مع دخول القرن الواحد والعشرين يزيد الجنس البشري عن سبعة مليارات من الأنام؛ فإذا أردنا ضغط هذا الرقم إلى ألف إنسان وتحويل الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، فإننا سوف نفاجأ بطيف جميل للغاية من التنوع الإنساني، بين اللغات والأديان والأعراق والألوان والأعمار والجنس. وسنجد التباين بين المهن والاهتمامات والثقافات والحضارات. إن هذا الوجود الذي نعيش فيه يدعو للتأمل والخشوع، فبقدر ما هو بسيط بقدر ما هو معقّد، وبقدر ما هو منوّع بقدر ما هو موحّد؛ فالضوء الذي نراه في غاية البساطة، ويتعامل معه الإنسان في كل لحظة، استطاع العالم الفيزيائي إسحق نيوتن أن يكتشف أن طبيعته ليست موحدة، بل هي مزيج من ألوان شتى.
ونقلنا هذا الفهم إلى إدراك الكون على أن كل ظاهرة تضم طيفاً من العناصر. ولا يخرج الجنس البشري عن هذه الحقيقة. وهذا يعني أن عيوننا تبصر ولا تبصر. فهي تخطئ أكثر من مرة وهي ترى مزيجاً من الألوان يظهر بشكل أبيض. وهي لا ترى إلا في حيز بعينه، وهو شق بسيط بين أمواج لا تنتهي من قبل ومن بعد.
وهنا يحصل ما يشبه التناقض في تفكير الناس في تلك الأيام، وهو أن الكون الذي نبصره ليس كل الكون، بل إننا نسبح بين عالمي الغيب والشهادة.
يقول الرب: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون.
وإذا كان الطيف اللوني يتعرج بكل هذا التنوع، فإن الصوت الذي نسمعه يشكل أيضاً، مثله مثل الروائح ومذاق الأطعمة، حقيقة طيفية أيضاً من حقائق الوجود الكبرى.
وهي هنا مشكلة فلسفية كبرى.
إذ إن إحساساتنا جعلتنا نقسم الوجود على أساس ldquo;الثنائيةrdquo; (وهو غير صحيح) من أمثال البارد والحار، والرطب والجاف، القلوي والحامض والوجود في الواقع؛ فالبارد لنا هو ليس كذلك، فهناك البرودة المطلقة، وهي درجة كالفن والتي تبلغ 273 تحت الصفر، وترتفع الحرارة لتصل في قلب النجوم عشرة ملايين درجة حرارة، وهي ليست نهاية الحرارة. فداخل بطن النجم حيث تستعر الحرارة تصل إلى مليارين (2000 مليون) درجة حتى يتم إنتاج الحديد من العناصر الأخف، بل قد تصل درجة الحرارة إلى 7 مليارات (7000 مليون).
كما أن فكرة الحامض والقلوي هي أيضاً نابعة من إحساساتنا المضلِّلة، وهي ليست في الواقع أكثر من تركيز شوارد الأيدروجين في الوسط، على ما ذكره حسين كامل في كتابه (وحدة المعرفة) وهو كتاب تأسيسي ينصح بالاطلاع عليه.
والأذن البشرية تميز اهتزاز الصوت الذي يتراوح بين 16 و20000 هزة في الثانية، فإذا زاد أو نقص لم تسمعه.
وتبلغ حساسية الأذن درجة أن تميز بين صوت وصوت؛ فيما لو اختلف بثلاث هزات في الثانية، وبذلك تميز الأذن البشرية ما بين 34 ألف لحن مختلف.
كذلك يسبح الوجود بين الذرة والمجرة. ونحن نسبح في الواقع بين العالم الأكبر والعالم الأصغر.
و بواسطة تطوير التلسكوب والميكروسكوب بدأنا نبصر ldquo;الفيروساتrdquo; بتكبير وصل إلى ما يزيد على مائة ألف مرة.
ويطمح الإنسان إلى تطوير المجهر ldquo;البروتونيrdquo; ليرى الذرة عياناً بعد أن يقفز بالتكبير إلى حوالي مليون مرة.
كما تم بالقفز عبر إرسال التلسكوبات خارج الأرضية ldquo;تلسكوب هابلrdquo;، فرأينا مجرات تبعد عنا بحوالي عشرة مليارات سنة ضوئية.
وفكرة الطيف هذه تستولي على الروائح أيضاً، فتتشكل من سبعة أصناف أساسية كما كشف عنها العالم آمور عام 1964 وسمّيت بالنظرية الفراغية الكيماوية.
هكذا نستشعر الروائح الأساسية من أثيرية وكافورية ومسكية وزهرية ونعناعية. وبقية الروائح هي مزيج الروائح الأساسية السبع بنسب مختلفة.
كذلك الحال في إحساس اللسان المذاق بين الحلو في مقدمة اللسان، والمرّ في مؤخرته، والحامض والمالح في جوانبه، بشبكة من النهايات الذوقية تتجاوز 9 آلاف برعم ذوقي!
وهكذا فظاهرة التنوع والاختلاف في الوجود خاصية أساسية قد بُرمِجَ الكونُ على أساسها. فاللغات والأعراف والثقافات تنبع بشكل حتمي من أصل هذه البرمجة الإلهية ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ... وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾( )، فهذه اللفظة الأخيرة هي في غاية الأهمية، ويجب أن ندرك أبعادها ونتأمل معها، فهي اعتبرت أن غاية الوجود الكبرى تقوم على التنوع، أي على الاختلاف وليس النموذج الواحد على التعددية.
وعندما نريد جعل البشر جميعاً نسخة واحدة نكون مخالفين للبرمجة الإلهية لهذا الكون.
والسر في نعمة الاختلاف هو أن جدلية التنوع والاختلاف تقود إلى ازدهار الحياة وتنوعها وجمالها.
بالاختلاف تعرف الفروق، وبالتباين تتجلى الحقيقة أكثر، وبالجدلية في الاجتماع البشري يتحقق التوازن.
لو استطعنا ضغط الجنس البشري في قرية صغيرة بحيث تصغر الكرة الأرضية ستة ملايين مرة فتتحول إلى قرية صغيرة تضم ألف شخص فقط، سوف نرى الجنس البشري في صورة جديدة مفاجئة. ولنبدأ أولاً بالأرقام: أين سيكون معظم الناس؟
يقول الإحصاء إن الألف إنسان سيتوزعون على الخريطة ldquo;الديموغرافيةrdquo; التالية: 584 آسيوياً، 124 أفريقياً، 95 أوروبياً، و84 من أمريكا اللاتينية، و55 سوفيتيا، و52 فقط من أهالي أمريكا الشمالية، وفي النهاية ستة ينتمون إلى أستراليا ونيوزيلندة الجديدة.
أهالي هذه القرية التي يعيش فيها ألف إنسان سوف يعانون من صعوبة في التفاهم، فكيف ستتوزع ldquo;خريطة اللسانrdquo;؟!
أكثرها الصيني، فمن أهل القرية سيتكلم 165 لغة الماندارين الصينية، وأقلها كمجموعة اللغة العربية 37، وبينها تتراوح الإنكليزية 86 فرداً، الهندي والأوردو 83، والإسباني 64، والروسي 58.
هذه اللغات تخص نصف سكان القرية، ونرى اللغة العربية تسبق الألمانية والفرنسية، فنصف السكان الباقي يتكلمون لغات شتى (بنغالي، برتغالي، إندونيسي، ياباني، ألماني، فرنسي، و200 لغة أخرى متفرقة).
أما توزع الأعمار في هذه القرية فمنها 330 طفلاً يلعبون، و60 فرداً فقط فوق الـ65 من العمر يدلفون إلى شيخوخة العمر، ldquo;إلا أن نصف الأطفال بكل أسف غير ملقحين ضد الأمراض المعدية مثل الحصبة وشلل الأطفالrdquo;.
تقدر ثروة هذه القرية بحوالي ثلاثة ملايين دولار (الميزانية السنوية)، ولكن كيف تتوزع هذه الثروة بحيث أنها لو قسمت بالعدل للحق كل فرد 3000 آلاف دولار سنوياً، والواقع يقول إن 200 شخص في هذه القرية يملكون 75 في المائة من ثروتها، وإن 200 شخص يتلقون 2% من الدخل، والبقية للبقية.
يا ترى كم عدد الذين يمتلكون سيارة أو أكثر، والذين يدبّون بأقدامهم على الأرض بأحذية أو حفاة؟
فقط 70 شخص تحملهم السيارات، و930 شخصاً يتفرجون!
وأما الغذاء والماء النقي فثلث أهل هذه القرية يأكلون ما يقيم أودهم ويشربون الماء الزلال.
إذا حذفنا 330 طفلاً يلعبون فيبقى بين أيدينا 670 فرداً يُعتبر نصفهم من الأميين (خريطة التعليم).
وعندما نأتي على الأراضي التابعة لهذه القرية نجد 6000 فدان.
هذه الأراضي موزعة بين 700 زراعية، و1400 رعوية، و1900 غابات، و2000 صحارى وسفلتة وتندرا، ومناطق قاحلة.
الغابات تتناقص بسرعة (لكل طن من الورق يستهلك شجرة)! والأراضي القاحلة تزداد، وما يوزع في الأسمدة يبلغ 83% تخص 40% من الأراضي الزراعية لإطعام 270 فرداً من أهل القرية المتخمين، أما الـ17% الباقية فتذهب للأراضي الـ60% الباقية لإطعام 73% من أهل القرية المساكين!
أما ميزانية هذه القرية التي تبلغ كما ذكرنا ثلاثة ملايين دولار فإن سقف الإنفاق يذهب إلى التسلح وآلة الحرب (181 ألف دولار).
وفي قائمة الإنفاق في القاع تأتي الصحة، حيث تبلغ 132 ألف دولار.
من الغريب لأهل هذه القرية أن 100 شخص منها قد دفنوا تحت أرضها من الأسلحة بأشد من عمل المجانين من الأسلحة النووية ما يكفي لنقل مصير القرية إلى مصير قوم لوط، وبقية الـ900 شخص ينظرون بهلع ورعب إلى مصيرهم المرهون بأيدي المجانين القلة.
أما الذين يجلسون على الإنفاق فيرون أن كل حاجات الجنس البشري من الطعام الكافي والماء النظيف والصحة والتعليم والإسكان، بل والزواج، هي في حدود 17 مليار دولار، فيقبضون أيديهم ويرون فيه كمية لا يمكن إنفاقها، إلا أنهم يوقعون بكل سرور على نفس هذه الكمية للتسلح في مدى أسبوعين!