ماذا بقي من جمهورية أتاتورك سوى صوره ورمزية قبره حيث قيل انه ظل يحكم تركيا من هناك (قبره) بعد وفاته؟ وهل مجمل ما جرى في عهد حزب العدالة والتنمية أسس للجمهورية الثانية أو ما بات يعرف بجمهورية أردوغان أم أنه مجرد فصل جديد لا أكثر من فصول الصراع الخفي ـ العلني بين الإسلام السياسي والعلمانية في تركيا منذ نحو قرن؟ والأهم ماذا بعد زلزال المحاكمة التي قضت بوضع عشرات الضباط في السجن بينهم جنرالات كبار؟ وكيف سينعكس ذلك على سياسة تركيا الداخلية والإقليمية في المرحلة المقبلة؟ أسئلة لن تكون الأجوبة عنها عادية في بلد ظل الجيش يحكمه بصورة مباشرة أو من خلف الكواليس خلال العقود التسعة الماضية. في الواقع، تبدو تركيا وكأنها في لحظة اسئثنانية لجهة علاقة حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اردوغان بالمؤسسة العسكرية التركية التي هي أقدم وأعرق مؤسسة في البلاد. فالصراع الخفي ndash; العلني بين الجانبين دخل مرحلة جديدة بعد قرار المحكمة الإدارية العليا في اسطنبول بسجن مئات الضباط بينهم جنرالات كبار ورئيس أركان سابق هو الجنرال أليكر باشبوغ بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري ضد حكومة اردوغان عام 2003 في عملية سميت (بايلوز ndash; مطرقة الحداد).
لعل المثير فيما حصل، هو وقائع المحكمة، إذ نفى جميع الضباط التهم الموجهة إليهم وهو ما دفع بالجنرال حكمت جتين إلى وصف المحكمة بأنها محاكمة لجنود مصطفة كمال أتاتورك الذين قدموا حياتهم للبلاد، قائلا إنها (عقلية تجعل كل من لا ينتمي إلى أخويتهم عدوا)، واللافت أيضا ان المحكمة جرت دون حضور محامي الدفاع الذين احتجوا على رفض المحكمة التحقق من الوثائق والاثباتات التي قدمت للدفاع عن موكليهم، وهو ما دفع بكثير من المحلليين إلى وصف المحاكمة بالسياسية وليس القضائية وفي إطار تصفية اردوغان لحساباته مع الجيش .
لقد جرت العادة ان يقوم الجيش التركي بانقلاب عسكري كلما رأى ان المتغيرات والتحولات الجارية تهدد الأسس العلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية، وعلى هذا الأساس قام بسلسلة انقلابات (1960 ndash; 1971 ndash; 1980 وأخيرا الانقلاب الأبيض ضد حكومة نجم الدين اربكان عام 1997) في حين الذي جرى مؤخرا يوحي بالعكس، أي ان الذي يظهر وكأن اردوغان هو الذي قام بانقلاب ضد الجيش وليس العكس.
في معرض تحليل ما جرى، يمكن التوقف عند مايلي : 1 ndash; ان هذه المحاكمة جاءت في سياق طبيعي بعد سلسلة إصلاحات واجراءات لحكومة اردوغان أدت إلى تقليص صلاحيات الجيش وإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي .. إذ لم يعد ممكنا في ظل العلاقة المتوترة بين الجانبين الاستمرار في العلاقة القديمة خاصة بعد استقالة اربعة جنرالات في وقت واحد قبل فترة احتجاجا على تدخل اردوغان في التعينيات العسكرية والترفيعات والتي هي أصلا من اختصاص هيئة الأركان.

2- البعض وضع الخطوة في إطار تأكل قدرة الجيش على شكل استسلام وعجز أمام الهجوم المتواصل لاردوغان عليه، ويرى هؤلاء ان جملة التحولات الاجتماعية والاقتصادية هي التي خدمت استراتيجية اردوغان فيما يرى قسم أخر أن العلاقة المميزة لحكومة حزب العدالة والتنمية مع واشنطن مقابل تراجع علاقة الأخيرة مع الجيش التركي هي التي دفعت باردوغان إلى مواصلة الضغط على الجيش حتى النهاية، خاصة في ظل الحديث عن الخلاف بين المؤسسة العسكرية واردغان على خلفية سياسة الأخير تجاه الأزمة السورية والحديث عن رفض الجيش التورط في الأزمة على الأرض.

3- مع ان ما حصل يشير إلى حدوث أزمة من نوع ازمات النظام في الحياة العامة التركية أي صدام بين السائد السياسي المتمثل في الإسلام السياسي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية بدعم مباشر من جماعة فتح الله غولين الواسعة الانتشار (والقوى العلمانية) التي تتمسك بالأسس العلمانية للجمهورية التركية الا ان اردوغان يضع كل ما جرى في إطار الإصلاحات السياسية وليس الصراع الخفي ndash; العلني المستمر بين القوى العلمانية وقوى الإسلام السياسي منذ أكثر من نصف قرن. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو ماذا بعد (استسلام) الجيش لاردوغان؟ في الوقع، ثمة من يرسم مسارين للأمور. الأول : بدء مرحلة (أسلمة الجيش) بعد أسلمة الدولة والمجتمع ولعل سلم الترقيات الأخيرة تكشف الكثير من ملامح هذا المسار، إلى جانب إدخال التعليم الديني في المدارس والمعاهد التعليمية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923 على يد مصطفى كمال اتاتورك. الثاني : ان اردوغان بخطوته هذه فتح الباب أمام وضع دستور جديد للبلاد، دستور يسمح بنظام رئاسي قوي على الطريقة الأمريكية على ان يقود هو البلاد من قصر تشانقاي عام 2014. انطلاقاً من قواعد الصراع السابقة وعدم القناعة باستسلام الجيش أو انسحابه من الحياة العامة خاصة أنه يعد نفسه الحامي التاريخي لأسس الجمهورية.. ثمة من يتساءل، هل يتفادى أردوغان ما حصل مع مندريس وأوزال وأربكان؟ من الواضح أن السبب الحقيقي لمثل هذا السؤال أو الهاجس هو أن المؤسسة العسكرية التركية والتي تعد من أهم وأقدم المؤسسات الوطنية التركية تمتلك ـ على الأقل حسب هؤلاء ـ العديد من الأوراق، فكل الانقلابات السابقة جاءت في لحظة مشابه من حيث التوقيت لما يجري الآن من تصالح بين السياسة والدين والهوية والمجتمع ومكوناته. في الواقع مع التأكيد على عدم الاستهانة بقدرات المؤسسة العسكرية التركية إلا أنه ينبغي النظر إلى أن أردوغان نجح في قلب طاولة الصراع على الجيش، وذلك من خلال جملة من المتغيرات والمعطيات والتي تتلخص في مسألتين أساسيتين : الأولى : أن الظروف تغيرت كثيراً ولم تعد مؤاتية للقيام بانقلاب عسكري جديد، ففي الداخل لم يعد هناك الدعم الشعبي الكبير للنظام الأتاتوركي فحتى حزبه (حزب الشعب الجمهوري) تعرضت قدرته للتراجع، وفي الخارج لم يعد الولاء للغرب وتحديداً لأمريكا ينفع الجيش مقابل السياسة الحيوية لحكومة حزب العدالة والتنمية، كما أن المنشود من الإصلاحات الأوروبية المطلوبة هو انسحاب الجيش من الحياة السياسية وإلحاقه بحكومة مدنية تطلعاً إلى تحقيق المتعلقة بالشروط الأوروبية أو ما يعرف بمعاير كوبنهاجن لنيل العضوية، والأهم فإن صورة الجيش التركي في الداخل باتت مرتبطة بالفضائح والترهل والتورط في قضايا الجريمة والفساد والدولة الخفية من خلال ما بات بعرف بمنظمة أرغيتيكون أي الوطنيون الجدد. الثانية: أن حزب العدالة والتنمية ومنذ وصوله إلى الحكم عام 2002 نجح في تحويل خطواته التكتيكية إلى سلسلة انتصارات متتالية صبت في إستراتجيته التي أدت في النهاية إلى إفقاد الجيش عناصر قوته دون أن يصطدم به، وبفضل هذه السياسة نجح في الوصول إلى الرئاسات الثلاث (الجمهورية ـ الحكومة ـ البرلمان) وباتت تركيا دولة إقليمية قوية ومؤثرة. النتيجة الأبرز المستخلصة من ما جرى انها جاءت بمثابة انتصار سياسي للسلطة المدنية على شكل تأسيس علاقة جديدة مع الجيش تقوم على اعتراف العسكر بسيادة الحكم المدني عليه، لكن ما سبق لا يمنع من طرح السؤال التالي: هل سيرضى الجيش بإخراجه من دائرة القوة والنفوذ ويتحول إلى مجرد أداة تنفيذ لسياسة أردوغان؟