لا شيء يحصل بالصدفة في الشرق الاوسط. ليس صدفة الحملة التي يشنّها السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي على رموز سنّية في بلده. وليس صدفة ان تاتي الحملة مباشرة بعد الانسحاب العسكري الاميركي من العراق. كلّ ما في الامر انّ المالكي يريد ان يقول ان هناك حقبة جديدة بدأت في العراق اسمها حقبة الوصاية الايرانية الكاملة على البلد. ولذلك، ليس مسموحا بوجود اي رمز سنّي في العراق اكان هذا الرمز نائب رئيس الجمهورية السيّد طارق الهاشمي او نائب رئيس الوزراء السيد مصلح المطلك الذي يحظى باحترام واسع داخل كلّ الاوساط المعارضة لوضع اليد الايرانية على العراق.
من الطبيعي ان يتصرّف نوري المالكي بالطريقة التي يتصرّف بها. من جاء به الى رئاسة الوزراء هو ايران ولا احد آخر غير ايران. انه يدرك قبل غيره انه مدين لها بكل شيء. لولا ايران لكان شكّل الدكتور اياد علاوي الحكومة العراقية نظرا الى ان قائمته حلّت في المركز الاول في انتخابات السابع من آذار- مارس 2009. كان على علاوي الرضوخ للقرار الايراني الرافض لتوليه موقع رئيس الوزراء. كان عليه الرضوخ للامر الواقع، لا لشيء سوى لانّه كان يمثّل في حينه محاولة عربية لاستعادة العراق من براثن النظام الايراني بعد كلّ الظلم الذي لحق بالعراقيين جراء ممارسات النظام العائلي- البعثي الذي كان على راسه صدّام حسين.
ما نشهده اليوم في العراق محاولة انقلابية بكلّ معنى الكلمة تقودها ايران من اجل تأكيد انها صاحبة الكلمة الاولى والاخيرة في العراق. من دون ايران، لم يكن المالكي يحلم بالعودة رئيسا للوزراء بعد مضي تسعة اشهر على اجراء الانتخابات التشريعية. كانت تلك فترة كافية لتقول ايران لكلّ من يعنيه الامر انها صاحبة الكلمة الفصل في العراق وان ليس في الامكان تشكيل حكومة عراقية من دون ضوء اخضر منها. في مرحلة معينة، اي قبل سنة من الآن، كان في استطاعة ايران القبول بحكومة ائتلافية في العراق. الآن، بعد الانسحاب العسكري الاميركي، الذي تمّ من دون سقوط جريح، تغيّرت المعطيات. لم يعد مطلوبا الاعلان ان العراق تابع لايران فحسب، بل صار مفروضا على الحكومة العراقية تنفيذ كلّ الرغبات الايرانية، بما في ذلك دعم النظام السوري وتوفير كل المساعدات التي يحتاجها والتي ليس في استطاعة ايران تقديمها لاسباب قد تكون مرتبطة بالمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها.
بقدرة قادر، صار النظام البعثي في سوريا حليفا لـquot;حزب الدعوةquot; الشيعي الذي يحكم العراق. بقدرة قادر، لم تعد هناك من شكوى تصدر عن نوري المالكي وغيره بسبب ارسال النظام السوري quot;ارهابيينquot; من quot;القاعدةquot;، نعم من quot;القاعدةquot; الى داخل العراق.
هل كانت الحملة التي يشنّها المالكي على النظام السوري جزءا لا يتجّزأ من الجهود الايرانية الهادفة الى تطويع هذا النظام من البوابة العراقية بعد تطويعه من البوابة اللبنانية. في الواقع، لم يعد النظام السوري يمتلك اي نفوذ يذكر في لبنان لولا الميليشيا الايرانية التي اسمها quot;حزب اللهquot;.
لولا هذه الميليشيا المذهبية، لما كان في استطاعة النظام السوري اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري والآتيان بحكومة تابعة له ظاهرا، لكنها في الواقع حكومة quot;حزب اللهquot; لا اكثر ولا اقلّ.
يستكمل النظام الايراني حاليا انقلابين حقيقيين نفّذهما على مراحل في العراق ولبنان. لم يعد سرّا ان في الايام الاخيرة من السنة 2011 انّ الحكومة العراقية صارت مجرّد اداة ايرانية وان ليس امامها سوى تنفيذ القرارات المتخذة في طهران من دون طرح اي نوع من الاسئلة.
وفي لبنان، خصوصا بعد القرار الاخير الذي اتخذته الحكومة بزيادة الاجور بشكل يمكن ان يعود بكارثة اقتصادية واجتماعية على البلد، كان مطلوبا بكلّ بساطة ان يؤكد quot;حزب اللهquot; انه صاحب القرار في لبنان. اكثر من ذلك، كان مطلوبا تهميش رئيس مجلس الوزراء السنّي السيد نجيب ميقاتي واظهاره في مظهر شاهد الزور على قرار يعرف، هو قبل غيره، مدى خطورته.
في اوضاع عادية، كان نجيب ميقاتي المعروف بامتلاكه نوعا معينا من الذكاء والحذاقة، سيقدّم استقالته. لكنّ quot;حزب اللهquot; يعرف تماما قبل غيره ان مثل هذا القرار سوري. ولذلك في استطاعته اسقاط هذه الورقة كلّيا من يد ميقاتي واعتبارها غير موجودة. وفي ظروف طبيعية، في استطاعة رجل من عيار نجيب ميقاتي التلاعب بالنائب المسيحي ميشال عون الذي وقف وزراؤه خلف quot;حزب اللهquot; في الجلسة المخصصة لمناقشة موضوع زيادة الاجور. بالنسبة الى ميقاتي، لا يمثّل ميشال عون سوى وجبة، او اقلّ من ذلك، يستطيع بعدها ان يتحلّى باثنين او اكثر من وزرائه الفاشلين من مستوى جبران باسيل او شربل نحّاس وان ينظف اسنانه بمسواك يكون واحدا من النّواب التابعين لما يسمّى quot;الجنرالquot; والذين يخجل المرء من ذكر اسمائهم...
ولكن ما العمل عندما تكون الكلمة في لبنان للنظام الايراني الذي يمتلك ميليشيا مسلحة تستطيع السيطرة على اي منطقة من البلد وان تخترق الصف المسيحي وتجعل من ضعفاء النفوس ادوات لها؟
يبقى السؤال الاساسي. ما الهدف من الانقلابين اللذين تنفّذهما ايران في العراق ولبنان؟ هل الهدف استكمال الهلال الفارسي من منطلق ان مثل هذا الهلال، ذي الطابع المذهبي، سينقذ النظام السوري؟ الجواب نعم كبيرة. لكن السؤال الاهمّ هل من مجال لانقاذ النظام السوري؟ الجواب ان نقطة الضعف الابرز في المخطط الايراني جهل طبيعة سوريا واهمّية الشعب السوري وثورته المستمرة منذ عشرة اشهر. لا يشبه الجهل الايراني لسوريا سوى الجهل السوري للبنان. من كان يصدّق في العام 2005 ان الشعب اللبناني سيرد على اغتيال الرئيس رفيق الحريري بانتفاضة ستؤدي الى خروج الجيش السوري من لبنان بعدما بقي فيه ثلاثين عاما؟ من كان يصدّق ان الشارع السنّي، والى جانبه الراي العام المسيحي والدرزي وقسم كبير من الشيعة الواعين لاهمية لبنان، سينتفض في وجه الوصاية السورية؟
سيفشل الانقلابان الايرانيان في سوريا بسبب جهل ايران للعراق والعراقيين وسوريا والسوريين ولبنان واللبنانيين. لا يشبه الجهل الايراني للمنطقة العربية سوى جهل الاتحاد السوفياتي لما كان يعرف بدول اوروبا الشرقية. في النهاية برلين الغربية انتصرت على برلين الشرقية وليس العكس. الربيع العربي بدأ قبل ست سنوات وبضعة اشهر في بيروت ولا يمكن ان يوقفه شيء، لا الاستعانة بالغرائز المذهبية ولا بدبابات بشّار الاسد وشبيحته...ولا بخفة ميشال عون، حليف صدّام حسين في العام 1990 وبشّار الاسد في السنة 2011!