يعكس اصرار النظام السوري على اجراء انتخابات نيابية في الظروف الراهنة رغبة في الذهاب في الحل الامني الى النهاية. ليس في استطاعة هذا النظام ان يسأل نفسه سؤالا في غاية البساطة هو الآتي: منذ متى يمكن حكم شعب عن طريق الامن ولا شيء آخر غير الامن. جرّب كثيرون ذلك في التاريخ القديم والحديث. كانت النتيجة واحدة. مثل هذا الخيار مستحيل. لا يمكن اجراء انتخابات على جثث ما يزيد على عشرين الف سوري، في اقلّ تقدير، سحقتهم آلة القمع التي يمتلكها النظام.
متى يقتنع النظام السوري بانّه انتهى وان الانتخابات ليست سوى محاولة اخرى للهروب الى امام في وقت لم تعد هناك اي جدوى من مثل هذا الهروب؟
باستثناء رهان النظام على انه سيكون قادرا على حكم جزء من سوريا وان مستقبله مرتبط بهذا الجزء، ليس ما يشير الى ان هناك ما يمكن ان يفسّر اللجوء المستمر الى العنف. فالعنف لا يمكن ان يوفّر مخرجا من الازمة العميقة التي يعاني منها هذا البلد العربي المهمّ، اللهم الا اذا كان هناك بين اركان النظام من يظن انّ الحرب الاهلية هدف في حد ذاته وان مثل هذه الحرب ستؤدي الى تهجير قسم من السوريين من مناطق معيّنة، في مقدمها حمص.
مثل هذا التفكير العقيم يفتح المجال واسعا امام تفتيت سوريا وامام سلسلة من الحروب الاهلية معروف كيف تبدأ وليس معروفا كيف تنتهي... او حتى متى يمكن ان تنتهي.
لعلّ اخطر ما تشهده سوريا حاليا يتمثّل في الاعتقاد بانّ عملية الهروب الى امام يمكن ان تستمرّ الى ما لا نهاية. كلّ ما فعله النظام السوري الحالي، وحتى الانظمة التي سبقته، هو ممارسة عملية هروب الى امام خشية مواجهة الاستحقاقات الداخلية التي تفرضها ازمة الكيان السوري. كان الانقلاب العسكري الاوّل الذي قاده حسني الزعيم تعبيرا عن الهروب الى امام. تلاه انقلاب الشيشكلي الذي لم يدم حكمه طويلا. جاء بعد ذلك ذلك دستور العام 1950 الذي كان يمكن ان يساعد في حلّ ازمة الكيان السوري عن طريق الديموقراطية.
بدل اعتماد الديموقراطية، اختارت الاحزاب quot;القوميةquot; وبينها البعث الذهاب الى وحدة غير طبيعية مع مصر جمال عبدالناصر. لم تكن تلك الوحدة سوى محاولة اخرى للهرب من الواقع. ما هو اخطر من الوحدة التي انهارت في العام 1961، انطلاقا من حلب وليس من اي مكان آخر، انها كرّست سيطرة الاجهزة الامنية على السلطة. بعد الوحدة، صار المسؤول عن الامن، وكان اسمه عبدالحميد السرّاج، الحاكم الفعلي لسوريا. رحل السرّاج بكلّ ما مثّله من تخلّف وبقي الحكم في يد الامن.
لم يستطع الحكم الذي نشأ عن الانفصال ايجاد اي حلّ للمعضلة السورية المتمثلة في ازمتي النظام والكيان، فكان اللجوء مجددا الى البعث الذي نفّذ انقلاب الثامن من آذار- مارس 1963 بغطاء مدني. قاد العسكر الانقلاب وما لبثوا ان تخلصوا من المدنيين، لينتهي النظام ابتداء من العام 1970 نظام الرجل الواحد ثم الطائفة الواحدة ثم العائلة الواحدة.
تغيّرت طبيعة النظام السوري. ما لم يتغيّر هو الحاجة الدائمة الى الهروب الى امام. ذهب لبنان ضحية عملية الهروب هذه التي استهدفت تدميره حجرا حجرا. لم تتوقف يوما عملية تدمير لبنان طائفة طائفة ومنطقة منطقة ومدينة مدينة وقرية قرية وشخصية مهمة خلف شخصية اخرى مهمّة. ومتى وجد النظام السوري ان عليه الانسحاب من لبنان نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط- فبراير 2005، سعى الى ايجاد بديل يتولّى ملء الفراغ الامني الناجم عن خروج قواته العسكرية من الوطن الصغير الصامد. كان هذا البديل ميليشا مسلحة تابعة لايران اسمها quot;حزب اللهquot; بادواتها المختلفة بينها شبه الامّي الذي اسمه ميشال عون.
تسعى هذه الميليشيا حاليا الى اقناع اللبنانيين بقوة السلاح ان شيئا لم يتغيّر في لبنان وان بيروت لا تزال تحت الوصاية وان الفارق الوحيد بين ما كانت عليه قبل العام 2005 وما هي عليه الان انها صارت تحت وصاية مشتركة ايرانية- سورية. افرزت هذه الوصاية quot;غزوة بيروتquot; بهدف اذلال اهلها في السابع من ايّار- مايو 2008. ولمّا تبيّن ان اهل بيروت خصوصا واللبنانيين عموما يرفضون الوصاية المشتركة، تماما مثلما رفضوا الوصاية السورية، فرضت عليهم بقوة السلاح الحكومة الحالية التي يرئسها الرئيس نجيب ميقاتي. هذه الحكومة الت لا هدف لها سوى اذلال المسيحيين واهل السنّة والدروز، بين حين وآخر، ليست سوى تعبير مختلف عن الازمة السورية المزدوجة، اي ازمة النظام والكيان في الوقت ذاته.
بغض النظر عن اللهجة المعتدلة حيال quot;حزب اللهquot; التي استخدمها الرئيس سعد الحريري في الخطاب الذي القاه قبل ايام في بيروت عبر شاشة كبيرة، يظلّ ان اهمّ ما في هذا الخطاب تصويبه على النظام السوري. لا مستقبل لسوريا ولبنان ما دام هذا النظام يقتل. انه نظام يجري انتخابات نيابية من اجل تغطية مزيد من الجرائم ترتكب في حق السوريين. انه نظام يعتقد ان في امكانه الاستفادة من حرب طائفية ومذهبية في سوريا لعلّها تساعده في ايجاد مخرج يسمح له بمتابعة عملية الهروب الى امام.
من هنا، ليس لدى اللبنانيين من خيار سوى التصويب، بالكلام الحقيقي الدقيق والصريح وليس بايّ شيء آخر طبعا، الى الهدف العالي، اي الى النظام السوري. لقد قاوموا هذا النظام منذ ما يزيد على اربعين عاما. تلك هي المقاومة الحقيقية التي عليهم الاستمرار فيها من دون ان ينسوا في اي وقت من الاوقات من وراء قتل زعمائهم من كمال جنبلاط وصولا الى رفيق الحريري مرورا بالشيخ حسن خالد والشيخ صبحي الصالح والرئيسين بشير الجميّل ورينيه معوض. ان هذه السلسلة من العرب الشرفاء المؤمنين بلبنان الحر والتي تشمل ايضا سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار امين الجميّل وانطوان غانم ووسام عيد وآخرين، من بينهم الشهداء الاحياء مروان حماده والياس المر ومي شدياق، خير دليل على انّ المطلوب تدمير لبنان.
لم تكن quot;غزوة بيروتquot; التي شنها quot;حزب اللهquot; على اهل العاصمة والجبل في ايّار ndash; مايو من العام 2008 سوى فصل آخر من عملية الهروب السورية الى امام ولكن بمساعدة ايرانية هذه المرّة. هذا ما يفترض ان يكون واضحا لدى اللبنانيين الذين باتوا يدركون ان لا خلاص لهم ولوطنهم ولسوريا والسوريين من دون التخلص من نظام مستعد لاجراء انتخابات على جثث ابناء شعبه واشلائهم... كي يتمكّن من متابعة الهروب الى امام!