أصدر السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس عقب زيارته الأخيرة للقاهرة، تصريحات اتسمت بالشجاعة والصراحة والمسؤولية التي تضع مصلحة الشعب الفلسطيني ضمن أولويات العمل الفلسطيني المشترك بين مختلف الفصائل الفلسطينية. ومن أهم ما قاله السيد خالد مشعل في هذه التصريحات:
quot; يجب ان نكون شجعانا في نقد أنفسنا، فهناك أخطاء متبادلة صدرت عن حماس وفتح، يجب أن نعترف بها وفي نفس الوقت لا يجب أن نلقي باللائمة على بعضنا البعضquot;.
quot; الجميع شارك في الخطأ ويجب على كل فصيل أن يحمّل نفسه جزءا من المسؤولية، ويجب على الجميع التكاتف لإنهاء الانقسام فهو ليس بضاعة فلسطينية وهو حالة طارئة أجبرنا عليها، يجب نبذها والخروج منهاquot;.
quot; قلق شعبنا وخوفه من بطء عملية المصالحة قلق مشروع.. ولكن يجب أن لا نبقى حبيسي هذا القلق، بل يجب أن نتفاعل إيجابيا لإنجاز المصالحة فكلنا شركاء في هذا المشروعquot;
quot; إنّ الوطن أهم من جميع الفصائل ويجب تقزيم الأنا الحزبية، ففلسطين أكبر من حماس وفتح ومن كل الفصائل، فدعونا نخرج من هذه الأنا والعباءة الحزبية الضيقة، ففلسطين عظيمة فهي أرض السلام ومهد الأنبياءquot;.

متى وكيف بدأت هذه الأخطاء التي وصلت إلى خطايا؟
لقد فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت يوم الأربعاء الخامس والعشرين من يناير 2006 بالأغلبية في المجلس التشريعي الفلسطيني، وكانت تلك هي الانتخابات الثانية منذ عام 1996 حيث كان من المقرر أن تجري في بداية عام 2000 إلا أنّها تأخرت بسبب انطلاق الانتفاضة الثانية في عام 2000 ثم الحصار الذي فرض على الرئيس عرفات وأعقبه وفاته في نوفمبر 2004 . رغم أنّ بعض التحليلات في تلك الفترة أضافت لهذا التعطيل للانتخابات تخوف فتح وعرفات من تنامي نفوذ حركة حماس مما سيمكنها من الفوز بالأغلبية في المجلس التشريعي، وهذا ما كان في انتخابات يناير 2006 . وقد كان الرئيس محمود عباس آنذاك نزيها إذ أجرى انتخابات شفافة ديمقراطية باعتراف كافة المراقبين وحماس ذااتها التي اعتبرته في تصريحات لبعض مسؤوليها آنذاك بأنّه أفضل ديمقراطي في الشرق الأوسط، ثم تحلى بالشجاعة عندما اعترف بفوز حركة حماس وكلّف السيد اسماعيل هنية مسؤولها في قطاع غزة بتشكيل الحكومة الفلسطينية، فكان (أبو العبد) أول رئيس وزراء فلسطيني من قيادة حركة حماس.

وماذا حصل بعد فوز حماس وخسارة فتح؟
أعتقد أنّ حركة حماس لم تصدّق أو لم تتوقع فوزها الساحق هذا، وكذلك حركة فتح لم تفهم ولم تستوعب خسارتها الفادحة هذه. لذلك بدأت سياسة الاستحواذ من قبل حركة حماس وسياسة الإفشال والتعطيل من قبل حركة فتح. حماس أرادت السيطرة المتفردة على كل أمور الحياة الفلسطينية خاصة قوى الأمن التي من خلالها يتم بسط الهيمنة والنفوذ، فبدأت بتشكيل ما أطلقت عليه quot;القوة التنفيذيةquot; لتكون جهازها الأمني الذي يوازي وينافس quot;الأمن الوقائيquot; الذي كان تحت إمرة عضو قيادة فتح محمد دحلان، ورغم تشكيل الحكومة بقيادة حماس، إلا أنّ دحلان وأمنه الوقائي ظلّ يتصرف وكأنّه دويلة داخل دولة حماس بعيدا عن اية أوامر أو توجيهات من وزير الداخلية سعيد صيام الذي اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلي في يناير 2009 .

هذا في القطاع أما في الضفة الغربية حيث مقر رئاسة الرئيس محمود عباس، ورغم أغلبية حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني، إلا أنّ حماس لم تتمكن من ممارسة أي عمل حكومي من قبل حكومتها المشكلة برئاسة اسماعيل هنية، وأصبح الوضع الفلسطيني يتحكم فيه دويلة عباس في الضفة ودويلة حماس في القطاع دون ممارسة كاملة بسبب نفوذ جهاز الأمن الوقائي برئاسة محمد دحلان وغالبية عناصره وضباطه من حركة فتح ومناصريها. إزاء هذا الوضع قامت حماس بحسم الوضع لقيام دويلتين وحكمين فعلا عبر انقلابها العسكري الذي أحكم السيطرة كاملة على القطاع في يونيو 2007 ، رغم أنّني كنت وما زلت مع الرأي القائل بانّ حماس تسرعت في انقلابها هذا، وكان يجب أن تلجأ للمجلس التشريعي الذي لها فيه الأغلبية ليقلص نفوذ حركة فتح ويطالبها بإعطاء الفرصة كاملة للحكومة المنتخبة بأغلبية من الشعب الفلسطيني. ثم توالت الأخطاء الجسيمة من الحركتين كما اعترف خالد مشعل، وبصراحة شديدة ارتكبت الحركتان بحق بعض وبحق الشعب الفلسطيني ما لا يمكن تبريره لأي سبب أو ظرف سوى الهيمنة على السلطة والكرسي والمال،مما نتج عنه دويلة لحماس في القطاع ودويلة لعباس في الضفة بينها من الحروب والتصفيات والتهميشات ما يرقى لأعمال الاحتلال الإسرائيلي، من هنا تأتي أهمية وشجاعة تصريحات خالد مشعل.

ما المطلوب إذن لاستعادة ثقة الشعب في الحركتين؟
وأيضا بصراحة شديدة فقد ملّ الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات من هذا الاستمرار لمسلسل مفاوضات وجلسات المصالحة منذ اتفاق القاهرة عام 2005 ثم وثيقة الوفاق الوطني عام 2006 ، ثم اتفاق مكة في فبراير 2007 ومباحثات الدوحة، وزيارات عمر سليمان مدير المخابرات المصرية السابق المكوكية لقطاع غزة، ثم مباحثات القاهرة والتوقيعات التي يصعب إحصاؤها، وفي نهاية كل جولة مباحثات يتمّ الإعلان عن اتفاق على أمور و تأجيل بعض الأمور لجولة قادمة، وهكذا يستمر هذا المسلسل الطويل الممل بدون أي مضمون منذ عام 2006 أي خمسة سنوات والانقسام الفلسطيني وما يصاحبه من حروب إعلامية وتهميش وطرد كل طرف للآخر، واستنادا لتصريحات خالد مشعل وما يبدو منها من تفاؤل كبير فالمطلوب من الحركتين إذا كانتا صادقتين في هذه التصريحات والتفاؤل، أن تتم خطوات سريعة أهمها:

1 . البدء بانتخابات تشريعية جديدة سريعة شفافة نزيهة ديمقراطية، يليها تشكيل حكومة فلسطينية جديدة من قبل الحركة التي تفوز بالأغلبية في هذه الانتخابات، ولضمان تمثيل كافة نسيج المجتمع الفلسطيني، من المهم عندئذ أن تشكّل الأغلبية حكومة وحدة وطنية أي تتمثل فيها كافة الحركات الفاعلة والمتواجدة فعلا في الساحة الفلسطينية. وهذه التنظيمات إذا أردنا الواقع الميداني الفلسطيني فهي: فتح، حماس، الجبهة الشعبية، حركة الجهاد الإسلامي،و الجبهة الديمقراطية. وما عدا هذه التنظيمات الخمسة فهي إما فروع لحماس أو فتح، أو مجرد فصائل شكلية لا وجود لها في الشارع الفلسطيني إلا عبر بيانات إنشائية، واحتفالات خطابية في ذكرى التأسيس أو الانطلاقة، وهي بيانات وانطلاقات ملّ منها الشعب الفلسطيني. ولنكن جريئين في قول الحقيقة، فبعض هذه التسميات لا يتعدى عدد أعضائها من يطلق على نفسه لقب (الأمين العام) ومساعده وبعض أفراد عائلته وأصدقائه و مريدين أو مستفيدين. والدليل على ذلك الخبر المضحك المحزن الذي نشرته وسائل الإعلام الفلسطينية والمصرية يوم العشرين من ديسمبر 2011 حول جلسة المباحثات التي كانت تنعقد في القاهرة، حول انسحاب سبع فصائل (سبعة يخزي العين والحسد) من جلسة المفاوضات بسبب مشادة كلامية مع عزام الأحمد ممثل حركة فتح، وهذه الفصائل هي: (حركة المقاومة الشعبية، لجان المقاومة الشعبية، حركة الأحرار، فتح الانتفاضة، الصاعقة، جماعة أبو موسى، وجبهة النضال). فهل هناك من يستطيع أن يدلّنا على أي وجود لهذه الجماعات غير البيانات وذكرى الانطلاقات المملة التي قرف منها الشعب الفلسطيني؟.

2 . وبعد هذه الانتخابات وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، يبدأ على الفور تصحيح كافة الأوضاع الإدارية التي نجمت عن الانقسام طيلة السنوات الخمسة الماضية، خاصة إخلاء السجون في الضفة والقطاع من المعتقلين والسجناء من الحركتين ما عدا من قاموا بأعمال جنائية، وإعادة ألاف الموظفين ومن تمّ وقف رواتبهم بسبب انتمائهم التنظيمي، فكلهم مسؤولون عن عائلات وأطفال، ومئات منهم لم يتسلموا أية رواتب منذ ما لا يقل عن أربعة سنوات.

وبعد ذلك لا خلاف على البرنامج السياسي،
كما أوضح خالد مشعل بسبب البدء بتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية لمشاركة حماس فيها وفي لجنتها التنفيذية، وفي مجلس وطني فلسطيني يعاد انتخابه من جديد بدلا من تعيينه كما كان في السابق. أما حول البرنامج السياسي فقد كان خالد مشعل واضحا في قوله: (كل فصيل له برامجه لكن هناك مساحة للتقاطع، فمثلا بالنسبة للمقاومة نحن مختلفون فكل فصيل له قناعاته في المقاومة، واليوم يمكن أن نعمل معا في المقاومة الشعبية التي تجلت في فعل الجماهير العربية في الربيع العربي، لكن هذا لا يلغي حقنا في استخدام المقاومة المسلحة). وفي الواقع الميداني فلا فرق بين برنامجي فتح وحماس، فخالد مشعل نفسه سبق أن صرّح لوسائل إعلام أمريكية بقبول حركة حماس بدولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 عاصمتها القدس، وهذا ما تريده وتطالب به وتعمل من أجله حركة فتح.

إنّ تفاؤل وواقعية خالد مشعل تبعث أملا جديدا في الشارع الفلسطيني، سوف يتلاشى هذا الأمل نهائيا إذا لم يبدأ تطبيق ما يستدعيه هذا الأمل ميدانيا خلال شهور قليلة، فمن خلال تصريحاته يفهم بوضوح أنّه لا سبب منطقي أو وطني لاستمرار الانقسامات والخلافات، وبالتالي فالانتهاء منها لا يحتاج لأكثر من شهور قليلة إذا كان الكل صادقا في نواياه وتصريحاته..فلننتظر ولكل حادث حديث.
[email protected]