&

رؤية من الداخل&

تابعت بشغف اعترافات انتفاض قنبر على قناة البغدادية وهو يكشف الأسرار والحوادث الخفية المتعلقة بزعيم المؤتمر الوطني الدكتور أحمد الجلبي، وعادت بي الذاكرة لعام 1995 وأنا أشاهد اعترافات المنشق حسين كامل ضد سيده وولي نعمته صدام حسين، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فكما كان حسين كامل اقرب الناس الى الدكتاتور وأمين أسراره وصاحب الحظوة عنده، كان هذا هو حال السيد انتفاض قنبر منذ العام 1993 بالنسبة لأحمد الجلبي الذي كان ذراعه اليمين قبل وبعد سقوط نظام الطاغية. وكل واحد منهما ظهر وهو يتحدث ويقدم نفسه بأنه العفيف النظيف والنزيه وأن سيده هو مصدر السوء والشر والخطيئة وإنه انشق عنه لأنه لم يستطع إصلاحه أو تقويمه، ودفعته غيرته على الشعب ووطنيته الفائضة للتخلي عن امتيازاته والانتقال الى صفوف هذا الشعب المغلوب على أمره. هذه نماذج مما عاشه ويعيشه الشعب العراقي من مهازل ومسرحيات مبتذلة عما يمكن أن أسميه النفاق على الطريقة العراقية. ويمتد هذا النفاق إلى كل مفاصل الحياة السياسية في العراق اليوم، فجماهير هذا الحزب السياسي أو ذاك، وهذه الكتلة السياسية أو تلك، نزلوا هم أيضا إلى الشارع ليشاركوا في تظاهرات يفترض أنها خرجت للتنديد بأحزابهم وكتلهم السياسية التي تهيمن على السلطة والحياة السياسية والاقتصادية في العراق هيمنة تامة، وهي تحديداً المتهمة بالفساد وانعدام الكفاءة. وهكذا ضاعت المعايير في بلد الأعاجيب والنفاق والإشاعات والتسقيط والصلافة. ينددون بالفساد وهم فاسدون، يعارضون الرشوة وهم المرتشون، أي إنهم يتظاهرون ضد أنفسهم وأفعالهم وممارساتهم هم وأسيادهم الحيتان الكبيرة، يطالبون بالإصلاح وهم أشد المعارضين له، ينادون بالحفاظ على كرامة المواطن وهم الذين يهدرونها في كل يوم وفي كل دوائر الدولة.

&الشعب العراقي يبدو يائسا رغم تحركه وتمرده على الأوضاع السائدة لكنه لم ينتفض لكرامته ولو حتى على غرار انتفاضة انتفاض قنبر على سيده. فالجميع يعتقد أن ليس بوسع أحد إنقاذ العراق، لأنه يتجه نحو الانهيار، لا سيما المثقفين الذين يعبرون بشتى الوسائل عن قلقهم على حاضر العراق ومستقبله. ويرون أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية في العراق تتجه نحو الأسوأ، والأخطر من ذلك هو أن الجميع يجدون في رئيس مجلس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي أملهم الوحيد الباقي لوقف هذا الانهيار المتوقع والمنتظر في الوقت الذي يرى كثيرون منهم أن رئيس الحكومة عاجز عن أن يعالج الخلل لأسباب ترتبط بخلفيته الفكرية والعقائدية والتنظيمية والطريقة التي أوصلته لهذا الموقع المهم فهو محكوم بالاتفاقيات والعهود التي قطعها لنظرائه في السلطة ولرؤساء الكتل التي دعمته لكي يطاح بسلفه ويتسلم مقاليد قمة السلطة التنفيذية تحت شروط وضوابط عليه احترامها والتقيد بها، لكي يبقى ضعيفاً، وهو يعترف بذلك ويصرح بأنه يتعرض لضغوط كبيرة بل ولتهديدات مباشرة وغير مباشرة يمكن أن تودي بحياته. الشعب العراقي، وفي كل شرائحه ومكوناته، محبط وخائف، لأن من تقع على عاتقه مهمة إنقاذ العراق يجب أن يمتلك رؤية واضحة وفريق كفوء ومتمكن وسلطة مستقلة وإرادة قوية وقدرة قيادية ترغم الشركاء والأعداء في الداخل والخارج، على الانصياع والخضوع وتقبل قراراته وخططه الإصلاحية الحقيقية والجوهرية لاسيما في بنية وجوهر العملية السياسية وإخراجها من فخ المحاصصة المميت ومحاربة الفساد والمفسدين المعشعشين من حوله، و بل وحتى داخل مكتبه الخاص. إنها فرصة تاريخية ووحيدة لن تتكرر متوفرة الآن أمام السيد العبادي لكي يغدو رمزاً من الرموز الوطنية المؤسسة التي يحفل بها تاريخ البشرية وكل ما عليه هو أن يستأصل مراكز القوى المناوئة المطوقة له ولسلطته والمتمثلة برؤساء الكتل السياسية المشاركة بالعملية السياسية وإصلاح المؤسسة القضائية وتطهيرها من الفاسدين والمضي قدما بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية بعزم وصلابة وجرأة قبل أن ينهار بناء الدولة برمته على الجميع فهو بنيان هش آيل للسقوط في أية لحظة خاصة بوجود عدو شرس يكمن له في الجوار وفي الداخل وهو تنظيم داعش الإرهابي المتوحش والشرس. الشعب بغالبيته الساحقة يؤيد رئيس الوزراء الحالي ويدعمه ولم يرفع ضده شخصيا أية شعارات معادية وأغلبها كان عبارة عن تعبير عن خيبة الأمل من بطء الإصلاحات وتسويفها وتجاهل مطالب الجماهير المتظاهرة، كم إن المجتمع الدولي يتعاطف مع الدكتور العبادي ويسانده، وهناك بعض القوى السياسية الوطنية المخلصة تقف إلى جانبه حتى لو كانت ضعيفة الإمكانيات ولا تمتلك ميليشيات أو مجاميع مسلحة تحميها وتحميه. فلا فائدة من الشكوى والضغوط وعدم تعاون الشركاء والتحديات والمؤامرات التي تحاك في الكواليس والعراقيل الدستورية، وهي الذرائع التقليدية التي يتمترس خلفها كل رؤساء الحكومات التي اعتلت هرم السلطة التنفيذية منذ السقوط وإلى اليوم، وهاهو الدكتور العباذي يواجه نفس التحديات،، وربما يفشل في تحقيق أي تقدم أو تصحيح للمسار السياسي وحل المشاكل الآنية التي يواجهها الشعب كنقص الخدمات وتردي المستوى المعيشي وتدهور القدرة الشرائية وتفشي الفساد وهدر المال العام والإهمال الخ.. جميعنا يعرف أن السيد حيدر العبادي تسلم مهمة شبه مستحيلة فثلث البلاد محتلة من قبل عصابات إرهابية تدميرية وخزينة خاوية وجيش وقوى أمنية مترهلة وفاسدة وعاجزة عن الدفاع حتى عن نفسها وميليشيات منفلتة تفرض قوانينها المافيوية على الشارع العراقي وسلطة ضعيفة لا يحترمها ولا يخاف منها أحد لغياب الردع وسلطة القانون وقضاء فاسد وخدمات متردية أو غائبة وصفقات مشبوهة ووهمية وتدخلات إقليمية ودولية سافرة تتحكم بالقرار الوطني وتنتهك استقلالية البلد وفساد منتشر في كل مفاصل الدولة بتشجيع وتضامن محكم بين الكتل السياسية المستفيدة من رؤساء الكتل إلى أصغر عنصر من الأتباع وشعب مرهق ويائس فقط طعم السعادة والفرح ودبت فيه روح الاستسلام وخسر بوصلة التوجيه نحو المسار الصحيح والنظر إلى مستقبل أفضل ويبدو تائهاً في صحراء بلا حدود وبلا ماء أو غذاء.

[email protected]