لم يكن الربط بين الحقيقة الدينية وتلك السياسية، وبين العلاقة مع السماء في تأثيرها على الاجتماعي السياسي وما يجري على الأرض، أكثر وضوحا مما كشفت عنه اصطفافات الثورة السورية الداخلية والإقليمية، فالمحور الأكثر جذرية في فصل المواقف وتغايرها، وحتى تناقضها، لم يرسم جوهريا إلا من خلال اختلاف النظر إلى المقدس، ووفقا لتباين طرق اشتغال ذاك المقدس على الوعي التاريخي والمخيال الجماعي للأطراف المختلفة، لا يخرج موقف المجتمعات الشيعية في العراق وإيران، الداعم حتى النهاية للنظام في سورية،ولا التورط العسكري لحزب الله اللبناني مدعوما بغالبية الشيعة اللبنانيين في القصير وغيرها من بقية المناطق السورية،عن هذا التوصيف، ولا تبتعد عنه دول ومجتمعات الخليج العربي،حين ساندت الشعب السوري الثائر الذي يتقاطع معها في غلبة المذهب السني سوسيولوجيا عليه، حتى الاستقطاب في المجتمع التركي يبدو مستجيبا للتقسيمة ذاتها، فغالبية السنة تؤيد الثورة ومعظم العلويين يدعمون نظام بشار الأسد، كل ذلك يظهر جليا إلى أي حد تؤثر قروسطية الوعي الإسلامي في حياة إنسان المنطقة وعلى فاعليته الاجتماعية ومواقفه السياسية، بل في مجمل تعاطيه مع ذاته ومحيطه ووجوده كله. على أن الجديد الذي أثارته الاصطفافات تلك لم يكن نبشها للمسكوت عنه في الوعي العربي الإسلامي، إنما واستثناء، تدفع تلك المواقف المختلفة من الحدث السوري إلى السطح والمباشر الاجتماعي، أزمة القطيعة التاريخية التي يعيشها إسلام الشرق الأوسط عن الحداثة العقلية التي اجتاحت العالم الغربي منذ عصر الأنوار، كما تبرز الأهمية القصوى لمباشرة تجديد ديني جذري، تنافح عنه كقيمة أساسية، حوامل اجتماعية و خطابات سياسية تستهدف هذه المجتمعات، بما يقود إلى إعادة توحيد الوعي العربي الإسلامي و ردم الهوة الطائفية المؤدية إلى آثار اجتماعية صراعية، الأمر الذي يمنح في المحصلة، للمختلفين حول النظر إلى الإسلام مواقف متسامحة إزاء بعضهم البعض،ويصوب رؤيتهم للجوهر الديني بحيث يستقر في الضمير والعقل فوارا بالمعنى، متعاليا عن المصالح السياسية، وغير ملوث بالصراعات المزرية على الهيمنة.
بيد أن ما تقدم من اختلاف الحقائق المتحصلة تبعا لتفارق المنظورات المذهبية لا يضيع بالضرورة الحق الموضوعي والحقيقة الواقعية لما يحصل في سورية، فالحقيقة العلمية الموضوعية القابلة للتوثيق أن النظام السوري مستبد وشمولي إلى درجة مروعة، ولو أن العقل الديني السائد في سورية والمنطقة كان أكثر انفتاحا على قيم الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان التي أمست ذات مسحة كونية، وأكثر تصالحا مع انجازات العقل الحديث وفتوحاته الإنسانية لا سيما في حقل القيمة، لما حصل هذا التجاذب الحاد حول الحدث السوري،ولا انقسمت المواقف السياسية إزاءه تبعا للهوية الدينية والطائفية، ولما كان مطلب إسقاط النظام وشرعيته محل سؤال، بل، لما نجح النظام السوري أساسا في بناء علاقات إقليمية ولا منظومة عسكرية أمنية متماسكة حول استبداده إلى المدى الذي بدت عليه طوال عامين من مواجهتها للحراك الشعبي السوري.
إلى ذلك يبدو أن المأزق الذي أصاب الثورة السورية والانسداد الحاصل في مسارها السياسي والاجتماعي هو في الحقيقة جزء من انسداد ثقافي معرفي اكبر وأكثر جذرية،بما يحيل إلى قاعدة تصح كثيرا في المجتمعات العربية والإسلامية، وهي أن القطيعة مع الديمقراطية في عموم المنطقة ليست إلا انعكاسا لأزمة الحداثة و تفرعا للقطيعة معها، وأن كل تقدم على صعيد القطع مع قروسطية الوعي الديني بتجديده العميق وبفتحه على قيم العقل الحر والحديث، هو تقدم حقيقي صوب التحرر من جميع أشكال القهر وعلى رأسها الاستبداد السياسي. كما يصح أيضا في سورية، أنها رغم انفجارات الدم والوجع فإن الثورة السورية بوصفها كشف لأزمات المجتمع السوري البنيوية، وتهشيم لسلطة الاستبداد السياسي فيه، هي أيضا سعي مفتاحي صوب الحداثة وتحرير حقيقي للإنسان، و إحياء لجدلية الصراع الاجتماعي الذي تتشكل وفقا لصيرورته ونتاجاته قيم الاعتراف بالآخر بوصفها القيم الأهم التي تؤسس للديمقراطية و تؤدي إليها.
التعليقات