لم ينجح "جون كيري" وزير الخارجية الأمريكي في إقناع "ديان فاينشتاين" رئيسة لجنة الإستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي بتأجيل نشر تقرير اللجنة حول أعمال التعذيب وإجراءات التسليم التي اتبعتها وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001م في ظل إدارة "جورج بوش الإبن". التقرير نشر يوم الثلاثاء 9/12/2014م أي قبل يوم الأربعاء 10/12/2014م الذي يصادف اليوم العالمي لحقوق الإنسان، لا أعلم إن كان التوقيت حدث صدفة أم كان مقصودا.

ألقى ملخص التقرير المكون من 480 صفحة (أصل التقرير الكامل مكون من حوالي 6 آلاف صفحة، وكلف حوالي 40 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب)الضوء على ممارسات بشعة لتعذيب المعتقلين بهدف إنتزاع الإعترافات منهم بإستخدام ما يسمى "تقنيات الإستجواب المعززة" والتي تشمل الإيهام بالغرق، والحرمان من النوم، والصفع واللكم، وتقييدهم عراة، وسحلهم على الممرات. واضاف التقرير ان عددا من المعتقلين الذين تعرضوا لتلك الحالات من التعذيب عانوا لاحقا من الهلوسة والأرق وحاولوا إيذاء أتفسهم للتخلص من هذه المعاناة. كما كشف التقرير ولأول مرة عن شبكة من المعتقلات والسجون الخارجية التي تستخدمها وكالة الأستخبارات وتطلق عليها إسم "المواقع السوداء" حيث تم إستجواب المعتقلين في بلدان أخرى. وقال التقرير أيضا إن 54 دولة (بينهم دول عربية) تعاونت بطرق متباينة مع الوكالة لتسهيل عمليات الإعتقال والترحيل القسري.
&
أثار التقرير صدمة كبيرة في الداخل والخارج، فعلى المستوى الداخلي قالت "ديان فاينشتاين": "خلال الأسبوعين الماضيين تعرضت لضغوط لتأجيل اعلان التقرير لما نواجهه في العالم من حالة عدم استقرار في الشرق الأوسط، وهي حالة ستستمر سواء تم إعلان التقرير أم لا، واضافت "التاريخ سيحاسبنا والإصرار على نشر التقرير يؤكد قدرتنا على مواجهة الحقائق القبيحة والتعهد بعدم تكرارها". أما الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" فقد اشار في دعمه لرفع السرية عن نشر التقرير قائلا: "واحدة من نقاط القوة التي تجعل أميركا استثنائية هي استعدادنا لمواجهة اخطائنا علنا".
&
أما على المستوى الخارجي، فقد أثار التقرير ردود فعل مستنكرة وخصوصا من الدول الغربية التي طالبت الحكومة الأمريكية بالتحرك جديا إزاء هذا الإنتهاك الخطير للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقال "كينيث روث" مدير هيومن رايتس ووتش: "يجب عدم وضع التقرير على الرف أو في إسطوانة مدمجة، بل يجب أن يستخدم كأساس لتحقيق جنائي بشأن استخدام وسائل تعذيب من قبل مسئولين امريكيين". أما منظمة "كيدج" البريطانية للدفاع عن حقوق الإنسان، فقد دعت إلى ملاحقات قضائية ضد مرتكبي هذه الجرائم مؤكدة وجود أدلة دامغة في التقرير تبرر رفع دعوى قضائية. كما أكدت "كاترين راي" المتحدثة بإسم الجهاز الدبلوماسي للإتحاد الأوروبي أن هذه المعلومات تثير تساؤلات مهمة بشأن إنتهاك حقوق الإنسان من قبل السلطات الأمريكية والعاملين في وكالة الإستخبارات.
&
حتى كتابة هذه السطور لم أقرأ أو أسمع عن ردود فعل الدول العربية حول هذا الموضوع، رغم أن أكثر من تعرضوا لهذه الإنتهاكات غير الإنسانية هم من الدول العربية. ولا يمكن تبرير هذا الصمت بالقول أن هؤلاء إرتكبوا أعمالا إجرامية بحق أناسا أبرياء وإن كان هذا صحيحا، فمن يرتكب جرما - مهما يكن فظاعة هذا الجرم - من حقه أن يحصل على محاكمة عادلة وبعد ثبوت الجريمه يصدر حكما بحقه يناسب حجم الجريمه المرتكبه. ولكن لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف أن يتعرض هذا الشخص أو الأشخاص للتعذيب وإهدار الكرامة بهدف إنتزاع الإعترافات قسرا منهم. وفي إعتقادي أننا لن نسمع ردود فعل (أو ربما ردود فعل باهته) من الدول العربية لإن اغلب هذه الدول تمارس أبشع أنواع التعذيب الممنهج ضد مواطنيها، لا لشيئ سوى أن هذه الشعوب تطالب بالحرية والعدالة والكرامة والمشاركة في إدارة شئون بلدناها. كما أن الكثير من البلدان العربية تنكر هذه الممارسة حتى لو صدرت تقارير بذلك من مؤسسات حقوقية دولية محايدة، وربما بطلب من الدولة نفسها. وكثيرا ما يقال عن السجون العربية "أن الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود".
&
لا استطيع التكهن بالإجراءات التي سوف تتخذها الحكومة الأمريكية ضد من إرتكبوا هذه الجرائم البشعة، ولكني على يقين أن المشرعين الأمريكيين (الديمقراطيين والجمهوريين) سوف يختلفون حول هذا الموضوع، ففريق منهم سوف يطالب بمحاكمة من تجاوز القوانين عمدا، وفريق آخر سوف يدافع عنهم بحجة أنهم قاموا بواجبهم لحماية الأمن القومي الأمريكي. هذه هي الديمقراطية وهذا شأنهم، ولكني أعتقد ان المشرعين الأمريكيين – تحت ضغط الرأي العام الأمريكي والأوروبي – سيعملون في المستقبل القريب، وربما بعد أن تهدأ العاصفة على سن قوانين إضافية تجرم مثل هذه الأفعال غير الإنسانية لتفادي عدم تكرارها في المستقبل.
&
يحسب لمجلس الشيوخ الأمريكي أنه هو من طلب إجراء هذا التحقيق، ونشر التقرير ليطلع عليه ويقرأه العالم قبل يوم واحد فقط من اليوم العالمي لحقوق الإنسان. كم دولة في العالم يمكن ان تقوم بمثل هذا العمل؟ الدول الديمقراطية الحقيقية هي التي تقوم بمثل هذا العمل لإيمانهم بأن أخطاء الديمقراطية تعالج وتصحح بمزيد من الديمقراطية.
&