الرصاص حول "شارلي أيبدو" من صحيفة أسبوعية تجاهد لتستمر لواحدة من أكبر الجرائد التي طبعت وبيعت كامل طبعتها التي تزيد على خمسة ملايين نسخة في وقت قياسي.

لم يكن لمحتوى الجريدة أو صورها الكاريكاتورية المختصة في التهكم على الرموز الدينية أهمية تذكر في جلب القراء لشرائها أو الاهتمام بما تنشر، فقط من صنعوا مما نشرته من صور مسيئة حكاية تثير ردود الفعل الغاضبة، وحولوا القضية لحقد متراكم تفجر بهجوم إرهابي تناثرت نتائجه في كل اتجاه، لتعلن بداية مرحلة الصدام المتبادل بين صحف باحثة عن رفع مبيعاتها، وهبات غضب تنفجر في مناطق مختلفة لتعمق أزمة صدام الأديان داخل المجتمعات التي عاشت بتناغم بين مكوناتها المختلفة دينياُ والمتناغمة ثقافياً واجتماعياً وحضارياً.

حكاية الصور المسيئة للرسول لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فمنذ كتاب سلمان رشدي ونحن في زمن الإساءات وردود الفعل المتشنجة الهوجاء عليها، والتي وجدت صدى ممتع في الغرب بين الحديث عن حرية التعبير والدفاع عنها والهجوم دون ضوابط على من امتهن اللعبة وتفنن بها.

في خضم الإساءات والصراخ ضد من يريدون تشويه سيرة الرسول والمقدسات الدينية، ومن يريد إيصال رسائل المحبة لدين الله والوفاء لرسوله، تقفز صورة أخرى مع هبوب رياح التطرف القادم من أفغانستان ومجاهديه في اجتثاث وتجزئة للنص القرآني خارج إطار المعنى العام، فصار الحديث عن اليهود والنصارى أساس الحديث عن الكفار المباح قتلهم والمستباحة دمائهم والدعاء عليهم في المساجد في صلاة الجمعة يتنافس فيه شيوخ التطرف وكل يزيد من عنده.

المجتمعات الإسلامية تصر على اعتبار نفسها الحق المطلق، ولم تبدأ في تنظيف تراثها وفكرها من نظرة الاستعلاء على الكفار الذين حرفت كتبهم وأديانهم، والمسلمون ما زلوا مصرين على امتلاك مطلق الحقيقة وأنهم الفئة الناجية، وهذه المجتمعات أمام خيارات مزيد الانغلاق والسير للعنف أو تنظيف نفسها قبل الهجوم على الآخرين الذين تتهمهم بمعاداة الإسلام.&

موقف "شارلي أيبدو" بعيد عن أخلاقيات ومفاهيم الحرية التي تقدم كجزء رئيس من ثقافة وحضارة الغرب، تقف على نقيض موقفه تجاه المساس ببعض المحرمات التي وضعها دون ثوابت واضحة ولكن بتوازنات فيها الكثير من الغموض والكذب حيال قضايا يعتبر المساس فيها جريمة، هذا التناقض جعل ردود الفعل والإحساس لدى الأخر الذي هوجم في دينه وعقائده يتسع، ويقابله في الآن ذاته نفس المواقف تجاه الغرب واليهود النصارى الكفار وأعداء امة الإسلام يغذيه مواقف رجال دين راكبي موجة التطرف وتعاظم الأحقاد في قراءات فيها الكثير من اللغط للإسلام.

تعاظم صراع الإساءات والتطرف سيخلق حالة شد وتوتر تتعاظم مع كل محاولات جريدة بلا مضامين لكسب المال لأنهم وجدوا السبيل الأسهل لذلك هم المسلمون بعصبيتهم العاجزة عن رد الفعل خارج إطار العنف، وفشلهم في مخاطبة المجتمعات الغربية بلغة توضح رؤيتهم، وانقسامهم بين تطرف يتعاظم واعتدال يتحسس عجزه كل من يعتبرون أن الفكر الإسلامي المتسامح لا يملك لا صوتاً ولا قدرة على إيصال موقفه بكل شجاعة.

بين الرصاص والصور المسيئة تختزل الفتنة تحت مسميات حرية التعبير والرد عليها، والإصرار أن يكون القادم مختزلاً بين صراع الحضارات والأديان سينجر عنه واقع دموي لا حدود له، وأخطر ردود الفعل تلك القادمة من الهبات الشعبية التي لا يعرف من يشعلها أو أين تقف، أو حوادث فردية ليس ورائها سوى إحساس بالقهر والعجز مما يهدد تعايش وترابط مجتمعات جمعت الكثير من الأديان والطوائف، أو مجتمعات فتحت أبوابها لقبول الأخر.

صور "شارلي أيبدو" ليست جزء من المؤامرة ضد الإسلام أو محاولة ضربه بل جزء من تجارة الفاشلين في صحافة عاجزة عن استقطاب القراء فوجدت مادة خصبة في استفزاز مشاعر المسلمين لتسويق بضاعتها، والرصاص وثقافة ردود العقل المشبع بالحقد والإرهاب ستخلق بدلا من هذه الجريدة عشرات تسير بنفس الطريق لأن أحلام الثراء والبقاء لدى الكثير من الحالمين تفوق بكثير الخوف من تهديدات القتل وإن نجحت مرة في قتل البعض.

لم تسئ الصور للأنبياء مهما كانت مستفزة، فليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكن من أساء لهم هم من شرعوا القتل والتكفير باسمهم وبحجة الدفاع عنهم.