العراق المغضوب على أمره والمقسوم على نفسه منذ سقوط صنم الاستبداد عام الفين وثلاثة مازال يعاني من انفلات أمني كبير وواقع متسم بعدم الاستقرار السياسي، وبات ساحة مكشوفة للصراعات الارهابية المحلية والاقليمية والدولية والمذهبية والحسابات المخابراتية، حتى بدا العراق يدنو من حرب دموية شاملة بفعل الارهاب والتدخلات السافرة لدول الجوار في الشأن العراقي، ولا شك فان هذه الحرب المرسومة لها ان لم نجد طريقا للتنافر منها ستحرق الاخضر واليابس على الارض وستجلب الويلات على كل العراقيين.

وليس بغريب ان احد أسباب هذا الواقع المؤلم هو ان حس الانتماء لدى الفرد العراقي قد تحول من الوطنية الموحدة الى المذهبية المفرطة، علما ان هذا الاحساس لم يكن شائعا في العقود الماضية وكان الشعور الوطني طاغيا على مشاعر وممارسات الافراد والجماعات بالرغم من طغيان واستبداد واجرام النظام الحاكم، ولكن الواقع المر الذي نعيشه كعراقيين خاصة في السنوات الاخيرة افرز مظاهر قاسية وغير مألوفة في الحياة منها العنف الدموي والموت الدائم والقتل اليومي وكأن ارواح المواطنين باتت كائنات رخيصة الثمن مثل الجسد الهندي المصدر لاغراض التشريح الطبي، ولا شك نتيجة لتراجع الشعور بالانتماء الوطني سيطر الانتماء المناطقي على النفوس وبات الولاء الديني هو المرجع الحاسم في تكتل وتجمع القوى السياسية والادارية والاقتصادية والتجارية وحتى الثقافية، ونتيجة لهذا الأمر ظهرت دعوات سياسية تنادي الى تشكيل حكومات محلية قوية على مستوى المحافظات والأقاليم، ولم تقف الامر عند هذا الحد بل امتدت الدعوات لانشاء الأقاليم على أساس مذهبي مثل الاقليم الغربي للمحافظات المحسوبة ضمن الدائرة السنية والتي تضم الانبار وصلاح الدين ونينوى، والاقليم الجنوبي للمحافظات المحسوبة ضمن الدائرة الشيعية والتي تضم محافظات الفرات الاوسط والكوت والعمارة والبصرة.
وبدأت فكرة التقسيم الاداري على اساس الفيدرالية تلقى اذانا صاغية داخل المكونات السياسية والمذهبية بعد ان كانت يتم تكفيرها في الماضي لإقامة أقاليم شبيهة بالاقليم المتطور والمتقدم والآمن في كردستان العراق، ومقابل هذا التطور والوعي السياسي المتقدم تجاه الفيدرالية، بدأنا نسمع داخل اروقة الغرف السياسية للمكون الكردي دعوة تشكيل كونفيدرالية اقليم كردستان مع الحكومة الاتحادية في بغداد، ولكن المثير ان بعض الليبراليين اصبحوا ينادون الى تشكيل جمهوريات عراقية على شاكلة اتحاد الجمهوريات ايام الاتحاد السوفيتي لاخراج الوطن من محنته والمنقسم حقيقة بين السنة والشيعة والكرد.
وعلى العموم فان هذه الدعوات والاراء مازالت معبرة عنها على مستوى الافراد والجماعات، ولها دوافع سياسية وقومية ودينية مذهبية وهي متأتية نتيجة الاحباط وتدهور الوضع الامني العام في العراق، ولكن كما يقال quot;سلامة الشعب اسمى هدفquot; فان الوقت قد حان للتفكير جديا للبت في أمر هذا الوطن العراقي المصنع بخريطة انكليزية والذي لم يعرف استقرارا ولا أمانا طوال قرن كامل من تاريحه الحديث، والحق يلزم علينا القول ان هذا الطرح هو المدخل العقلاني لانقاذ العراقيين من هذه التهلكة التي يعيشها منذ عقد كامل بعد سقوط النظام المباد، والفكرة تنحصر بتقسيم الوطن وموارده وثرواته الطبيعية على الشعب حسب المحافظات والمناطقية الجغرافية والوقائع المذهبية والقومية وتكوين أقاليم فيدرالية شبيهة بالاقليم الكردي متمتعة بالدستور وبالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بغية الحفاظ على العراق موحدا ومن أجل انقاذه من الواقع المرير الذي يمر به، واخراجه من المسار التاريخي الدموي الذي يعيشه، ولغرض ايصاله الى بر شاطيء الأمان وتأسيس عراق جديد آمن ومتمع بسلام شامل وكامل، وقد ينظر البعض الى صعوبة تحقيق هذا الحلم ولكنه بالحقيقة هو الحل الوحيد لاخراج البلد والعراقيين من محنتهم ومن مآساتاهم وانقاذهم واخراجهم من الحياة القاسية التي يعيشونها بمرارة وبجروح كبيرة.
والحقيقة المؤلمة ان الاحساس بالاحباط الشديد من الحاضر والغياب المطلق للثقة بالمستقبل هو الواقع اليومي الذي يسيطر على عقول العراقيين، ولسان الحال يقول مرارة واقع الحال دفع بالعراقيين الى يأس شديد لا يحمل أي أمل في الواقع ولا بالآتي ولا يسمح بتحقيق اي حلم ولو كان صغيرا في ظل الأوضاع السيئة التي يعيشها اغلب العراقيين وفي ظل حكومة فاسدة تقبض ميزانية بأكثر من مائة مليار دولار ولا أي أثر لهذا المال القاروني في واقع الحياة اليومية والفصلية والسنوية للمواطنين.
واليوم، وبعد تعثر العملية السياسية منذ سنوات بين مكونات العملية السياسية والكتل البرلمانية في العراق وخاصة بين القوى السنية والشيعية، مازالت مطالب الشعب بالحياة الكريمة والخدمات الاساسية غائبة وتراوح في مكانها بالرغم من امتداد المد الاحتجاجي للربيع العربي، ومازال البحث عن حل مناسب متسم بالمنطق والعقل غائب عن تفكير الحكومة ورئيسها والمسؤولين السياسيين، ومازالت بعيدة عن تلبية الاستحقاقات الدستورية والانتخابية والحياتية والخدماتية للعراقيين.
ورغم ان الضرورة العراقية تلزم الجميع بتبني نظام اتحادي فيدرالي الا ان البحث الجدي عن هذا الحل العملي مازال غائبا في الواقع السياسي، ورغم اتسام هذا النظام بميزات عديدة منها إقامة حكومات محلية قادرة على ضمان الإدارة الناجحة لتحقيق مطالب المجموعات السكانية لتحقيق البناء والتنمية والسلام.
لهذا تبرز أهمية الفيدرالية في الواقع العراقي لأنها الضامن الرئيسي لتحقيق الاستقرار لمجتمعات المحافظات أو الاقاليم وتلبية العدالة الاجتماعية لجميع المكونات بعيدا عن المذهبية والطائفية والاداء الفاشل والفاسد لاصحاب السلطة في الادارات المحلية الحالية التي تشترك فيها الأحزاب المشاركة بإدارة دفة الحكم في العراق.
وضمن المفهوم الأساسي للفيدرالية فان هذا النظام يؤمن تشكيل التركيبة الإدارية والسياسية الناجحة في كل اقليم لضمان حقوق المواطنين حسب خصوصياتهم وحاجاتهم وضروراتهم المحلية، ومن ميزاته ايضا ضمان المشاركة الفعالة في وضع السياسات العامة واتخاذ القرارات وإبداء الرأي والمشاركة في الأنشطة الخاصة بتحديد الأهداف العامة والخاصة النابعة من ضرورات الحاجة للاقليم، ومن سماته كذلك ضمان التوافق والتحالف في تحديد الاستراتيجيات والأهداف العامة، اضافة الى تحقيق المطالب الحياتية الاساسية والخدماتية والمعيشة والحاجات الرئيسية لشعب الاقليم.
لهذا نجد من الضروري التأكيد على اعادة الاهتمام بالحل الفيدرالي والتفكير الجدي بهذا الواقع القانوني المثبت في دستور العراق لإرساء نظام اداري سياسي متسم بالمرونة لإدارة سكان المحافظات لتوفير الامن والسلام والاستقرار للمجتمع بجميع مكوناته وللدولة الاتحادية بطريقة عملية، وهذا النظام يشكل ضمانا للحفاظ على وحدة البلاد وسيادته مع تحقيق كل الحاجات المتعلقة بحاضر ومستقبل العراقيين في جميع المجالات الحياتية والسياسية.
وانطلاقا من هذا المنظور فإن اعادة اطلاق هذه الدعوة للتمسك بالحل الفيدرالي يشكل فرصة واقعية أمام القادة السياسيين للاخذ بها لتجاوز الأزمات والمشكلات التي يعاني منها العراقييون بجميع مكوناتهم، ولا طريق الا بإرساء هذا النموذج لضمان وحدة البلاد ومنع تقسيمه والنهوض به لاقامة دولة عراقية مستقرة وآمنة للحياة.