترحب بخروج المحتل شيء وكونها ترحب بنظام مركزي تقوده المقاومة شيء آخر، ولنتخيل لو أن المقاومة تمكنت من السيطرة الفعلية على ( المثلث السني ) وهذه غاية إمكانياتها، فهل سيسير العراق بطريق الوحدة أو التقسيم؟

لكن إذا قلنا: إننا بحاجة إلى إخراج المحتل وسبيلنا المقاومة، هذا شيء منطقي، ثم نقول نحن بحاجة إلى حكومة عادلة وسبيلنا كذا، ونحن بحاجة إلى الحفاظ على وحدة العراق وسبيلنا كذا، ثم نركب هذه الأهداف وهذه الوسائل ونصنع نظرية قابلة للتطبيق نكون قد اقتربنا من حل المعضلة المعقدة التي نواجهها وتواجهنا، وهذا لا يكون إلا بنفوس مرتاحة بعض الشيء وتأمل صادق للداء وبحث جاد عن الدواء، أما ما نراه ونسمعه اليوم من كل الفرقاء فهو أبعد ما يكون عن الحل بل هو داء فوق الداء، ومعضلة فوق المعضلة.. وقد ورد في الأثر ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا ً تهوي به في النار سبعين خريفا ) وأي كلمة أخطر على الأمة من فتوى مستعجلة تلعب بمصيرها إرضاءً لشهوة خفية أو تنفيسا عن انفعال عابر..

( قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون).

د. محمد عياش الكبيسي