في كثير من بلدان العالم الحريصة على صحة شعوبها ونوعية المواد الداخلة إلى أسواقها أو معاملها أو مزارعها أو حتى جامعاتها، أجهزة مسؤولة عن السماح لدخول تلك المواد بعد فحصها بمختبرات واليات ومعايير تقيس نوعيتها وجودتها وصلاحيتها يطلق عليها أجهزة أو دوائر التقييس والسيطرة النوعية، تكون مسئولة أمام الدولة بأجهزتها وسلطاتها الثلاث عما يدخل إلى البلاد من كافة أنواع المستوردات، إضافة إلى مسؤوليتها عن تقييم وتقييس نوعية ما ينتج داخل البلاد وصلاحيته للتداول أو الاستهلاك أو الاستخدام.

ويبدو والله اعلم إن هذه الأجهزة قد تم اجتثاثها بعد سقوط النظام في نيسان 2003م على اعتبار إن كل ما سيدخل إلى البلاد بعد رفع الحصار سيكون درجة أولى، وسيتمتع رجال الأعمال والصناعيين العراقيين بحرية لا مثيل لها في الإنتاج بما لا يحتاج إلى أي أجهزة لتقييم إنتاجهم، فغرقت الأسواق بما لذ وطاب من كل ( بالات أو لنكات العالم ) من مواد غذائية وزراعية وملابس سيارات واشك إلى حد كبير بنوعيات سياسية أيضا وهنا مربط الفرس كما يقولون.

أردت بهذه المقدمة أن أدخل إلى مراكز التقييم والسيطرة البشرية التي كانت وما تزال تتكثف في أنظمة الحزب الواحد وتقوم مقام التزكية والتأهيل البشري ومراقبة الكوادر العاملة في المؤسسات الإدارية والتشريعية والقضائية، وكلنا يتذكر بأنه ما من شرطي أو فراش يتم تعيينه ما لم يوافق عليه الحزب الحاكم، وهكذا صعودا في مفاصل الدولة حتى الوصول إلى المستويات العليا في مناصب الدولة.

وربما يرى الكثير إن مثل هذه المراكز تعكس صورة من صور الدكتاتورية وحصر السلطات في جهة واحدة، يقوم حزبها أو مسؤوليها باختزال الولاء الوطني والانتماء والإخلاص لحزب واحد أو زعيم بعينه، كما كنا نشاهد أيام النظام الدكتاتوري في عمليات التزكية والترشيح إلى أي وظيفة عامة في الدولة، ليس هنا في العراق وحده بل في معظم الأنظمة الشمولية في العالم.

ما حصل في معظم البلدان التي تخلصت من أنظمتها الدكتاتورية واختارت الأسلوب الديمقراطي في تداول السلطة والوصول إليها، انها أصبحت تعج بالعديد من تلك المراكز التي تدفع مرشحيها إلى مراكز السلطة والإدارة والتشريع بعد تزكيتهم وتقييمهم من ذات الزاوية التي كانت تستخدمها النظم الشمولية وأحزابها دونما الالتفات إلى معايير تتعلق بالمواطنة التي ترتقي على الانتماءات الحزبية أو العرقية أو الدينية والمذهبية، مما تسبب في إنتاج مشهد سياسي وإداري وتشريعي مشوه ومعاق، وهذا ما شهدناه خلال ثمان سنوات من قيام النظام السياسي الجديد في العراق حيث خضعت عملية التقييس والسيطرة والتزكية والترشيح لغالبية الذين شغلوا مواقع إدارية أو تشريعية أو قضائية في السلطات الثلاث لذات النهج الذي استخدمه النظام السابق، ولم تنجح المؤسسات العراقية والفعاليات السياسية لحد يومنا هذا من الاتفاق على ثوابت وأسس وطنية للتقييس والتقييم المواطني للفرد الذي سيشغل أي موقع من المواقع العامة بعيدا عن التزكيات الحزبية والعشائرية والمذهبية أو الدينية؟

[email protected]