وصل جثمان الصحافي الفرنسي (جيل جاكييه Gilles Jacquier) الذي قتل بقذيفة في سوريا الى بلاده صباح الجمعة 13 يناير 2012م.
قتل الرجل وسبقته لهذا راحيل (ريشيل) الأمريكية والبلدوزر الصهيوني يطحن عظامها وهي تقتل لمنع هدم بيت فلسطيني.
مات جاكييه وهو يؤدي دوره المهني كما لو مات الجراح في قاعة العمليات، والمهندس تحت سقالة البناء، وكاشف الألغام بانفجار قنبلة. والعامل البنجالي في مسدس الحائط بارتداد المسمار إلى عنقه وبطنه.
ليس الوحيد الذي يريد أن يؤدي دور الشهادة فيموت. هنا هو الشهيد صدقا وعدلا. كما يقرر القرآن في سورة البروج بقوله وشاهد ومشهود. كان الصحفي الشاهد، وكان أصحاب الأخدود أهل حمص، والبعثيون العبثيون على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن طالبوا بالكرامة والحرية، والله على كل شيء شهيد.
الصحفيون والمراسلون والمصورون لوقائع ثورات الحريات في العالم هم الشهود والشهداء خارج منظومة الفقه التقليدي أن من يموت بالقتل فهو الشهيد.
لذا كان من الضروري فهم العمق الرمزي لكلمة شهيد واستشهاد فليس هناك كلمة تهز الوجدان مثل الشهيد. ولا يوجد كلمة أسيء استخدامها مثل كلمة الشهيد. ولا يوجد كلمة غامضة مثل الشهيد. ولا يوجد كلمة مضللة مثل كلمة الشهيد. وفي القرآن جاءت مفردات هذه الكلمة 82 مرة ولم تكن مرة واحدة فيما يريده ويكررها الناس.
في الحقبة الناصرية كنت طالباً في المرحلة المتوسطة وكانت لا تمر الأيام إلا وخرجنا نهتف بحياة شهيد ما من الشيوعيين وانتهاء بصانعي الانقلابات. وفي يوم كانت المظاهرة للهتاف بحياة (الشهيد) (باتريس لومومبا) وكان الناس يتهامسون من يكون هذا الرجل؟
وفي يومٍ مررت على قبر المجرم (عبد الكريم الجندي) في السلمية بعد أن لمع نجمه كجلاد ورئيس مخابرات في سوريا البعث فقرأت فوق قبره quot;ولا تحسبن الذي قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون؟quot; وكان الرجل المذكور يحب ضرب كرام الناس بنعله على وجوههم. ولم ينجو أحد من يده بمن فيهن النساء. وفي يوم وقع تحت يده رجل دين مسيحي فقال له أعلم أن الفاتيكان سيتدخل لإنقاذك ولكنك ستمضي عندي يومان هما في عمر الزمن سنتان ثم أمر بحبسه في دورة المياه؟
وفي 22 يوليو من عام 2003م انتهت حياة قصي وعدي قتلاً كما قتلا الكثير من الناس فذاقا من نفس الكأس واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.
وفي الأردن اجتمع مئات من الناس لتلقي العزاء على سيدي شباب أهل الجنة السبطين عدي وقصي؟
ولا يستبعد أن تمتليء كتب التاريخ بقصة (شهادة) البطلين وهما يقارعان العلوج الأمريكيين كما اعتدنا على الكذب في كتب التاريخ التي تدرس للطلبة المنكوبين.
وفي يوم انتشرت الموضة في العالم العربي فمنهم من سمى ابنه (ستالين) وآخر ابنته (جيفارا) وثالث (سيد قطب) والأولاد يحملون أوزارا غير مسئولين عنها.
وعندما قتل (آرنستو تشي غيفارا) الطبيب الأرجنتيني في غابات بوليفيا اعتبره الثوريون العرب سيد الشهداء مثل حمزة بن عبد المطلب ولم يزيد عن مجرم قاتل محترف.
وعندما يفجر الفلسطيني نفسه في حافلة فيقتل ويقتل يعتبر عند مفتي الجمهورية أنها شهادة في سبيل الله لا يقترب منها شهداء القادسية واليرموك. أما اليهود فيسمون الفاعل إرهابياً وقاتل نفسه وانتحاري. وما يحكم على عمل ما ليس الفتاوى والنصوص بل العواقب. وقل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى؟
وعندما يتصارع فريقان فيقدمان (قرابين) بشرية يعتبر القتيل في عين أهله شهيدا. وفي أعين خصومه مجرما. والفرق بين (الجريمة) و(الجهاد) شعرة. وبين (الزنا) و(الاغتصاب) و(الزواج) أقل من شعرة فكلها ممارسة لعمل جنسي ولكن الأول يقوم على (السرية) والثاني على (الإكراه) والثالث على (الرضا والقبول والإشهار).
وعندما جاهد (الخوارج) لم يكن عملهم جهادا. وإذا أراد الجراح استئصال زائدة دودية في سوق الخضار فإنه يعد قصاباً ولو كان سيد الجراحين؛ فهذه الفروق لا يستوعبها الشباب المتحمس وهم نصف معذورين ولكن أئمة الفكر المنحرف هم الذي يسقون عقول الشباب بهذه السموم.
وليس هناك من أمر أكثر إثارة من (الجهاد والاستشهاد) كما لا يوجد موضوع أكثر خطرا وضبابية منهما.
وفي يوم كان أحدهم يكلمني فقال ألا تقرأ قوله تعالى: quot;فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنينquot;؟ قلت له ألا تقرأ قوله تعالى: quot;ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاةquot;؟، وقوله تعالى: quot;والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلناquot;؟
والقرآن حينما يقرأه أحدنا لا يجد في نهايته فهرساً للموضوعات مثل القتال والشهادة متى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ بل يجد آيات متناثرة مثل النجوم في قبة القرآن.
وإذا كنا في نجوم القطب نصل بينها بخط فنعرف الشمال من الجنوب والدب الكبير والصغير ونهتدي بها في ظلمات البر والبحر كذلك الحال في آيات القرآن. ورؤية فراغية بنيوية من هذا النوع مفيدة في فهم آيات القرآن.
والمشكلة مضاعفة في معالجة نظام الفكر. فالعقلية النقلية هنا تواجه العقلية النقدية. وهي مشكلة أعترف أنها ليست سهلة الحل ولكن لا بد من خوض غمارها واقتحام لججها.
وابن لادن اعتبر أن تفجير أبراج نيويورك عين الجهاد وقمة الشهادة وضرب الكفار في دار الحرب حيث يستباح كل شيء؟ في الوقت الذي اعتبرت أمريكا أنه جريمة نكراء وانتحاريون مجرمون حتى قضى نحبه فكان يوما مشهودا فيه فرح الأمريكيون وبكى فريق من المسلمين.
وكما يقول (نعوم تشومسكي) الناقد الأمريكي أن قرصاناً ألقي القبض عليه في زمن الاسكندر فبدأ في توبيخه كيف يزعج البحر؟ قال القرصان: أنا أنهب بسفينة صغيرة فأسمى قرصاناً أما أنت فتنهب شعوبا بأساطيل فتسمى إمبراطورا؟!
وعندما انتشرت مفاهيم (الجاهلية) من فكر (سيد قطب) في الستينات من القرن العشرين ومن ذيولها فكرة (العزلة الشعورية) مما دفع البعض إلى اعتبار أن احترام (إشارات المرور) هو احترام الجاهلية وأن خرق أنظمة المرور هو عين التقوى لأنه تمزيق شبكة المجتمع الجاهلي لمسلم يعيش في مجتمع جاهلي (عضوياً) ويحاربه فكريا وعمليا.
ومع أن القرآن يذكر كلمة (الشهادة) ومرادفاتها 82 مرة (شهيد 36 مرة والشهداء 20 مرة والشهادة 26 مرة) ولكنه لم يذكرها مرة واحدة بصدد القتل والموت بل بمعنى مختلف هو الحضور الواعي (أو ألقى السمع وهو شهيد) (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض) (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) (والله على كل شيء شهيد)(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)(عالم الغيب والشهادة) (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) أو بمعنى الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) أو الجمع بين الأمرين (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).
وبهذا تكون (الشهادة) ليس ما يعنيها الناس من الموت في سبيل الله حصرا بل على نحو أدق التمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ومنه جاء كلمة (الشاهد) في المحكمة لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة بأذن واعية وألقى السمع وهو شهيد. فهو يدلي (بشهادته) أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا. و(الشهادة) بذلك أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله).
وهكذا فإن حضور جيل جاكييه المصور الفرنساوي لحمص المحاصرة في شتاء عام 2012م ومصرعه هي الشهادة بعينها كما عناها الرب ولو لم يكن مسلما؛ فالبوطي والحسون في دمشق ولارجي وزير خارجية إيران ونصر الله اللبناني، هما شهداء زور وهم يصلون بالناس، و(جيل جاكييه) شهيد ربه ولو لم يستقبل الكعبة. وحيث العدل فثم شرع الله. والعدل غادر بلادنا منذ أيام كافور الإخشيدي.
ولكن السياسيين يطلون أصنامهم بدهانات إسلامية فيخطئون مرتين: أولاً بنسبة ما ليس للألفاظ منها. وثانياً بالخطأ فيما يريد القرآن من هذا اللفظ فيوظفونه في القتل والإجرام؟
وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرِّر المعاني كما يقول (ابن خلدون) ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ.
ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ فيخسر الواقع حقيقة ويكسب القاموس لفظة كما يقول (النيهوم)؛ فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية؟
والشهادة بمعنى الحضور الواعي للعالم والإدلاء بالرأي شيء لا علاقة له بالإرهاب والقتل والجريمة. ستكتب شهادتهم ويسألون؟
وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا في سبيل قضية إنسانية كبرى كما في حالة المراسل الصحفي الفرنساوي جيل جاكييه. وهنا يؤدي دور الإقرار والاعتراف لصدقه وتعلقه بفكرته والإخلاص لها بغض النظر عن صحة الفكرة. وليس هناك من صدق أكبر من أن يقدم الإنسان حياته في سبيل قضية كبيرة.
وقد يقتل الناس من أجل عفونات كثيرة من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي. ويحصد الناس حصدا في الحروب الأهلية مثل الذباب كما حدث في لبنان وراوندا والجزائر والعراق وأفغانستان وكمبوديا ولاوس. كما قد يموت أناس من أجل حفنة دولارات أو مصالح تافهة أو صراع على أرض. ولا تساوي كل الأرض سفك دم إنسان واحد. ولا يوجد أرض مقدسة في نظر الإسلام فالقدسية لا تخلع على التراب ولكن تستمد قدسيتها من (القدوس) السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب و(الشهادة).
وهنا يجب التفريق بين (الموت) من أجل فكرة و(صدق) تلك الفكرة؛ فليس كل من يموت من اجل فكرة يعني تلقائياً (صحة الفكرة).
ومات الكثير من الشيوعيين والفاشيين والملحدين من أجل أفكارهم فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة أو أن الفاشية منتهى التاريخ.
وهناك أناس تافهون ماتوا من أجل قضايا تافهة. وتذكر صحفية مصرية راقبت المشنوقين على يد (العشماوي) أن أثبت الناس جنانا كان تاجر مخدرات دخَّن سيجاره قبل الموت، وضحك لمن حوله وقال هل هي سوى موتة وهي موتتي، وكل الناس تموت، ولا يفر أحد من الموت، وسنموت على كل حال بشكل وآخر. فعاش مجرما ومات فيلسوفا.
وكذلك كانت نهاية صدام المصدوم المشنوق مع أخيه برزان وهما يواجهان الموت مثل هذا الشقي.
وأمام هذه الحقيقة كان الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) عندما يسأل: هل عندك استعداد أن تموت من اجل أفكارك؟
كان جوابه: لا .. لأنني قد أكون مخطئاً فأموت عبثا؟!.
وفي الفلسفة المسيحية ينقل الإنجيل في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن.
وعلى ما يبدو أن الأفكار تخلد وتنتشر بهذه الطريقة. وهي تفسر طرفاً من الآية أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة وأخرى.
ومن يموت من أجل أفكاره يدفع الحياة في أفكاره. وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية بعد شنقه فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه. فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها. والرجلان بين يدي رب العزة الآن يختصمان. ومن ظلمات الديكتاتورية والظلم ولدت ظاهرة (الظواهري) فانتقل إلى أفغانستان فكان عبد الناصر مثل الجراح الخايب الذي فتح بالسكين على السرطان فلم يستأصله بل نشر السرطان بأشد مما كان.
ونفس سيد قطب يقول إن quot;كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياةquot; ولكن الكلمات منها الصحيح ومنها القاتل فإذا عاد فرانكنشتاين إلى الحياة تعدى أن يكون مزحة ثقيلة. ومع إعدام مروان حديد في سوريا غرق البلد في حرب شبه أهلية؟ وسوريا اليوم تعيش محنة حماه بشكل جماعي من الدرباسية وعامودة إلى الحراك وسقبا وحموريا.
فهذا قانون وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر . وكل محظور مرغوب. وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما. وليس ألذ من اتصال جنسي في الحرام. وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة؟ وسقط سور الصين من اجل محظية جنرال.
في مناسبة ما يسمى يوم الشهداء تبارى الخطباء في تمجيد الشهداء بحضور مجموعة من الامهات حتى جاء دور رجل فتوجه إلى الأمهات قائلاً: لا يغرنكم قول هؤلاء فلم يزيد أولادكن عن قرابين بشرىة لأصنام هؤلاء؛ فاحمرت الأحداق، ولكنه نجا من أيديهم وخرج من بينهم بدون أن يضربوه بالنعال على الوجوه والأدبار.