quot; فخاف السطان الفتنة.. وتقدم إلى الحاجب أن يخرج فينادي، من وجد نصرانياً فدمه وماله حلال، فلما سمعوا النداء صرخوا صوتاً واحداً:نصرك الله، فارتجت الأرض quot; ابن تغرى بردي ـ النجوم الزاهرة.

أتذكر جيداً النشوة التي كانت تتملكني وأنا أصحو من نومي أيام الأحد على الأجراس وألحان الترانيم الصادرة من الكنائس التي تحيط بحي دير الملاك، خاصة تلك الكنيسة القابعة في جلال بالقرب من منزلي الذي قضيت فيه ما يقارب العشرين عاماً من عمري قبل الانتقال إلى إحدى المدن الإسمنتية الجديدة، كنيسة دير الملاك. حالة من الصفاء تكتمل يوم الجمعة حينما تختلط أصوات الترانيم بآذان الصلاة من أشهر مساجد الحي وهو جامع عين الحياة، أو كما اتفق أهل الحي على تسميته جامع الشيخ كشك، حيث كان يلقي دروسه قبل عزلة رسمياً من قبل الدولة، وإن كان لم يكف عن الصلاة فيه حتى وفاته، جامع كشك لا يبعده عن كنيسة الدير سوى بضعة أمتار لا تتجاوز المائة. هكذا ترسخت الصورة في ذهني منذ الطفولة، وما باليد حيلة ألا أفقه جيداً تسابيح المتطرفين من الجانبين بالتهجير أو النفي أو التقسيم.
دير الملاك لمن لا يعلم، هي كنسية الملاك ميخائيل أو دير الملاك البحري، أهم معالم الحي الذي سُمي على اسمه، حي دير الملاك، في منطقة حدائق القبة محافظة القاهرة، عمره الذي تجاوز الألف وأربعمائة عام، حوّله من مجرد مكان للعبادة إلى رمز راسخ في وجدان سكانه، فأفاض عليهم من هدوءه وجلاله وصمته. صمت يليق بمأساة ذكرتها كتب التاريخ تخليداً لمؤامرات الحكام وإثارة الفتن والدم لامتلاك البلاد والعباد.

مشهد قديم يُعاد إنتاجه:
ذكر المقريزي في خططه، أن دير الملاك، أو دير الخندق كما تسميته القديمة، قد تم بنائه بعد أن قام جوهر الصقلي القائد العسكري الفاطمي بهدمه ونقله من مكانه الأول في القاهرة أو حيث قرر جوهر أن يبني القاهرة، مدينة الخاصة الملكية الفاطمية، التي لم يُسمح مطلقاً أن يدخلها العامة أو المصريون إن شئنا الدقة، فهدم الدير وأمر بنقله إلى أطراف مدينة مصر، حيث مكانه الآن.
تهجير قديم مارسه القائد ليُطهر الأرض لقدوم مليكه المعز بدين الله الفاطمي!!، يحيلنا تاريخياً إلى مشهد كنيسة الماريناب في أسوان، أو تهجير الأقباط في العامرية، فكأن الأرض المصرية التي وسعت كل شيء، تضيق بما رحبت أحياناً فيمارس السلطان جوره وصلفه مستنداً على أغلبية مسلمة لا حول لها ولا قوة أمام سطوة التطرف السلطاني. ذلك المشهد التاريخي يُعاد ثانية في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، الذي مارس كل تعنته الديني ضد العديد من الأديرة ومنها دير الملاك، فهدمه وأُعيد تشييده بعد اختفائه التاريخي الشهير، واستمرت المأساة في عهد المنصور قلاوون في العهد الممولكي عام 678 هـ، فرغم اختلاف المذهب الديني بين تشيع الفاطميين و تسنن المماليك، إلا أن تطرف وتعنت السلطان واحد، فأمر بهدمه ليكون أثراً بعد عين، وفي إصرار مدهش تم تشيده من جديد بعد هذه الحادثة بفترة طويلة على يد أحد الرهبان.
أتذكر جيداً الملامح الهادئة لذلك القس (أبونا) وهو يعطينا الحلوى أو بعض المخبوزات كل صباح أثناء مرورنا من أمام الدير في طريقنا إلى المدرسة، كان ينتظرنا بإبتسامة أبوية رقيقة، فقد تصادف أن يرافقني يومياً أصدقاء مسيحيين فيقبلوا يده، ويربت على رأسي أنا في ود، ويمنحني مما في يده، لم نكن لحظتها لندرك حجم المعاناة التي تحملتها أسوار هذا المكان، أو نعي أن (أبونا) ما كان ليقف في إنتظارنا لولا ألف عام من النضال المستمر.

فتنة الدين والعسكر:
في أحد أيام الجمع، ظهر على منبرنا في المسجد الذي كان بجوار منزلنا شيخ جديد، الشيخ أحمد، جلبابه القصير، ولحيته الطويلة، وعمامته ذات الأصول العربية على رأسه، أصابتني ينفور لم أفهم له سبباً حقيقياً وقتها، كان شديد اللهجة متشدد الآراء، كان قد انتقل حديثاً إلى حيّنا، ولم أعلم إلى الآن أين أختفى خطيب مسجدنا الهادئ. في عام 1995 ثار الشيخ أحمد بشدة ضد أسوار الدير التي إرتفعت زيادة عن اللزوم من وجهة نظره، بعد تصدع الدير بأكمله بسبب زلزال 1992، وبدأ بإدعاء الأساطير المصرية الشهيرة حول ما يحدث داخل الأديره ذات الأسوار العالية من سحر وشعوذة ومجون إلى غير ذلك. وتعجبت بشدة من حديثه فقد صادف كثيراً أني قد دخلت إلى الدير في مناسبات عديدة ولم ألاحظ كل هذا السواد الذي يبثه فينا الشيخ، وأيقنت لحظتها أننا على شفا تحول ما.
في عام 721 ه / 1321 م، في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، نشب حريق ضخم في القاهرة ومصر، كان سببه الواضح قيام بعض المتطرفين ـ أو هكذا تدعي محاضر التاريخ ـ من الأقباط بحرق عدداً من المساجد، كرد فعل على حرق وتهديم بعض الكنائس على يد غلاة المسلمين، ورغم غياب السبب الواضح لبداية تلك الفتنة التي أتت على الأخضر واليابس، إلا أن بعض المؤرخين ينسبون ماحدث إلى مؤامرات المماليك في عهد تسيب الدولة في ذلك الوقت، في محاولة منهم لإثارة الفتن والفوضى في البلاد بهدف مقاومة حكم السلطان محمد بن قلاوون الذي قفز على الحكم للمرة الثالثة بعد صراع دموي مع العديد من العسكر المماليك، يعني فتن السلطان تشتعل من جديد. وتطورت تلك المأساة بخروج العامة من المسلمين يطالبون السلطان بالإنتقام من (النصارى). فتجمعوا أمام قصر السطان في القلعة وفي الطرقات، ممسكين برايات زرقاء كانت علامة على النصارى في ذلك الوقت، هاتفين كما ذكر ابن تغري بردي: quot; لا دين إلا دين الإسلام، نصر الله دين محمد، يا ملك الناصر.. انصرنا على أهل الكفر ولا تنصر النصارى quot;.
الشيخ أحمد كان يملك محل لبيع الملابس في نهاية الشارع، ويرفض تماماً البيع للأقباط، أو النصارى على حد تعبيره، وكان يدعو دائماً على منبره، quot;اللهم انصرنا على اليهود والنصارىquot;. ورغم أنه الغريب عن الحي، كانت دعواه تلقى تأميناً وقبولاً من كثيرين، ورغم أن المسجد الذي كان يأمه للصلاة لم يتدعى كونه زاوية بسيطة، إلا أنها أصبح لها شأن مع الوقت، وقل عدد المصليين نسبياً في جامع الشيخ كشك، الذي كان إمامه رجل أزهري معمم. حيث كانت خطب الشيخ كشك في الماضي تُسمع في كل المنطقة المحيطة كما أصوات الترانيم وأجراس الكنائس، وهو يهاجم السلطان الجائر، معتبراً أن دين الله أصبح لا حامي له لمجرد انتشار هؤلاء الدعاة الجدد في ذلك الوقت كأبي اسحاق الحويني وأمثاله، فكشك الذي عاش ومات فقيراً مضطهداً وبعيداً عن أي اختلاف مع فكره، كان يرى أن الدين ليس أداة للمكسب المادي كما فعل هؤلاء.

الموت بالأمر:
أظهر السلطان محمد بن قلاوون انصياعه للعامة وقادتهم من رؤوس الفتنة، وأجبر النصارى على إرتداء العمائم الزرقاء، وألا يركبوا فرساً ولا بغلاً، ولا يدخلوا الحمام إلا وفي أعناقهم جرس، وأخرجهم من دواوين الحكم وأغلق كل الكنائس المتبقية، وأمر بقتل كل من يخالف ذلك. وتجرأ العامة على المسيحيين فضربوهم أو قتلوهم حيث وجدوهم بدون أي مبرر، لدرجة جعلتهم يوسطون اليهود إذا أراد أحدهم أمراً من مسلم. ووصلت المأساة قمتها حينما أُتهم راهب دير الخندق ( دير الملاك)، بأنه من كان ينفق المال في عمل النفط ـ المولوتوف حالياً ـ المستخدم في الحريق، فاُخذ وصُلب على مدخل المدينة إلى أن مات، هو ومعه أربعة من أتباعه، بل ورد في بعض الكتابات أنه تم حرق العديد من الأقباط أحياء في الميادين.
حينما قرأت ذلك المشهد المأساوي قفز إلى ذهني تلك السيدة العجوز، التي كنت أقابلها يومياً تقريباً أمام طابور فرن العيش حيث عم عزيز (مقدسنا) ـ ذلك اللقب القبطي الشهير ـ كما كان ينادي عليه زبائنه، الذي يعمل في فرن الحاج المسلم، كانت تلك العجوز تطلب مني أن أحضر لها بعض الأرغفة فهي لا تقوى على إجهاد الطابور، كانت ترتدي غطاء رأس يتناسب مع سنها وشعرها الأبيض، وذات يوم وتحت إلحاح منها صحبتها لزيارة سيدنا الحسين، لتوقد الشموع على ضريحه، وتدعوه أن يُعيد لها ابنها الذي سافر ولا يريد العودة، وفي رحلتي معها أخبرتني أنها أوقدت نفس الشموع في كنيسة (ستنا) العذراء.. لم أسألها عن دينها، ولم أعرفه إلى الآن.
مئات السنين مرت على كنسية وحي دير الملاك، تبدل حولهما المجتمع، وأُعيد صياغته من جديد، ليصبح أكثر تأثراً بمؤامرت السلاطين الجدد ودعاوي الطائفية، تحت مسميات الشرف أحياناً أو التكفير الديني أحياناً، وكأن التاريخ يحلو له أن يُعيد نفسه ولكن بأشكال مختلفة، وفي النهاية سيظل حي بأكلمه يُشكل جيلاً جديداً بين ترانيم دير الملاك وآذان مسجد عين الحياة.

نهاية تليق بمأساة:
انتهت الفتنة الدموية ينهاية تليق بالجميع، فقد أشتد بطش السلطان محمد بن قلاوون، وأسرف في القتل غير مفرق بين مسيحي ومسلم، لدرجة أن الناس اختفوا من الميادين والطرقات خوفاً من بطش السلطان، وبعد عدة أيام من القتل والسلب والحكم المملوكي العسكري، فيما بشبه الأحكام العرفية الآن، استتب الأمر للسلطان الجديد، وأمر أن يخرج الناس وتستمر الحياة معتادة كما كانت. فالفتنة في النهاية حُسمت لصالح الأقوى، والضحية الجميع.
وفي حي دير الملاك استمر محل الشيخ أحمد، ولكنه تحول في سنوات معدودة، وبشكل مفاجئ إلى مبنى متعدد الطوابق، مشروع ضخم لبيع الملابس وأشياء أخرى!!.

أكاديمي مصري
ahmedlashin@hotmail. co. uk