تصريحات المسؤولين العراقيين تعبر بواقعية عن تخبط السياسات وهوس المغالطة والتعتيم على الحقائق والوقائع.
رأينا ذلك في مظاهرات المجتمع المدني عام 2011، ما بين تخويف واتهامات مسبقة، ثم القمع الدموي، وما بين تلطيف الخطاب والحديث عن حرية التظاهر. ورأينا ذلك في أحداث الأنبار عند بدايتها، ما بين اتهامات، فالحديث عن مشروعية عدد من المطالب، وصولا للمذبحة في ساحة معتصمين بلا سلاح، ولتنتهي الأمور إلى ما يقلق جدا من تصعيد الجانبين، وهوس حمل السلاح في مناطق المظاهرات والاعتصامات، وتشكيل ما يشبه المليشيات، وقتل الجنود، وانفلات النغمة الطائفية التي كانت خطب المالكي وإعلامه قد فجرتها. وصرنا لا نعرف رأس القصة ولا ذيلها، وكيف تطورت، وكيف تحدد المسؤوليات رغم أنه، ومهما كان، فالمسؤولية الكبرى تقع على من يمسك بزمام كل السلطات وعتلات الحكم، بما فيها القوات المسلحة، لاسيما حين يزج بالجيش في أعمال قمعية وهو المكلف بمهام أخرى تمس السيادة والحدود والدفاع عن الوطن.
لقد انفتحت اليوم فرصة جديدة وquot;سخيةquot; للدول الإقليمية لتتاجر بالمذهب، وليتغنى كل منها بحب العراقيين، بينما يعمل كل لجني المغانم العراقية، ولتصفية حساباته مع الغير على أرض العراق، وبثمن المزيد من آلام العراقيين، وخطر تمزيق بلدهم العزيز. وليس من الصدف مثلا أن تنفجر الأحداث انفجارا مأساويا مرعبا إثر زيارة المسؤول الأمني الإيراني مصلحي، وأن يجري أيضا تشديد الخناق على سكان ليبرتي العزل لتمويتهم ببطء وعذاب. ونقول هنا إن الانتقام السياسي ليس من شيم الواعين لمسؤوليتهم الوطنية والإنسانية ولمفهوم العدالة، حتى في التعامل مع عدو أمس، ومهما كانت الجريمة. وهذا أيضا ينطبق على حالة طارق عزيز . فعبد الكريم قاسم،الذي ذهب البعض لتشبيه المالكي به، كان يأمر بحماية مظاهرات تنادي، لا بسقوطه وحسب، بل حتى بموته.
إن الأمور لو استمرت بلا تهدئة صارمة وبلا معالجة المظالم، [وطبعا من دون تساهل في عدالة القانون والمحاسبة القانونية لأية جريمة تقع، وأيا كان مقترفها، كجرائم قتل جنود] هي مظالم موجودة فعلا، بدليل إطلاق سراح آلاف ثبت اعتقالهم بلا جريمة وعن عمد، وعلى أساس طائفي، [كما سبق وقال القاضي منير حداد الذي لا يمكن اتهامه بخصومة للسيد المالكي]؛ أقول إذا لم تعالج الأمور بحكمة الأخيار المبصرين وبعقلانية، فنحن مقبلون على كارثة التفتيت والحروب الأهلية الدامية والمتواصلة.
واليوم ينبري وكيل ما يدعى بوزارة حقوق الإنسان، خلال زيارة وفد عراقي لجمهورية جنوب أفريقيا، ليصرح بأن العراق:
quot;ملتزم بجميع الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان....quot;.. وquot;هناك تشابه بين التجربة الديمقراطية لجمهورية جنوب أفريقيا والتجربة الديمقراطية في العراق...quot;؟؟!!
مع هذا التصريح يأتي خبر منع دخول مراوح لسكان معسكر ليبرتي لداخل المعسكر رغم اشتداد الحر، بعد أنباء وفاة اثنين من سكان المعسكر بسبب نقص تام في المعالجة الطبية. وهذا مناقض لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية. ونعرف أيضا أن حقوق الإنسان تعني مساواة الجنسين بينما وضع المرأة متدهور، كفرض الحجاب والاحتكام لأحكام الشريعة في الأحوال المدنية، وعدم العناية الجدية بملايين الأرامل. وحقوق الإنسان تعني حرية التعبير والتظاهر السلمي والمساواة بين المواطنين، ونحن اليوم في عراق تهاجَم فيه المظاهرات السلمية ويشوش على طبيعتها كما جرى منذ 2011 ، وفي عراق لم يبق فيه من المسيحيين غير نصف العدد، ويتواصل العدوان على الصابئة المندائيين. ولقد توارى مبدأ المواطنة ليطغي التقوقع الطائفي والحزبي والعرقي والحسابات الشخصية، ومع دستور يخضع كل شيء لما يدعى بquot; أحكام الشريعةquot;.
حكام العراق يحسنون للعراق ولأنفسهم لو أبدوا شيئا من التواضع والاعتراف بالخطأ ولو أدركوا أهمية التهدئة والمرونة بدلا من التأجيج. ومن المضحكات أن نشابه بين حالتي جنوب أفريقا والعراق. فمنديلا ليس السيد المالكي وفريقه والآخرين من ساسة العراق النافذين . مانديلا مارس سياسة مرنة مع أعداء أمس إلا من كبرت جرائمه، وهو ما نصح به جماهير الانتفاضات العربية ونخبها، محذرا من نزعات العنف والثأر والإقصاء، ولكن بلا من يصغي إليه، حيث طغت عقلية الانتقام والاجتثاث العشوائي وهوس تدمير كل ما كان ولو كان يحمل جوانب نافعة. وها هي تلك الدول اليوم وقد دخلت الأنفاق السوداء. مانديلا لم يكن يسمح بالاعتقالات بسبب تقارير مخبرين سريين، ولا يسمح بالتعذيب وانتهاك الأعراض. ومانديلا عمل من أجل شعبه كله وليس من أجل فئة بعينها أو حزب أو شخصه. إنه لم يكن محتكرا للسلطات- هو ومكتبه ومقربوه. ومانديلا لم يتستر على صفقات مشبوهة بالفساد، ولا كان يتربص بالخصوم والمنافسين ويخفي quot;ملفاتquot; يقول هو إنها تمس أمن المواطن وثروات الوطن ولا يخرجها إلا عند اشتداد الصراع مع هذا المنافس والخصم أو ذاك.
حكام العراق جاؤوا للسلطة بتدخل خارجي مسلح، وبدلا من إصلاح الأمور المعوجة وانتهاز الفرصة لتحسين أوضاع المواطن وضمان حرياته كاملة واحترام سيادة القانون، فعلوا العكس، لتنتهي الأحوال إلى عراق سباق في الفساد، وبطل في التطاول على الصحافة وحرية التعبير، ومبرز في خلق الأزمات وافتعال الخصومات- وصولا لحافة الانهيار التام، إن لم يكن الانتحار الجماعي، كما وصل إليه وضعنا اليوم.-
أجل، إن العراق في خطر التمزق والحروب الأهلية، ومن واجب كل الأطراف الوطنية السياسية وأبناء البلاد الواعين، ومنهم شيوخ العشائر المبصرون ورجال الدين غير الطائفيين، أن يعوا تمام الوعي خطورة الحالة، وأن يعملوا معا ومهما كلف الأمر وكانت الحساسيات، لعدم التصعيد وللتهدئة، والبحث الجاد عن صيغ حلول وسطية وواقعية مقبولة، تضمن وقف الانزلاق الجاري نحو الهاوية. فهل هذا ممكن؟!! أم قد فات الأوان؟!!