رغم التهديدات والتحذيرات والمناشدات التركية، الا ان إدارة الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي صادقت سريعا على إقرار قانون تجريم كل من ينكر الإبادة الأرمنية (السجن لمدة عام وغرامة مالية 45 ألف يورو) دون اي اعتبار للموقف التركي، ولعل ما يؤكد هذا الأمر هو ما سربته مصادر فرنسية من ان الرئيس ساركوزي ظل يتهرب من الاتصالات الهاتفية الكثيرة التي أتته من رجب طيب اردوغان وعبدالله غل قبل أربعة أيام من موعد التصويت في مجلس الشيوخ الفرنسي.
هناك من قال ان ساركوزي أراد من هذه الخطوة ضمان الحصول على أصوات الناخبين الأرمن (500- 600 ألف ناخب) في الانتخابات الرئاسية، وهناك من رأى أن هذه الخطوة جاءت استحقاقا للموافقة الفرنسية على القانون قبل نحو عقد من الزمن وعرف ساركوزي كيف يستغل توقيت إقرار القانون.
وبين هذا وذاك، ثمة جدل بِشأن عدم قانونية هذه الخطوة نظرا لتعارضها القانوني مع الدستور الفرنسي، وثمة من رأى ان تداعيات هذه الخطوة على العلاقات الفرنسية - التركية ستفوق القيمة الإخلاقية لإقرار القانون بسبب أهمية الدور التركي في هذه المرحلة وحجم العلاقات الاقتصادية والعسكرية والصفقات الموقعة بين الجانبين.
في الواقع، رغم كل هذا الجدل فان حسابات ساركوزي تتجاوز ذلك بكثير لتصل إلى عمق القضايا الحضارية في العلاقة تركيا من جهة، ومن جهة أخرى استراتيجية لها علاقة بالصراعات الجارية، كل ذلك بعد مضي قرابة نصف قرن على طلب تركيا الانضمام إلى العضوية الاوروبية، والجواب الأوروبي المتردد والذي لا يقول (نعم كاملة) كما أنه لا يقول (لا مطلقة) بشأن هذه العضوية. وعليه يمكن القول ان ساركوزي أراد من إقرار قانون الإبادة الأرمنية تحقيق هدفين أساسيين.
الأول : توجيه ضربة قوية وحاسمة لمساعي تركيا الرامية للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وإبعادها عن الاتحاد وإقصاء خيارها هذا، حيث بات معروفا حجم كره ساركوزي لهذه المسألة ورفضه المطلق لضم تركيا إلى العضوية الأوروبية لأسباب تتعلق بالهوية الحضارية الأوروبية بالدرجة الأولى.
الثاني : يتعلق بكبح التطلعات التركية في شمال أفريقيا والشرق الاوسط في ظل التكالب الإقليمي والدولي على جني ثمرات مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي، حيث بدا التنافس التركي ndash; الفرنسي على ليبيا ما بعد القذافي على أشده، بل ان تسويق النموذج الإسلامي التركي في شمال أفريقيا استدعى فرنسيا استنفار وإحضار القيم الحضارية والسياسية الأوروبية في هذه المنطقة، ولعل هذا ما يفسر طلب رئيس الوزراء الجزائري من نظيره التركي عدم الإتجار بدماء الجزائريين وحل مشكلات بلاده مع فرنسا بعيدا عن إرث العلاقة بين الجزائر وفرنسا.
دون شك، إقرار قانون الإبادة الأرمنية يكشف عن الجوانب المثارة في العلاقة التركية ndash; الفرنسية والأوروبية بشكل عام في ظل الرفض الأوروبي الضمني لقبول تركيا في العضوية الأوروبية، وهكذا يكشف حقيقة المسار الجاري بين الجانبين، فهو كان بالنسبة للجانب التركي مسارا للممارسة الديمقراطية وضمانها عبر المزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية وصولا إلى معايير كوبنهاغن الأوروبية، فيما كان بالنسبة للاتحاد الأوروبي مسارا واختبارا حضاريا لاحترام الهوية الإسلامية بعيدا عن سياسة التذويب أو بعض المفاهيم اليمينية الصاعدة في الغرب والتي تضع الإسلام والمسلمين في موقع الإرهاب والتخلف.
في الواقع، إذا كانت النخب التركية ترى ان مسألة تحقيق المعايير أو القيم الأوروبية هي مسألة وقت لا أكثر، فإن بديهية تركيا بلد إسلامي، يشكل المسلمون قرابة 98 بالمئة من السكان البالغ عددهم قرابة 75 مليون نسمة، هذه البديهية تطرح علينا السؤال التالي: كيف يمكن حل إشكالية وجود مجتمعين مختلفين في ظل اتحاد له هويته الحضارية ومؤسساته العليا وميثاقه ؟ إذا تذكرنا أن البرلمان الأوروبي هو أعلى سلطة تشريعية في دول الاتحاد وينتخب على أساس مباشر ومن منطلق التحالفات الحزبية عبر هذه الدول، فكيف يمكن تصور انضمام تركيا لعضوية الاتحاد ثم اشتراك حكومة أو حتى حزب بإيديولوجية حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأوروبية.
في الواقع،ثمة مشكلة حضارية حقيقية بين الجانبين لا يتم الحديث عنها بصراحة، فمثلما هو مستحيل بالنسبة للأتراك إثبات انتماء بلدهم إلى أوروبا جغرافيا (باستثناء ثلاثة بالمئة من مساحتها) وحضاريا، كذلك فإن المسألة صعبة وإشكالية بالنسبة لأوروبا نفسها في قبول العضوية الكاملة لدولة لا تنتمي إلى اتحادهم حضاريا وجغرافيا،وحل هذا الإشكال يشكل تحديا للقيم الفكرية الأوروبية والتي تصنف بالليبرالية والديمقراطية، والتحدي هنا هل بإمكان هذا الفكر ان يقر بالهوية الإسلامية حضاريا وثقافيا في اتحاده خصوصا وان قبول عضوية تركيا يعني ان حدود الاتحاد ستصبح مع إيران والعراق وسوريا وآسيا الوسطى ؟.
وارتباطا بمعضلة الانتماء الحضاري والجغرافي، فإن مسألة الإسلام السياسي في بلاد تاريخية مهمة مثل تركيا مازال بنظر العديد من الأوروبيين هي استمرار للدولة العثمانية التي أذاقت شعوبهم المرارة في حروب فتح (القسطنطينية ndash; استنبول) مسألة شائكة ومعقدة خاصة في ظل وضع العديد من الاوساط اليمينية الأوروبية الإسلام في مرتبة العدو.
وفي مسار السعي التركي إلى العضوية الأوروبية ينبغي أيضا التوقف عند قضية مهمة تتعلق بعدد سكان تركيا الذي بلغ قرابة 75 مليون نسمة وسط معدلات نمو سكاني مرتفع مقابل نسبة منخفضة جدا في دول الاتحاد الأوروبي، ويثير هذا العامل قلق الدول الأوروبية ولاسيما فرنسا وألمانيا من أن يحدث ذلك خللا في البنية السكانية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمجتمعاتها التي تزداد فيها مظاهر العداء للجاليات الأجنبية ولا سيما الإسلامية منها في مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول.
مجمل ما سبق، يشير إلى حجم التباعد الحضاري بين تركيا والاتحاد الأوروبي ويبدو أن ساركوزي بإقرار قانون الإبادة الأرمينة نجح في توجيه ضربة قوية للمساعي التركية في الانضمام إلى العضوية الأوروبية و وضع تركيا أمام مفترق خيارات.