منذ قيام الدولة العربية الحديثة منتصف القرن الماضي، انشغلت الحكومات العربية بقضية بناء أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات وجيش ومخابرات وأحزاب تدور في فلكها... وأقامت هذه المؤسسات وفقا لخطاب قومي متشدد في البنية والنزعة والتوجه والممارسة والشعارات والأهداف، لاسيما في المرحلة الناصرية التي شهدت صعودا قوميا كبيرا، وقد اتخذ هذا الخطاب في البداية محاكاة النموذج الاشتراكي لجهة الشعارات وبناء الأجهزة والسلطات،ومع طغيان سلطة الدولة عبر أجهزتها العديدة والمتنوعة في حياة الأفراد والمجتمع والأمة.. أكملت الدولة قبضتها على المجتمع المدني والحياة الاجتماعية وغزت مؤسسات المجتمعين المدني والأهلي، سواء عبر إنشاء مؤسسات جديدة وفقا لقوانينها أو التدخل المباشر في عمل المؤسسات الموجودة، كتعيين أعضائها أو وضع أطر وقواعد صارمة على برامجها وعملها أو إجبارها على العمل لصالح سياسة الدولة، فضلا عن القوانين والدساتير التي سنتها الحكومات والتي تخولها حل أي مؤسسة من هذه المؤسسات بقرار إداري وليس بحكم قضائي.
ونتيجة لهذا النهج الصارم أزدهر العمل الحكومي وطغى في البلاد العربية فيما شهد المجتمعين المدني والأهلي نوعا من الجمود والتهميش والانحسار والانسحاب من الحياة العامة، وبالتالي الغياب لصالح ظهور منظمات واتحادات وحتى أحزاب تحمل شعارات ثورية،أحزاب ومنظمات واتحادات هي في شكلها وتنظيمها وممارساتها أقرب إلى حالات عسكرية شعبية معبأة أيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا، والحصيلة من وراء هذا النهج بناء طبقة أو مجتمع سياسي مأدلج في واقع اجتماعي متنوع معرفيا ومدنيا وحضاريا، ولعل هذا ما يسميه المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي بسيادة المجتمع الدولة على المجتمع المدني.
وعليه، فان الدولة العربية الحديثة كتعبير تنظيمي وأداري في سياق التطور الاجتماعي والسياسي للشعوب العربية لم تتح الفرصة أمام المجتمع العربي وحركته الطبيعية في التأسيس لمؤسساته ومنظماته في إطار التعبير عن وجوده وطموحاته وهويته، وبدلا من ذلك انقسم هذا المجتمع إلى ما يشبه طبقتين، الأولى: سياسية سائدة تعمل في إطار أجهزة الدولة وسلطاتها ومعها طبقة المصالح من تجار ورجال المال والأعمال وبعض الوجهاء الاجتماعيين من رؤساء القبائل والعشائر. والثانية: تقوقعت في أتون منظمات سرية متطرفة اتخذت طابع المعارضة المطلوب رأسها للسلطات فيما هي تنشد الانقلابات والوصول إلى السلطة أو تتخذ منحى الانخراط في منظومة العشيرة والقبيلة والطائفة والأحزاب السرية.. على شكل قبائل سياسية تحضر نفسها للحرب والاقتتال الداخلي مع كل هزة أو أزمة تصيب المجتمع وشبكة علاقاته المتداخلة، وهكذا تحول المجتمع ككل إلى مفرخ لا متناه للأزمات والخلافات بدلا من الوئام الاجتماعي المطلوب والتوجه نحو التنمية والنمو وامتلاك الوعي وأدواته.
ان الدولة العربية الحديثة التي حكمت على المجتمع بعقلية الثورة وعولت على الانقلابية كوسيلة لتحقيق قيم أيديولوجية معينة،هذه الدولة أخذت من نفسها صفة التدخل وأمر النهي في كل ما يخص المجتمع هدفا، واعتبرت ذلك بمثابة حق قانوني لها، وهو الأمر الذي اثر سلبا على اتجاهات المشاركة الاجتماعية في الحياة السياسية بسبب محاصرة مؤسسات المجتمع وحركاته، والأمر نفسه يفسر غياب ظاهرة التداول السلمي للسلطة أوسيادة المفاهيم المشوهة عن هذه الظاهرة والانتخابات والتعددية السياسية بوصفها عناوين للديمقراطية وممارستها، والحصيلة بعد عقود من هذه التجربة بتنا أمام المقولة المعروفة ( دولة قوية ومجتمع ضعيف ) ( دولة حاضرة ومجتمع مغيب ).
في الواقع،عند رؤية المتغيرات الجارية بعد احتلال العراق وصولا إلى الانسحاب الأمريكي منه، وظهور العديد من التحديات الأمنية والسياسية المتعلقة بحقوق الجماعات السياسية والعرقية وحقوق الأقليات والاستحقاقات السياسية المتعلقة بحقوق الأفراد والمؤسسات وتحقيق الإصلاح وتأمين الخدمات وكذلك التحديات الناجمة عن مكافحة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية التي انتشرت على امتداد عواصم منطقة الشرق الأوسط.. ينبغي القول ان الدولة العربية التي تأسست بعد الاستقلال تبدو وكأنها في سباق مع نفسها لكثرة التحديات التي تعاني منها، وهي في مواجهة هذه التحديات تلجأ أكثر فأكثر إلى الحلول الأمنية وتجذير النهج الأمني في التعامل مع قضايا المجتمع وتنميته ولاسيما تلك المتعلقة بالحريات ووضع ضوابط صارمة على تكنولوجيا التواصل من انترنيت واعلام واتصالات...الخ وهكذا تبدو الدولة العربية خائفة من الانفتاح والعولمة والديمقراطية والتعددية... دولة غير قادرة على تحقيق التنمية واكتساب المعارف.. دولة تظل بحاجة إلى المساعدات وتعتمد على الاستيراد... دولة تخاف من الحوار وتعيش هاجس التقسيم وتختزل الوحدة في شعارات سياسية فوقية فيما يعيش المجتمع حالة من الضعف والانقسام والازدواجية والحروب الداخلية.
ان الدولة عندما تكتسب قوتها من ضعف المجتمع نتيجة الإلغاء والإقصاء والتهميش لا يمكن ان تكون دولة قوية بالمعنى الحقيقي لمفهوم القوة ، وتصحيح مفهوم القوة هنا يصبح أولوية فكرية وسياسية واجتماعية للمعنيين بالبحث عن إعادة بناء مفهوم الدولة وقوتها من جديد. وانطلاقا من الفشل المدوي للدولة العربية الحديثة فان الثورات العربية في حقيقة الأمر لم تكن سوى عبارة عن رد اعتبار إلى المجتمع العربي وفي عودته إلى تطلعاته السياسية بعد ان غيب قسرا لصالح السلطة وشعاراتها التي حولت الدولة كمفهوم إلى سلطة استبداد وقهر طوال العقود الماضية.