تحركت الدبلوماسية التركية بقوة خلال الأيام الماضية نحو بيروت وطهران وبشكل أقل بغداد، تارة بحمل رسائل سياسية محددة إلى هذه العواصم، وأخرى على شكل وساطة في ملف ما، وثالثة بالتحذير من حدوث تطورات خطرة وربما صفقة لترتيب الوضع في المرحلة المقبة، الا ان الهدف من كل هذا بات معروفا، الا وهو كيفية إسقاط النظام السوري في ظل استبعاد سيناريو التدخل العسكري على غرار ما جرى لليبيا.
قبل يومين زار وزير الخارجية التركية احمد داود أوغلو بيروت على متن طائرة خاصة،قام بجولة سريعة على المسؤولين اللبنانيين، مشيدا بالعلاقات الثنائية بين البلدين، متعهدا بدعمها وتحسينها كما جاءت في تصريحاته أمام وسائل الإعلام، لكن ما جاء أوغلو من أجله لم يقله في العلن في تصريحاته هذه، بل عرضها وقالها خلال لقائه برئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد في فندق فينيسيا، فحسب المطلعين عرض أوغلو على رعد ما يشبه صفقة، مفادها: أوقفوا دعم حزب الله لسورية مقابل تمتين علاقات الحزب مع من سيأتي إلى الحكم بعد إسقاط النظام السوري وتحديدا المجلس الوطني الذي يتخذ من أسطنبول مقرا له. بل ان أوغلو حسب هؤلاء لم يكتف بذلك بل وجه ما يشبه رسالة تحذير مبطنة لحزب الله عندما تحدث عن ضرورة النأي بنفسه عن التداعيات التي يمكن ان تحدث في إشارة إلى إمكانية تفجر الصراع الطائفي في لبنان على خلفية تداعيات الوضع السوري.
قبل بيروت زار أوغلو طهران، حاملا معه استعداد أنقرة للقيام بوساطة جديدة بشأن الملف النووي الإيراني، ذلك الملف الذي بات يشكل عقدة العقد في العلاقة الإيرانية مع الغرب ودفع بالوضع في الخليج العربي إلى سطح صفيح ساخن بعد التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز إذا شملت العقوبات الغربية النفط الإيراني. لكن أوغلو في حقيقة الأمر لم يذهب إلى طهران بسبب الملف النووي الإيراني بل من أجل التأثير على موقف طهران الداعم للنظام السوري، وتحت هاجس إحلامه التاريخية وتطلعاته السياسية الامبراطورية.
في طهران طلب أوغلو من القيادة الإيرانية إقناع القيادة السورية بالاستجابة لمطالب الشعب السوري، ولكن يبدو ان الجواب من قبل القيادة الإيرانية وكذلك حزب الله في لبنان كان واحدا، وهو ان ما يجري في سورية ليست مسألة إصلاح وانما مسألة إسقاط النظام، وقد أعلن حزب الله أن هناك تباينا في التوجه والرؤية مع ما حمله أوغلو.
محاولات التأثير التركية وصلت إلى العراق، عندما حذر اردوغان مرارا خلال الأيام الماضية من تفجر الحرب الطائفية في الجارة الجنوبية على وقع الخلاف الجاري بين نوري المالكي ونائب الرئيس طارق الهاشمي، وهو ما دفع بالمالكي إلى استنكار التدخلات التركية في شؤون العراق الداخلية مشيرا إلى ان تركيا نفسها لن تسلم من الحرب الطائفية إذا أندلعت في العراق في إشارة سياسية يفهمها الجانب التركي جيدا بلغة الاوراق والصراع الجاري في المنطقة، فيما الثابت ان اردوغان يحاول الحد من توجه المالكي لدعم النظام السوري.
من الواضح ان التحرك التركي الدبلوماسي على هذه الجبهات يهدف إلى التأثير على مواقف حلفاء النظام السوري للتخلي عنه بعد ان وصلت الأزمة السورية إلى منعطف حرج، ومن الواضح أيضا ان هؤلاء الحلفاء يبدون تمسكا قويا بحليفهم انطلاقا من أن مصير هذا النظام سينعكس عليهم بشكل دراماتيكي سلبا أو إيجابا. وأمام كل هذا يبدو ان تركيا تحاول انتهاج لغة مثيرة، وعليه بعد عودته من طهران، طرح أوغلو وللمرة الأولى أفكارا جديدة ومثيرة معا، إذ تحدث عن أفول عهد (الإحياء الشيعي) وبدء عهد (الإحياء السني)... وهذه أفكار غريبة لطالما أنها صدرت عن رجل وصف بالبروفيسور وصاحب نظرية صفر المشكلات والعمق الجغرافي قبل ان يتحول كل ذلك إلى صفر الثقة وعمق المشكلات .
في الواقع، من الواضح ان وتيرة التحرك التركي للتأثير على مواقف حلفاء دمشق وكذلك الحديث التركي المتواصل عن ان ما يجري في سورية شأن داخلي تركي يعكس طبيعة سياسة حزب العدالة والتنمية وزعيمة رجب طيب اروغان تجاه المنطقة، وهي سياسة تكشف عن حقيقتين:
الأولى : العقل الامبراطوري العثماني الذي يشكل الايديولوجية الحقيقية لحزب العدالة والتنمية حيث يشكل هذه العقل جوهر العثمانية الجديدة.
والثانية: حقيقة الأرتباط التركي بالمنظومة الغربية الاطلسية بغض النظر عن من يحكم تركيا نظرا لعضوية تركيا في الحلف الاطلسي والعلاقات المتينة مع واشنطن.
في ظل الطموحات التركية الإقليمية والابعاد الايديولوجية للسياسة التركية، يمكن القول ان التحرك التركي على جبهة حلفاء النظام السوري سيتواصل في الأيام المقبلة لطالما ان أنقرة تقول ان العلاقة مع هذا النظام دخلت مرحلة اللاعودة، ولطالما ان منطق طرح المصالح والإغراءات وحتى الصفقات تشكل جوهر التحرك التركي على هذا الجبهات، انطلاقا من ان المصالح هي التي تصنع السياسات في النهاية.
التعليقات