من الضروري المُلح، صار البحث عن منطق ما، يفسر لنا سر هذا التصحر في قطاعات الحيىاة المهمة في العراق، الذي جعل السياسة تتحول من وظائفها التاريخية المعروفة، الى quot; المهنة quot; الأوسع أنتشارا ً في هذه البلاد؟

بتنا نشهد بوضوح هذا النزوع الشاذ في سياقات المجتمعات الأنسانية المعاصرة، الذي جعل الناس تتهافت، على مختلف طبقاتها الأقتصادية، ودرجاتها العلمية، ومستوياتها الثقافية، وخلفياتها الأجتماعية، ومنظوماتها القيمية، لتضع نفسها في مكان يؤهلها لا لممارسة دورها السياسي المتوقع، بل للأنخراط فحسب في مهنة صارت هي quot; الأربح quot; من مهن عديدة هجرت وأزدريت في أعين ممتهنيها.

كانت أهم الملاحظات على التصير المجتمعي لعراق ما بعد التغيير، هي أن السياسة أغرت وأستلبت الجميع.
فمقابل خمول شديد ومقلق لأغلب قطاعات الاقتصاد الحيوية مثل الزراعة، والصناعة، والتجارة، والسياحة، بل حتى الأعلام، والفن، والرياضة التي أصبح لها مردودات تنموية لا يستهان بها، برز دور السياسة كقطاع مهيمن على الدولة والمجتمع، وموصل مثالي لمشاريع القوة والثروة التي طالما يتوسل بها للهيمنة على الدولة والمجتمع في آن.

فمقابل أزمة المياه الستراتيجية التي تنذر بالتدهور، وأنخفاض مستوى الأنتاج الزراعي لأدنى المستويات، وأنعدام الأستثمار في الزراعة، وقلة تخصيصات مشاريع السدود والري، وأختلال التوازن والتخطيط بين العراق ودول المشاطئة والمشاركة في موارد المياه ومشاريع البزل، وتحول العراق الى أكبر مستورد للحبوب من أمريكا وأستراليا، والفواكه والخضار من جميع دول الجوار عدا الكويت. مقابل ذلك كله، يهرب الفلاح العراقي إلى الامام، ليسترد دوره كزعيم قبلي يطالب بمكانه في الأحزاب والبرلمان والجيش والشرطة وسائر وظائف الدولة.ويحتفظ باطلالته المميزة في وسائل الأعلام، وبزيه التقليدي، لا للحديث عن مشاكل الأرض والزراعة،بل للخوض في قوالب الخطابات المكررة، التي تدور حول حماية مصالح quot; المكون quot; قومية كان، أم دينا ً، أم طائفة.

الصناعيون فعلوا نفس الشئ، وتبعهم التجار، وارباب المهن، والحرفييون، والقانونيون، والفنانون، والرياضيون، والمعممون، والصوفية. تصوروا حتى الصوفية تركوا تكاياهم وزواياهم ومسابحهم وكراماتهم، ودخلوا البرلمان. صرنا نعاني من أرهاب ( جيش الطريقة النقشبندية )، ونتعجب من حجم إنفاق مرشح ( الكزنزائية ) على حملته.
يًروى عن ( الجنيد ) المتصوف البغدادي المعروف، أنه قال : عبدت الله تحت درج داري هذه أربعين سنة. لقد أغرت االسياسة ولو بعد قرون أبن الجنيد، حتى أخرجته من داره. جاء ابن الجنيد ومعه أجيال من الاشباه والنظائر، الذين كانوا ينتظرون ( جذبة الحق )، فجذبتهم السياسة ببريقها العراقي.

عندما تتفشى الطائفية السياسية، والعرقية، والأقليمية، بين الناس، يصبح للعمل السياسي معنى آخر. تتحول وظيفة السياسة من رعاية مصالح البلاد وحماية معائش العباد، وأدارة الأزمات، وصناعة القرار، الى التحصن بالمكون وحمايته، والمدافعة عنه وبه. سيتحول الوطن ألى مجموعة أوطان، والتاريخ المشترك الى مرجعيات تاريخية متمايزة، ولا يبقى للغة الواحدة قدرة الدمج والتوحيد، لأنها ستفقد ميزتها الأدبية والثقافية لصالح ( لغات عقلية ) كونتها التراكمات التاريخية والصراعات.
في ضؤ هذا التعريف الجديد، يكفي أن يكون لك أنتماء لكي تكون سياسيا ً، ولكي تكون سياسياً، يكفي أن تكون منتميا ً. هنا تخلت السياسة عن وظيفتها الأصيلة، وأصبحت بلا وظيفة.

وهذا السياق الشاذ يسمح quot;للسياسين quot; أن يتكلموا في كل شئ، وعن كل شئ. فما دام الشاغل الحاضر يتعلق بالعقائد، والملل،والنحل، والأديان، والتاريخ، والتراث، والفلسفات، وبكل مضامين التكوين القيمي والثقافي للجماعات ( المتواطنة )، تصبح كل مناسبة تتعلق بالحاجات التشريعية، والخدمية، والسياسية، مناسبة للحديث عن الخلفيات الذاتية التي لا تحرص على شئ، بقدر حرصها على تأكيد نفسها، وابراز هويتها.

الناس تستثمر في السياسة..! أنهم ينفقون الملايين في حملاتهم الأنتخابية، ينفقون ما يملكون وما لا يملكون حين يضطرون للأقتراض على أمل السداد بعد الفوز. وفي نهاية كل دورة أنتخابية،تستمع للمزيد من القصص، المضحكة والمبكية، عن مرشحين، باعوا بيوتهم وسياراتهم ودكاكينهم من اجل تمويل حملة أنتخابة خاسرة. هم يدخلون السياسة كمرشحين بلا رصيد سياسي، اوفكري، او تأريخي أو أعلامي، مدفوعون فحسب بتاثير هوس اجتماعي راهن هو حمى quot; الترشيح quot;.

زمان كنا نسمع فية أن محبا ً لكرة القدم،باع داره ليمول فريقه الشعبي، أو مهووسا ً بسباق الخيول أضاع ثروته في الرهان، أو كما فعل جار لنا يتوهم نفسه ( مطربا ً ) حين باع المدفأة النفطية ( الصوبة ) الوحيدة في بيته، وبعض أثاث المنزل لدفع مستحقات تسجيل اغنية في ركن الهواة. لم نعد نسمع كثيرا ً لمثل هذه القصص. صارت السياسة وحدها، أمل الربح أو شبح الخسارة عند العراقيين.

صالات الأستقبال في مقرات الأحزاب، تنافس في عدد روادها، والمحتشدين فيها، ملاعب كرة القدم والمتنزهات وصلاة الجمعة، لا علامة على الأهتمام بالمشاركة، وصياغة الرأي العام، والدفاع عن البرامج،كما عند خلق الله في المجتمعات المدنية المتقدمة، بل سعيا ً لوظيفة في الدولة لمن لم يجدها، أو درجة أعلى لمن وجدها، أو مأرب أخرى.
بل حتى هذه الاحزاب أصبحت تعاني من التضخم في تنظيماتها، لقد تورمت بفعل دخول الأعضاء السرطانيين وغير الوظيفيين فيها. في السابق كان الأنتماء الحزبي يعبر عن دوافع عقائدية أو طبقية مدفوعة بقناعات فلسفية وفكرية مبكرة، كان العقل السياسي العراقي يندفع لصياغة نمط الحياة، اما الآن، فيكتفي بالمشاركة فيها كما هي، على أمل الأستثمار.
في الدولة تسيست الوظائف، فصار الأنتماء إلى دين يعني الأنتماء إلى طائفة، والأنتماء إلى طائفة يعني الانتماء إلى حزب، والأنتماء إلى حزب يعني الأنتماء إلى وظيفة في الدولة، على أن تخدم هذه الوظيفة الدين ثم المذهب ثم الحزب ثم الدولة أن أمكن. لقد ذوت روح المواطنة في العمل الحزبي، وتعثرث ثقافة الوطن الواحد في هذه الأحزاب، وصارت الدولة غنيمة ثابتة لعامل متغير أسمه الوطن.

في ظل تسيس المجتمع أصبحنا في العراق دولة الرايات والبيارق، لم نعد نعبر عن ذات واحدة، لقد قدمنا أنفسنا كذوات قلقلة على وجودها، القلق على المكون يتقدم على القلق على الوطن والدولة، بناء الذات لم يعد يساوي أو يواكب بناء الوطن، لقد تغايرا واختلفت الاهمية.ونتيجة لذلك صارت الوظيفة معيار وجود ونفوذ في الدولة، على حساب كونها خدمة مهنية مقابل حق مشترك في العيش الكريم.

في هذه الأجواء التحولية الملبدة بالقلق سوف لا نجد الفرق كبيرا ً بين السياسي وشبه السياسي وشبح السياسي، لأن قاعدة العمل المفضلة ستكون : أن كل من يرفع صوته عاليا ً، سيجد من يتبعه ويسير خلفه من دون مزيد تفكير أو تأمل.

في المانيا يعمل 5% من الالمان فقط في السياسة، العمل الحزبي والسياسي لا يغري الشباب، أنهم في مدارسهم وجامعاتهم ومهنهم، أحلامهم في الثروة والقوة والشهرة ليست في السياسة. أنها موجودة في مجتمع قوي ومعافى. في مصانعه ومزارعه وموانئه، في تجارته ومصارفه وبورصاته، في فنه ورياضته وسياحته. أن تصبح أكبر سياسي في المانيا، ولتكن الرئيس او المستشار (=رئيس الوزراء ) فهذا يعني أنك حصرت دخلك براتب شهري لا يتجاوز الخمسة الآف يورو. وهو ما يمكنك الحصول عليه من دكان لبيع الفواكه والخضر، أو مطعم لاعداد النقانق والبطاطس.

اما في العراق، فيتحمل السياسيون كل شئ من أجل السياسة : شتائم الفقراء، ودعوات الصالحين عليهم، واستهانة دول الجوار بهم، وضغوط الدول الكبرى عليهم، وتآمر الشركاء، وحبس النفس في المنطقة الخضراء، وكاتم الصوت والحياة، والمفخخات، وهيأة النزاهة، وكل شئ. يتحملون كل شئ لأن السياسة اصبحت بالنسبة لهم كل شئ.
في العراق اليوم من يحصل على الشهادات التخصصية ولا يعمل بها، قانونيون لم يروا المحاكم، وأطباء هجروا المستشفيات، ومهندسون تركوا البناء. الماجستير صارت نقطة سطر في سيرة المرشح للأنتخابات. ورسالة الدكتوراء لا علاقة لها بالبحث العلمي أو التدريس بقدر كونها ( دال ونقطة ) تسبق الأسم واللقب. كيف حدث هذا؟ لماذا تلاشت قطاعات الأقتصاد الخاصة أمام وظائف الدولة العامة؟.

والغريب ان هذا التضخم في كوادر الدولة، لم يواكبه تطور نوعي في مستوى الخدمات أو الرعاية او الضمان، كما في التجارب الاشتراكية مثلاً. بل ثبت كونه تضخم طفيلي يأخذ من الدولة ولا يعطي للشعب.
حتى الأزمات السياسية الحادة والخطيرة، لم تجد لها حلولا ً إلا في السياسة نفسها، الميليشيات كانت في اغلبها تجمعات للعاطلين عن العمل.والصحوات مثلها أو عشائر، ولكي يدفع شرهم عن الدولة سعت الدولة لتمثيلهم سياسيا ً، ولكي لا يتحولوا الى سياسين عاطلين، جئنا بهم للوظيفة. لقد تخلى عنهم المجتمع وأبتلى بهم جهاز الدولة.
لقد كانت السياسة هي التي تحل مشاكل السياسة، وبدا المجتمع العراقي مجتمع يفتقر الى الحلول.

كل ماذكرناه، كان تأكيدا ً للظاهرة على مستوى الكم، أما إذا أردنا أستشفاف المستوى النوعي، وتشغيل معايير علمية تضع العاملين في هذا الحقل المهم عل المسطرة الأكاديمية المعتمدة، فأننا سنجد أنفسنا أما سؤال كبير، يمثل هو في حد ذاته مفارقة : هل كان المجتمع العراقي قويا ً بحيث أفرز لنا هذا الكم الهائل من السياسين؟ أم أن السياسة تدنت بحيث أصبحت في متناول الجميع؟.

كاتب وباحث في الفكر السياسي / العراق