حدثنا صديقي رضوان الذي يعمل بروفيسور طبيباً في جامعة كولومبيا في نيويورك أنه كان في اللجنة التي تشرف على اختيار المقالات الطبية والتي تنشر في المجلة العلمية المعينة، فقرر الأطباء الذين كانوا يشرفون على اللجنة تقويم المقالة قبل الإطلاع على أية معلومة تتعلق بالباحث أو الباحثة، فأصبحت المقالة تُقرأ على أساس علمي دون أن تتدخل عوامل الانتماء والجنس والشهرة والمستوى العلمي إضافة إلى الانتماء الجامعي.
بعد هذا التغيير لاحظوا ارتفاع النسبة التي تُنشر للنساء، وكذلك لأشخاص غير مشهورين أو باحثين من جامعات لا تتمتع بالشهرة والصيت.
هذه القصة تدلنا على الدرجة التي تتحكم فيها عوامل المركزية وما نصنفه مهماً حتى في مجال التقدير العلمي لموضوع معين. وإضافة لمثل هذه المحاولة توجد محاولات أخرى وفي مجالات أخرى لجعل التقويم للأمور أكثر إنسانية وأكثر حيادية.
من إحدى هذه المحاولات في شمال أمريكا قضية تهذيب اللغة. وفي هذا تحضرني حادثة حصلت قبل فترة في جامعة quot;Mc Gillquot; في مونتريال حيث قدم محاضر إسلامي معروف نصاً بالإنكليزية وكان على مستوى كبير من العمق والتحليل، ولكنه لم يوافق في الناحية الفنية متطلبات الخطاب الجامعي في زاوية لغوية، فهذه المحاضرة رغم جودتها كانت بلغة ذكورية حسب مقاييس اللغة الإنكليزية الجامعية الجديدة، أي إن ضمائر الخطاب والأوصاف كانت كلها بضمير المذكر، وهذه أصبحت الآن نقطة حساسة في اللغة الإنكليزية، بل وحدثت تغييرات محددة وأدخلت في اللغة الجامعية، وأصبح الأساتذة والأكاديميون والطلبة ملزمين بها.
ما هي بالتحديد هذه اللغة الجديدة؟ يسمّونها بالإنكليزية ldquo;Genderneutral Ianguagerdquo; ويمكن أن تترجم بالعربية إلى ldquo;اللغة المحايدة في الجنسrdquo;، أي إن اللغة التي كانت تتمحور حول ضمائر المذكر ومفاهيم الرجولة نقحت لتصبح حيادية أكثر إلى حد ما.
كثير من المثقفين لم ينتبه إلى هذا التغيير، وبعض الذين انتبهوا مرّوا عنها معرضين، ويوجد القليل الذي أدرك أهمية هذا الموضوع وبدأ بالفعل باستعمالها.
عندما توجه النقد إلى هذا الموضوع في السبعينات كانت القضية لا تزال هامشية، وبدأ الناس باستعمالها حسب قناعاتهم الشخصية في الثمانينات، فكان يطبقها الأشخاص الذين اهتموا بالموضوع وزادت حساسيتهم تجاه اللغة، ومع نهاية الثمانينات كان الموضوع مطروحاً بشكل جدي في الأوساط الجامعية. أجريت مناظرات ومناقشات حول الموضوع في كثير من الحرم الجامعية، وألزم بعد ذلك كبديل في المحاضرات وكتابة النصوص الأكاديمية.
ولتوضيح الموضوع يمكن إيراد الأمثلة، ولو أن هناك فوارق بين اللغة العربية والإنكليزية بالنسبة لجنس الأشياء. فمثلاً في اللغة الإنكليزية كلمة رجل ldquo;manrdquo; لا تدل فقط على الرجل وإنما تعني الإنسان بشكل عام، فمع أن هناك كلمة ldquo;humanbeingrdquo; إلى أن هذه الكلمة تدل على البشر كنوع ولا تشير للإنسان بالمعنى التاريخي والثقافي، ولهذا كان يطلق على الإنسانية ldquo;mankindrdquo; أي الجنس الرجولي، ومع محاولات تحييد اللغة استبدلت ldquo;mankindrdquo; بكلمة quot;humankindrdquo;، أو حتى quot;humanityrdquo;، أي الجنس البشري أو البشرية.
طبعاً الإنكليزية غنية بالكلمات التي تنتهي بكلمة رجل ldquo;manrdquo;، فكلنا يعرف كلمة الشرطي ldquo;policemanrdquo; أي رجل الشرطة، وكذلك ساعي البريد يطلق عليه اسم ldquo;postmanrdquo; رجل البريد، ومع التغييرات تستبدل كلمة ldquo;manrdquo; بـ ldquo;personrdquo; أي شخص، أو يوضع رجل أو امرأة حسب الشخص الذي يقوم بالمهمة.
عندما بدأت هذه التغيرات تدخل في البرامج الإعلامية والجامعية كان هنالك بعض المعارضة من الذين لم يتكيفوا معها، ولكن مع مرور الوقت تعوّد الناس، وقلما تسمع تعليقات أو تهكمات بالنسبة لهذا. بل إن الموضوع انقلب إلى حد كبير، فإذا وقف شخص محاضر ليلقي كلمة ولم يستعمل اللغة المحايدة شعر كثير من الحاضرين، وخاصة الجيل الأصغر، أنه يلحن في القول، أو أن هناك نشازاً.
والمحاضر الذي تحدثت عنه في الأطر السابقة تخرّج في جامعات بريطانيا في السبعينات وعاد إلى بلاده، ورغم فصاحته وبلاغته بالإنكليزية إلا أنه لغيابه عن هذه الإضافة لم يستعمل هذه اللغة المحايدة عندما زار الجامعة الكندية.
هناك كثير من الناس الذين يعيشون في الغرب ويرفضون أن ينصاعوا لمثل هذه الإضافات لشعورهم بأنها سخيفة في بعض الأحيان، أو ربما لشعورهم بأن العالم يتغير بسرعة وأن عالمهم الذي يعرفونه يتهدم، وهذا لا يحصل للمغتربين فقط، بل كما ذكرت، فإن كثيراً من ناطقي الإنكليزية أنفسهم عارضوا وشعروا أن شيئاً ما يهدم، وبالفعل ما هو هذا الشيء الذي يُهدم؟

نحو لغة أقل عنفاً
عندما تتغير اللغة فإن نظرتنا إلى العالم بالتالي تتغير، وعندما يتغير نظرتنا على العالم تتغير لغتنا، فالعمليتان تتفاعلان دائماً وبشكل ديناميكي. فعندما تنهدم مقاييس قديمة وتُبنى مكانها مقاييس جديدة فإن النظرة التي كانت مع تلك اللغة هُدمت أيضاً، فيمكن القول إن الكلمات هي العيون التي نرى من خلالها العالم. فعندما نتحدث بلغة تحقر إنساناً آخر باستعمالها كلمات تدل على انتماء أو جنس هذا المتحدث عنه فإن هذا يعكس ثقافتنا، وبالتالي يؤصل هذه الثقافة ويكرسها، فالطفل الذي يولد ويمتص اللغة في السنوات الأولى من عمره يكون قد أمتص المعاني والقيم الثقافية التي تكون مشربة في الكلمات التي بدأ ينطق بها.

الكلمات تحكينا
بالفعل كيف تحكينا الكلمات؟ وكيف تعكس الكثير من المخلفات الثقافية والتاريخية؟ ربما نستطيع القول إن الموضوع لا يزال في بدايته، وإنه سيمرّ بمراحل تنقيحية أكثر، أي إننا سنقوم بتصفية الكثير من الآصار والأغلال التي نحملها للغة والتي تحمّلنا إياها اللغة.
إنه من المهم فهم آلية عمل اللغة في إيصال الثقافة أو حتى في تغييرها. والموضوع يمكن أن ينظر إليه من عدة زوايا، فرغم أن البدايات في الغرب توجه على موضوع الذكورة والأنوثة إلا أنه يمكننا أن نرى أيضاً أنواع التهميشات الأخرى التي تحملها اللغة، ففي جميع أنحاء العالم توجد المصطلحات لرفع بعض الناس والحط من قيمة بعضهم الآخر سواء بنعتهم بصفات المدنية أو القروية أو حتى الطبقية.
كذلك تحمل اللغة في طياتها الكثير من العنف، فكثير من أمثالنا وتشبيهاتنا مشحونة بتوتراتنا العصبية وردات فعلنا، فكأن الكلمات تصبح المحلول الذي تعيش وتترعرع فيه عواطفنا وقيمنا، فإذا أخذنا زاوية الانتماء الجنسي مثلاً فنجد أن للأنوثة والذكورة في اللغة العربية مدلولات مختلفة.
لقد قام باحثون عرب بمناقشة هذا، وخاصة من ناحية النحو والصرف، فالذكورة في اللغة العربية تعطي دلالات العقل والقوة والحكمة والشجاعة، بينما الأنوثة تعكس معاني الاتكالية والضعف والتردد.
ولتوضيح هذا يمكن أن ننظر إلى كيفية استعمال التشبيهات، فعندما يراد وصف امرأة بصفات حميدة يقال عنها إنها ldquo;أخت رجالrdquo;، أو إن كلمتها ldquo;كلمتها رجلrdquo;، وفي المقابل نجد أنه إذا أريد التقليل من قيمة الرجل قيل عنه إنه أصبح امرأة أو بكى ldquo;مثل النساءrdquo;، وهكذا دواليك.
وإذا نظرنا من الزاوية الإثنية أو زاوية الثقافة واللون، نجد أن الكلمات تعكس بنفس الدرجة عنصرية الثقافة المعنية، فاستعمالنا للأبيض والأسود تتجاوز عن أن تكون مجرد دلالات لألوان محددة، بل تصبح هذه الكلمات دالّة على إثنية محددة، فنقول الجنس الأبيض أو الجنس الأسود. ولا يقف الموضوع عند هذا وحسب، بل إن دلالات الأبيض والأسود تأخذ أبعاداً أخرى، فأن رأى بعضكم فيلم quot;مالكومXquot; فأتمنى أن تتذكروا المقطع الذي نظر فيه quot;مالكومXquot; إلى معنى كلمة الأسود في القاموس، فوجد أن quot;الأسودquot; لا تدل فقط على اللون الأسود أو الإنسان الأسود، بل تدل أيضاً على البلاء والمصيبة في مثل ldquo;مستقبل أسودrdquo;، أو الشر في مثل ldquo;نية سوداءrdquo;، وتدل على الظلام والجهل والضعف والحيلة والقذارة.
وعندما يفتح مالكومX على صفحة أخرى ليرى معاني الأبيض يجد أنها لا تدل على اللون الأبيض والإنسان الأبيض، ولكنها أيضاً تعني بياض الثلج الناصع، وتعني البراءة والصدق وحسن النية في مثل ldquo;قلبه أبيضrdquo;، والمستقبل المشرق في مثل ldquo;يومه أبيضrdquo;، وتدل على معاني الطهارة والعفة والشرف.
طبعأً يندهش quot;مالكومXquot; بهذه التعريفات ويبدأ بقراءة المعجم بنهم ليعرف كيف حددت لغة الإنسان الأبيض مكان وموقع الإنسان الأسود، بل وكيف حددت اللغة المعاني، وكيف قسمت وصنفت البشر.
نحن للأسف الشديد لا يزال الكثير منا يستعمل لفظة ldquo;عبيدrdquo; للدلالة على الإنسان الأسود أو الأفريقي. إن السود في شمال أمريكا عانوا الكثير حتى خرجوا من مصطلح ldquo;niggerrdquo; أو حتى ldquo;nigrordquo;. وكان quot;مالكومXquot; من الأوائل الذين استعملوا مصطلح ldquo;African-Americanrdquo; أي ldquo;الأفريقي الأمريكيrdquo;.
ربما الموضوع يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، ولكنه معقد في نفس الوقت، لأننا لا نستطيع التفكير خارج أطر لغتنا. وهذا ما انتبه إليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، والذي اعتبر أن اللغة من أهمّ الأسس التي يبني عليها المجتمع نفسه، بل يحافظ على تصنيفاته وقيمه من خلال كلماته.

نتقبل عنهم أحسن ما علموا ونتجاوز عن سيئاتهم
عندما ننظر إلى تاريخنا الإسلامي نجد أن اللغة القرآنية كانت من أهم وسائل التغيير، فقد خلقت مصطلحات جديدة بينما أغفلت عن أخرى قديمة. إن القرآن قدم منظاراً جديداً لرؤية العالم، قدم التصنيف لما هو خير ولما هو ضارّ، لما هو (أو هي) مؤمن أو كافر، لما هو حلال ولما هو حرام. فإذا كانت الأنثى تُقتل وتُدفن نجد أن اللغة القرآنية سمّتها الموءودة، واعتبرت وأدها ذنباً. ليس هذا فقط، بل إننا نشعر بالعظمة ونحن نسمع قصص الأنبياء لأن القرآن يركز على التفاصيل الإنسانية وعلى روعة مواقفهم، بينما نجد في كثير من آيات اليهود والنصارى قصصاً تسخف الأنبياء وترسمهم بشكل كاريكاتوري، أي إن نقلة نوعية حدثت مع نزول الخطاب القرآني وفي لغته عرض الأمور.
إن آية ﴿نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾( ) تعكس هذا الاتجاه الجديد في عرض التاريخ وسير من قبلنا. وليس هذا فقط، بل وتضعه كقاعدة لنا في خطابنا عن الآخرين، وطبعاً يقفز السؤال إلى السطح: من هم الآخرون؟ وماذا نقصد عندما نصف أحداً بالآخر؟ هذا أيضاً من قدرات اللغة على التصنيف. وعادةً ldquo;الآخرrdquo; هو الإنسان الذي نختلف معه في الرأي، وأيضاً في العادة ننعت هذا الإنسان ldquo;الآخرrdquo; بأسوأ الصفات ونهمّشه بأشنع المصطلحات.
هل هناك من طريقة في عرض الاختلاف ورؤيته بدون فرزه من خلال لغة مشحونة بالعنف والبغضاء؟
ربما هذا هو التحدي الأكبر الذي يشير إليه القرآن عندما يقول ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾( ). إن معاركنا الجسدية ما هي إلا انعكاسات دقيقة لمعاركنا الفكرية، وإنه لمن المثير جداً عندما يستعمل القرآن الجسد في إظهار إشكالية اللغة في آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾( ).
لماذا يشبّه القرآن الغيبة بأكل لحم الميت؟ فكأن القرآن يربط بين القدرة على النهش في أفكار الآخرين وطعن آرائهم بالنهش في لحومهم.
إن هذا تشبيه دقيق يجب أن نقف عنده ونتأمله، فكثيراً ما نظن أن المعارك هي معارك الأجساد فقط، ولكن إذا ما نظرنا إلى لغتنا لوجدنا أنها مليئة بالعنف والشحناء، ولا تخلو لغة من هذا أو من السباب والشتائم، وتصنيف الآخرين وأبعادهم ليس برصاصات، وإنما بكلمات تشبه الرصاصات تمزق القلب وتجلس في الذاكرة.
كلما ارتقى الإنسان صارت لغته مهذبة يرحم الخلق وينصر الحق، وتبدأ لغته بعكس هذه الطريقة من التفكير. والله تعالى يرينا قوة الكلمات في آيات ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾( ).
إن قوة الكلمات في إنماء شجرة ثقافة جديدة إلى المحافظة على ثقافة خبيثة لقوة عميقة في التاريخ. إن التنبيه في القرآن في الغيبة والحث على الدفع بالتي هي أحسن وتجاوز السيئات الكثيرة في مقابل تقبل حسنة ولو كانت واحدة لهي خطوات حضارية لترقية الإنسان وتفكيره، من خلال تصفية لغته من التنابز بالألقاب والسخرية من الآخرين.
وعندما يدشن القرآن الإنسان الذي ﴿إِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾( ) فإنه بذلك يدشن لإنسان جديد، لإنسان نقيت ألفاظه ولغته، ولذلك عندما يردّ بالسلام فإنه سيسلك التصرف السلمي والإنساني. إنه الإنسان الذي سيخرج من شريعة الغاب وتوحش سلوكها وعنف لغتها إلى عالم لم يرفض فيه الإنسان الدخول لمثل هذه اللغة الجاهلية.
إن الخطاب الجاهلي هو الخطاب المعاكس للسلام، ولهذا يقول ldquo;فإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماrdquo;، أي ردوا بلغة مختلفة ولو كان هذا من طرف واحد، لأنه عندما نريد التخلص من اللغة الجاهلية من لغة الشحناء والبغضاء فيجب أن نسحب في اللغة المتوحشة من طرفنا، ونلزم أنفسنا بكلمة السلام، وهذا ما تشير إليه آية ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾( ). فنحن عندما نكون وعينا لآليات اللغة وأبعادها صار حقاً علينا أن نلزم أنفسنا بكلمة التقوى وبخطاب السلام.
إننا لو وعينا لهذا ولم نشعر أننا أهل لهذا التغيير نكون مخادعين لثقافتنا ولغتنا. والواقع أنه لا توجد ثقافة أو لغة في العالم غير قادرة على أن تكون أكثر إنسانية. إن التغيير يعتمد على الناس الذين يعيشون هذه الثقافة ويتكلمون لغتها. إنها مسؤوليتهم في دفع لغتهم نحو إنسانية أكثر. وكلما ارتقى الإنسان وصارت لغته مهذبة يرحم الخلق وينصر الحق ويبدأ لغته الإنسانية، بعكس هذه الطريقة المختلفة من التفكير.
كانت بداية الحديث عن التغيير الذي أُدخل على اللغة الإنكليزية، وهذا كخطوة لها أبعادها العميقة، فربما نستطيع القول إنها بذرة صغيرة نحو إنماء لغة أكثر إنسانية، ونحو بذور أخرى تبدأ بالنمو في اللغة الأخرى، وهذا لا أعنيه فقط على المستوى اللغوي، بل كما حاولت شرح أبعاده الأخلاقية. سوف يكون بذرة في خلق نظرة جديدة في علاقاتنا بين بعضنا البعض كبشر وكشعوب. إن اللغة لا تعكس فقط علاقات أو مواقع أفراد الناطقين بها، بل إن مجازات التعبير عن الذات وعن الآخر تعكس النظرة إلى النفس ومركزيتها.
وعندما يتحدث الغربي عن حضارته ويشير إلى كل الحضارات المتنوعة بالثقافات العديدة بكل بساطة بجملة quot;نحن وبقية العالمrdquo;، فإننا نرى مباشرة هذه المركزية.
انتبه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى هذه الظاهرة في التراث الغربي وكيف يجعل من نفسه مركز العالم ومركز التاريخ، فندد توينبي بهذه المركزية والتي أطلق عليها ldquo;أوهام مركزية الذاتrdquo; التي تعمي عن الرؤية المتوسعة لتاريخ الإنسانية.
وفي هذا يتحدث كيف أن علماء الاجتماع الغربيين من أنثروبولوجيين ومستكشفين كانوا يلقبون الشعوب الأخرى بـ ldquo;السكان الأصليينrdquo; أو بالإنكليزية ldquo;Nativesrdquo;.
توينبي يذكر أن هذا المصطلح كان يضع الإنسان ldquo;الآخرrdquo; في مصاف الأشياء مع الطبيعة والحيوانات والجبال التي يراها ويصادفها الرحالة الغربي، ومن بينها أحياناً ldquo;السكان الأصليينrdquo;، والذين يتحولون في مخياله إلى مجرد لوحة مثيرة خلابة قابلة للدراسة والتأمل، وكأن هؤلاء السكان الأصليون هم أقل إنسانية من هذا الذي يقوم بدراستهم.
كما يذكر توينبي أننا جميعاً كبشر نقع في مثل هذه الأوهام المركزية ولغاتنا تعكس هذه الخيالات المترسبة في أعماق ذاكرتنا الجمعية. وكما ذكرت فإن مصطلحات الزمان هي أيضاً إحدى ألاعيب اللغة في إبعاد أو تقريب الآخرين.
مصطلحات المتقدم والمتخلف والرجعي والمتطور كلها ألقاب زمانية يراد منها معانٍ سلبية أو إيجابية، أي إنها مصطلحات لتصنيف الذات عن الآخرين، عن الذين لا نراهم في مستوانا في مرتبتنا العظيمة التي وصلنا إليها، والتي نريد أن نحميها بحواجز لغوية غير مرئية، تماماً كالأسلاك الشائكة التي تبقي الآخرين بعيدين عن حقولنا.
عندما نصف الآخرين، أي الذين نختلف عنهم بالرأي، بالتخلف والجهل وسوء النية فإننا نرسم الخريطة بكلمات واضحة حتى لا يدخل حدودنا هؤلاء الذين لا نستطيع أن نرى فيهم بشريتنا، والتي نتشارك فيها جميعاً بنفس الدرجة. إن الكلمات أقوى من الرصاص لأنها تخلق وتحمي هذه الخرائط غير المرسومة.
إنها تُبقي على الحدود المحرمة والتي لا نريد أن يشاركنا فيها الآخرون، ولكن المشكلة هي أنه عندما نبعد بكلماتنا الآخرين ونهمّشهم بكلماتنا فإننا بدون أن نعي نكون قد أصبحنا سجناء هذه الكلمات نفسها، فإن كنت أرى نفسي المركز والآخر هو الهامش، وارتسمت الحدود بشدة، فإن الآخر لا يستطيع أن يرى إنسانيته أيضاً، وأصبح أنا المتوحش في مصطلحاته بينما يصبح هو السيد المتحضر في لغته.
ولعل الخروج من هذا السجن اللغوي ومن طرف واحد هو من أهم الخطوات لفتح ثقافتنا وأفكارنا على بعضها، حتى يبقى النافع منها ويذهب الزبد جفاء. هذا الزبد الذي نحميه بكلماتنا ربما تنسفه كلمات ثقافة أخرى حتى تنمو لغتنا ونرى إنسانية بعضنا البعض.
لقد دشن القرآن نقلة كبيرة حين قالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه والآخرون ليسوا على شيء، بينما خلق القرآن لغة إنسانية مهذبة حينما خاطب الناس بقوله ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾( ). وبهذا أراد القرآن مراجعة ثقافتنا وحتى موقعنا من الله ومن الحقيقة.