وضعت الأحداث الدموية التي عاشتها ولاية سليانة مؤخرا، مسيرة الانتقال الديمقراطي في تونس مجددا أمام امتحان صعب، شجع بعض المحللين إلى الذهاب بعيدا في تقديراتهم، إلى درجة قال معها بعضهم أن تونس مقبلة على ثورة جديدة سيكون على رأس أولوياتها تصحيح المسار الذي آلت إليه ثورة 14 يناير 2011، و إعادة بناء الأهداف الثورية ليكون على رأسها مجددا المطلب التنموي و الاجتماعي، الذي كان في واقع الأمر الدافع الأساسي وراء انهيار النظام السابق و رحيل بن علي.

لقد جاءت أحداث ولاية سليانة أكثر قساوة من حيث عنف المواجهة بين المواطنين المنتفضين و قوات الأمن، قياسا بتلك الأحداث التي شهدتها ولاية سيدي بوزيد ndash; مهد الثورة ndash; قبل أسابيع قليلة، و من قبلها ولايات أخرى تمثل ما يمكن تسميته بquot;تونس العميقةquot;، و التي رفعت جميعها ذات الشعارات التنموية و الاجتماعية، و انتهت في مجملها بطرد الوالي، الذي رمز دائما في نظر السكان المحليين للسلطة المركزية، و حمل بشكل مباشر مسؤولية مواصلة سياسة التهميش و التسويف، أو سياسة quot;الحقرةquot;، المصطلح الذي شاع استعماله في الأوساط السياسية و الأكاديمية، و أضحى عنوانا لهذه المعركة غير المعلنة بين المناطق المرفهة على الساحل و المناطق المحرومة في أعماق البلاد التونسية.
و لكي نفهم جيدا العوامل المحركة لانتفاضة تونس العميقة، التي بلغت ذروتها في سليانة، لكنها مؤهلة لمزيد من التداعيات في الأيام القادمة، لا مناص من التوقف جيدا عند ذلك الشعور بالضيم و الغبن الذي يسيطر على أذهان ساكنة المناطق الداخلية التونسية و الأحزمة الفقيرة في هامش المدن التونسية الكبرى، و خصوصا الشرائح الشابة من بينها، فشباب ولايات سليانة و سيدي بوزيد و القصرين و قابس و تطاوين و مدنين و قفصة و الكاف و سواها، يعتقدون بشكل جازم أن quot;ثورتهم الاجتماعيةquot; سرقت منهم، و حرفت إلى quot;ثورة سياسيةquot; لم يجدوا أنفسهم فيها، حيث وزعت كعكتها على رموز النخب السياسية في المعارضة السابقة، و بقيت المناطق المحرومة السابقة على حالها، بل إن أوضاعها الاجتماعية و المعيشية ازدادت خلال الأشهر الماضية، و تحديدا منذ صعود الإسلاميين إلى السلطة، سوءا و تعقيدا.
بالحديث إلى شباب سليانة و سيدي بوزيد و سائر المناطق المنتفضة على حكم الإسلاميين اليوم، لا يجدون غضاضة في القول بأنهم لم يقوموا بالثورة على نظام بن علي من أجل إرجاع الشيخ راشد الغنوشي من لندن أو الدكتور منصف المرزوقي من ملجئه في باريس، بل بالثورة من أجل تصحيح المعادلة التنموية المختلة بين quot;تونس الساحليةquot; و quot;تونس العميقةquot;، و التي دفعت طيلة الخمسين عاما الماضية بثمانين بالمائة من الموارد التنموية للأولى في حين لم تخصص للثانية سوى العشرين بالمائة الباقية، مما كرس حيفا تراكميا خلف اختلالا صارخا بين الطرفين على أكثر من صعيد، لعل أبرزه البنى التحتية و نسب البطالة ذات الفوارق الصارخة.
و لأن طبيعة الثورة التونسية كانت اجتماعية في المقام الأول، حيث كانت أحلام الشبيبة الثائرة متصلة بمطالب تشغيل نصف مليون عاطل عن العمل، أو على الأقل تمتيعهم بمساعدات اجتماعية و قروض و هبات لبعث مشاريع تنموية، إلى جانب مكافحة الفساد و الرشوة و محاسبة المفسدين و تصحيح أوضاع الفقراء و المحتاجين و بسطاء العمال و المزارعين، فإن الطبيعة السياسية التي منحت للثروة من حيث التركيز على إجراء انتخابات نزيهة و شفافة و تشكيل حكومة منبثقة عن نتائج تلك الانتخابات و كتابة دستور جديد للبلاد و سن قوانين جديدة تكرس الديمقراطية و حقوق الإنسان، لم تجد صبرا أو تفهما كبيرين لدى الشرائح الاجتماعية الفقيرة في المناطق المحرومة.
لا شك أن وظيفة الحكومة التي شكلها الإسلاميون التونسيون قبل عام تقريبا، في تصحيح وضعية اجتماعية مختلة نتجت عن خمسين عاما من التنمية غير المتوازنة، لم تكن غير وظيفة مستحيلة، لكن ما جعل الأزمة تستفحل إلى درجة تهدد باندلاع ثورة ثانية، هو الأداء quot;الكارثيquot; لجل أعضاء هذه الحكومة، الناجم عن محدودية تجربتهم و تواضع كفاءتهم و ارتكاب قيادتهم لعديد الأخطاء القاتلة، لربما كان أبرزها تعيينات فاشلة لكثير من المسؤولين الجهويين كالولاة و المعتمدين (المحافظين و القائممقاميين)، ممن اعتمد في اختيارهم على عنصري القرابة الدموية و الولاءات الحزبية.
لقد اكتشف الرأي العام التونسي خلال أزمة سليانة الأخيرة أن الوالي الجديد لم يكن سوى ابن شقيقة رئيس الحكومة حمادي الجبالي، بينما لم يكن الوالي الجديد لسيدي بوزيد سوى مسؤول محلي سابق اشتهر كرمز من رموز الفساد في المنطقة، و كانت تصرفات رئيسه الوالي آنذاك و تصرفات عدد كبير من زملائه في السلطة الجهوية السبب الرئيسي في اندلاع الثورة الشعبية ضد الحكم السابق، و التي اندلعت شرارتها الأولى كما هو معلوم يوم 17 ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بوزيد بعد أن احرق الشاب محمد البوزيدي نفسه أمام مركز الولاية.
و يشير عديد خبراء التنمية في تونس، إلى أن العامل الثاني الذي استفز سكان سليانة و غيرها من ولايات quot;تونس العميقةquot;، تبني حكومة حركة النهضة و حليفيها حزبا quot;المؤتمرquot; (CPR) و quot;التكتلquot;(Al-TAkattol) لنفس المفاهيم التنموية المعتمدة خلال العهد السابق، حيث نظر إلى عمليات ترميم الفصول الدراسية و المراكز الصحية و توسيع الطرقات في المناطق الزراعية و سواها، باعتبارها مشاريع تنموية، فيما كانت انتظارات السكان متطلعة إلى مشاريع إنتاجية تقوم بتشغيل عشرات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل، خاصة منهم أولئك الذين تخرجوا من الجامعات و المعاهد العليا.
و يكفي القول بأن ولاية كسليانة، تعد من الناحية الرسمية، الولاية الأكثر فقرا في الجمهورية، و كذا الحال بالنسبة لولاية سيدي بوزيد، لم تعرف بعد ما يقارب السنتين من نجاح الثورة إقامة أي مشروع إنتاجي قادر على استيعاب ألف عامل فقط، و أنه لم تظهر للساكنة المحلية أي إشارات أو أمارات تشير إلى أن واقعهم الاجتماعي الصعب مقبل على تغيير إيجابي حقيقي في الأيام أو الأشهر المقبلة، و أن كل ما تلقوه من السلطات إلى حد الآن لا يعدو أن يكون مجرد وعود فضفاضة لا شيء يشجع في الواقع على تصديقها.
إن حكومة حركة النهضة اختارت بدل سلك سبيل الحوار مع الفرقاء السياسيين و النقابيين، سبيل مواجهة السكان المحليين في سليانة و شقيقاتها في تونس العميقة بالعنف الشديد، مستعملة أسلحة و أدوات قمعية جديدة لم يسبق استعمالها، بالإضافة إلى توجهيها الاتهام مجددا للقيادات النقابية و من أسمتهم بquot;فلولquot; النظام السابق، و تصوير الأمر على أنه فصل من فصول quot;الثورة المضادةquot;، و هو سبيل لا يمكن أن يفضي إلا لتعميق حالة الاحتقان و الاستقطاب و دفع البلاد نحو المجهول.
و الرأي أن حركة المناطق في تونس، هي حركة اجتماعية حقيقية ذات أهداف عادلة، و ستجد بلا شك من سيدافع عنها و يرفع شعاراتها و يدعو إلى تحقيق أهدافها، ما دام الاختلال التنموي على صعيد الجهات موجودا و مادام في تونس مواطنون يشعرون بأنهم من درجة ثانية على الرغم من أنهم هم من قاموا بالثورة أصلا، هذه الثورة التي مكنت مواطني الدرجة الأولى من تسلق كرسي الحكم، فالمعركة ستستمر في تونس ما استمرت مناطق تونس العميقة بلا تنمية أو كرامة.
* كاتب وصحفي تونسي