يعرف حكام إيران كيف يلعبون مع الآخرين، وكيف يوزعون بينهم الأدوار، ما بين مهدد ومهدئ، ومخوِّف وملطِّف، وكأن كلا منهم يمثل حكومة بعينها. وبدا ذلك مثلا مع التهديدات بغلق مضيق هرمز والتراجع، والتعديل بصيغ بين بين؛ كما ظهر في مواقف كثيرة أخرى، وخصوصا حول النووي.
وفي هذه الأيام، التي يتمادى فيها نظام الشام في التقتيل والتدمير، وتتزلزل الأرض تحت أقدامه برغم القوة العسكرية والدعم الخارجي، فإن الزعماء الخمينيين ضاعفوا من نشاطهم وتحركاتهم في المنطقة، ما بين دمشق وبيروت وبغداد، وأكثروا من التصريحات التهديدية التي تنم، ليس فقط عن عنجهية متأصلة، وعن ثقة مفرطة بالنفس، بل، وتكشف، في الوقت نفسه، عن قلق كبير حول مآل الوضع السوري وتداعياته المؤكدة على الدور الإيراني في المنطقة.
أن يثق حكام نظام الفقيه بالنفس لحد المبالغة يفسر بأن لديهم أوراقا مهمة تمكنهم من مواصلة اللعب والمناورة وإلحاق الأذى بالآخرين عند اللزوم. فالمشروع النووي العسكري الإيراني يكاد يحقق كل أهدافه، وذلك باعتراف آخر تقرير استخباري أميركي سري يناقض بعض ما قبله. ولكن حكام إيران يعرفون أن واشنطن ليست اليوم في وارد اتخاذ موقف رادع حازم والانتخابات قريبة جدا، كما أنها حريصة على إقناع إسرائيل بعدم التحرك حاليا. وفي لبنان يزداد حزب الله تماديا في تخريب سيادة لبنان باسم الممانعة وسلاح الممانعة، وهو يتدخل مباشرة في سورية لصالح الأسد، وينفذ عمليات إرهابية في أماكن متعددة من العالم وكالة عن سيده خامنئي. ورغم أنه لم تكتشف بعد جميع خيوط وخلفيات وأطراف عملية سيناء، فقد لا يكون مستبعدا دور فيها لحزب الله في محاولة لإشغال العالم والمنطقة بالحدث بعيدا عن المجازر السورية، وكان مثل هذا الهدف سيتحقق لولا أن الضحايا كانوا عسكريين مصريين لا إسرائيليين. فالأسد لو فتح اليوم جبهة الجولان، فقد يستطيع قلب الطاولة على الثوار وخصومه في المنطقة، إذ نعرف أن أية معركة مع إسرائيل تبدل المواقف والمشاعر حالا فتتحول قضايا الحرية ورفع الظلم لقضية محاربة العدو الصهيوني ومن لا يشارك فهو عميل وخائن. فهذه هي عقلية الشارع والنخب العربية والإسلامية. والأسد اليوم ليس في وارد فتح هذه الجبهة خوفا من تدمير إسرائيلي شامل، ولكن إيران وأدواتها كحزب الله وحماس وquot; الجهادquot; قادرون على فتح الملف الإسرائيلي في أية لحظة. وتصريحات جليلي، ممثل خامنئي، في زيارته للبنان قد كررت وكررت دور لبنان، أي حزب الله، في quot; quot;الممانعةquot;، وكيف أن لبنان صار quot;نموذجا في معركة المقاومةquot; ضد إسرائيل.
أما في العراق، فإن الجنرال سليماني ينشط في الشأن العراقي كالحاكم بأمره، أو الملك غير المتوج، وبحيث تصل الأمور لأن يكشف مقتدى الصدر بنفسه دور هذا الجنرال في العملية السياسية العراقية لصالح المالكي وضد خصومه من الساسة العراقيين. وقد تحولت بغداد إلى محطة لزيارات كبار المسؤولين الإيرانيين، فضلا عن وزير الخارجية السوري: جليلي والصالحي، ومعهما جنرال القدس العتيد. والغرض المباشر اليوم هو تعزيز دعم حكومة المالكي للحاكم السوري، وتقوية مركز المالكي، الذي يستفيد من ارتباك صفوف خصومه وتناقضات مواقفهم. وكذلك محاولة إضعاف الدور التركي في العراق وتخويف تركيا من عواقب دعمها للمعارضة السورية. فعراق اليوم يتحول لساحة الصراعات الإقليمية، وخصوصا الصراع الإيراني ndash; التركي على النفوذ. وكان الأستاذ حسن العلوي قد أصدر بعيد سقوط صدام كتابا بعنوان quot; العراق الأميركيquot;، ولا أدري هل سيوافق على أن يعيد الكتابة اليوم بعنوان quot; العراق الإيرانيquot;، فالنفوذ الأميركي صار ثانويا لحساب النفوذ الإيراني المكتسح. والحكومة العراقية لا مانع لديها من أن تحول البلاد لساحة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية، فما يهم المالكي ورهطه هو البقاء في السلطة بأي ثمن كان. وبينما يواصل حزب الله التخريب ودوره الإرهابي في كل مكان، ينبري زعماء الإسلام السياسي الشيعي في العراق إلى تمجيد السيد حسن نصر الله ورفعه عاليا للسماء باعتباره quot; مقاوماquot; وبطلا مغوارا يشع نورا!
إن الملاحظ أنه، برغم مواصلة النظام الإيراني دعمه للجزار السوري ودعوته الفاشلة لما يدعى بحوار النظام السوري مع المعارضة بوجود الأسد وفريقه، فإنه لابد ويشعر بأن النظام السوري اليوم لم يعد كما كان، فقد اهتز وتزعزع برغم أنه قد يظل يقاوم فترة أخرى. وهذا الشعور الإيراني مصدر قلق لحكام إيران، ولذلك يكثرون من الجولات والمبادرات بأمل تأخير سقوط ذلك النظام من جهة، والعمل لما يمكن فعله فيما بعد بما لا يلحق بهم ضررا كبيرا - أي بأقل الخسائر الممكنة.
إن ورقة إيران الأقوى هي سياسات اوباما الخارجية، والمواقف المتناقضة والضعيفة لدول الخليج التي تهددها إيران. ونعرف أن بعض دوائر الخليج تقصد إيران أكثر مما تقصد الأسد حين تدعم المعارضة، ولكنها لا تجرؤ على التصدي وجها لوجه لإيران. ونذكر مثلا كيف دعت قطر أكثر من مرة أحمدي نجاد للمشاركة في الاجتماعات. ونذكر الوهم بإمكان إيران المشاركة في مؤتمر لحل الأزمة السورية بما يحقق أماني الشعب السوري.
إن النظام الإيراني هو المشكلة الكبرى في المنطقة، وما كان للأسد أن يتمادى في جرائمه بدون الدعم الإيراني الشامل، وإن بقاء النظام الإيراني بلا ردع قوي وحاسم هو الذي يطيل من عمر الأسد وأمثال حكومة المالكي وتحديات حزب الله، ومعظم أزمات المنطقة، ومنها أزمة العراق الساخنة والمزمنة.
حكام طهران يتعاطون السياسة الخارجية بحساب ودهاء ومكر وشطارة تجار البازار، ويحسنون المناورات، ولكن الإصرار على تحدي العالم، واللعب الخطر هنا وهناك ولو بالواسطة والوكالة، والمبالغة في الثقة بالنفس لحد الغرور المنتفخ؛ نقول إن هذه العقلية والمواقف قد تدفع يوما لعمل طائش كبير يكون فيه الدمار!