تطور مفهوم القوة الناعمة منذ أن قدمه جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد عام 1990 في كتابه "نحو القيادة" ورغم أن القوة الناعمة موجودة منذ آدم، إلا أنها أعطيت هذا المصطلح حديثا، وأصبحت الدول تستخدم القوة الناعمة وحدها أو بمعية القوة "الخشنة" كما تفعل الولايات المتحدة. والقوة الناعمة تشمل كل شيء غير القوة الخشنة أي الإكراه والإجبار رغما عن إرادة الإنسان. فإذا عوقب الإنسان بدنيا أو ماليا فهذا يقع في نطاق القوة الخشنة، أما إذا تم إغراء الإنسان بأي طريقة ماديا أو معنويا، فهذا يقع ضمن نطاق القوة الناعمة، فإذا أشبعت إحدى رغباته، فهذا يعتبر قوة ناعمة.&

وتعتبر الدول الغربية عموما الأكثر قدرة على التأثير في عقول الناس وجذبهم لثقافتها، وذلك لأسباب كثيرة أهمها الإعجاب بالمدى العلمي والصناعي والثقافي الذي حققته تلك الدول، وبعد انتشار العولمة، صار يسيرا عليها عرض إنجازاتها في كثير من وسائل الاتصال الجماهيري، كما أن سهولة التنقل بين الغرب والشرق، منح الفرصة لكثير من الناس للاطلاع عن كثب على تلك الإنجازات. لذا نجد جيلا كاملا متأثرا بتلك الثقافات ويتمنى أن ينتمي إليها، سواء عن طريق العمل فيها أو الهجرة الدائمة إليها.&

على الرغم من مزايا القوة الناعمة التي تعتمد على الإقناع والجذب، إلا أنها لا تتمتع بالمصداقية دائما، فأسلوب القوة الناعمة صادق عندما يتعلق الأمر بالتعليم والتوعية ومد يد العون، ولكن هناك الكثير من القضايا التي تعالج بالقوة الناعمة، كنوع من إضفاء صبغة النوايا السليمة والتوجهات السلمية، لكنها في كنهها فاقدة للمصداقية، فمثلا، تحتاج الدول الكبرى إلى استثمارات في دول أخرى، فتلجأ إلى الترويج لمشاريعها وتسلط الضوء على المزايا الفائقة التي ستجنيها الدول المستقبلة لتلك الاستثمارات، في حين قد تكون مساوئها أكثر من مزاياها ولكنها تحقق هدف الدول المتقدمة.&

وبشكل عام، ربما يكون الانفتاح التجاري والعولمة والرأسمالية والتنافس الحاد هو الذي أدى إلى تطور القوة الناعمة وذلك لأن الشركات المتنافسة بحاجة ماسة إلى كسب ثقة العملاء سواء كانوا أفرادا أو دولا أو شركات، فتلجأ تلك الجهات المتنافسة إلى تطوير نوع من الخطاب الذي يصور الوضع وكأنه سيصبح فردوسا بعد موافقتهم على ذلك الاستثمار. كما صار أصحاب الاستثمارات يوظفون أشخاصا خصيصا للترويج وهم موظفو العلاقات العامة.&

أما على الصعيد السياسي، فهذا ما تختص به السفارات والملحقين الثقافيين ممن توكل إليهم مهمة اختراق المجتمع المضيف وكسب ثقته ووده، وهناك من يقوم بهذه المهمة بحسن نية، وهناك من يقوم بالمهمة بمنتهى السوء. ومن أهم الجهات التي تستخدم القوة الناعمة هي الصحافة، وقد تأثرت الصحافة حول العالم بمنطق القوة الناعمة، ونأت بنفسها عن حدة اللهجة والأسلوب المباشر في المحاججة والدفاع عن قضاياها. ومن أهم مظاهر عدم المباشرة في الصحف ما يلي:&

1. استخدام صيغة المبني للمجهول مثل "قتل عشرون شخصا" وذلك لكي تتجنب الصحيفة ذكر الفاعل وخلق عداوات مع الآخرين واتهامها بالانحياز.&

2. استخدام التأنق اللفظي مثل "إن الدول المخالفة ستتحمل المسؤولية كاملة" وهذا يعني ضمنيا إيقاع العقاب إما باستخدام القوة أو التضييق الاقتصادي.&

3. التلاعب بالمصطلحات عند استهداف دولة معينة مثل "الحرب على الإرهاب، امتلاك اسلحة الدمار الشامل، نشر الحرية والديمقراطية،مساعدة الدول الفقيرة على التنمية وغير ذلك" في حين أن المقصود هو دخول تلك البلاد لدعم فصيل دون آخر أو تنصيب زعيم معين موال لتلك الدولة.&

4. الحوار والتفاوض وذلك لتجنب قول الحقيقة واتخاذ موقف عادل مثل "على الفلسطينيين والإسرائيليين الجلوس على طاولة المفاوضات".&

5. نشر الإسلام السياسي بهدف تقسيم الدول التي يوجد فيها تنوع ديني وطائفي ومذهبي، وذلك من خلال دعم الأحزاب الدينية وتمويلها ومساعدتها على الفوز في الانتخابات لتحقيق الغرض المنشود وهذا بالطبع يجري تحت ستار نشر الديمقراطية وحرية الشعوب في اختيار حكامها.&

وعلى الجانب الاقتصادي، يعتبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أداتي الإمبريالية والعولمة لاختراق الدول والتدخل في شؤونها الاقتصادية والاستفادة من مقدراتها، ورهن مصيرها ومصادرة قرارها السياسي في حال غرقها بالمديونية وإفلاسها. كما أنها تفرض على الدول المقترضة سياسات تقشفية وتجبرها على رفع الدعم عن الحاجات الأساسية لمواطنيها كالتعليم والعلاج وحتى الخبز والوقود، مما يثير حركات تمرد ومظاهرات قد لا تكون سلمية، فتتدخل الدول الكبرى إما لتغيير الزعيم أو دعمه مقابل أن يكون تابعا ومطيعا لها.&

لكن هذا لا ينفي أن القوة الناعمة جرى استخدامها بالفعل لخير الإنسانية، فقد قامت بعض المنظمات غير الحكومية العالمية بحملات تطوعية منها ما هو تنموي وتعليمي وصحي وغير ذلك. فعلى سبيل المثال يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية (2) مليون منظمة غير حكومية، وفي الهند مليون منظمة خيرية، وفى أوروبا الشرقية حوالى 100.000 منظمة تشكلت في الفترة من1988-1995 وتتفاوت شهرة المنظمات المدنية فمنها ما ذاع صيته مثل منظمة أوكسفام ومنظمة صحفيون بلا حدود ومنظمة أطباء بلا حدود وغيرها ولكن هناك الكثير من المنظمات المدنية التي أسهمت في التعليم والرعاية الصحية وتحرير النساء ومحاربة التمييز العنصري وغيرها. وكان لهذه المنظمات إنجازات هائلة وعلى سبيل المثال قامت منظمة SOS النمساوية بتنفيذ ما يزيد على 2300 برنامجا حول العالم وشملت رعايتها ما يزيد على مليون طفل من خلال القرى التابعة لها. وكذلك منظمة HelpAge العالمية لخدمة كبار السن التي انطلقت من بريطانيا وانتشرت في مختلف دول العالم وقدمت خدمات لما يقرب من مليون مسن من خلال برامج الرعاية الصحية لكبار السن. كما تنشط منظمة BRAC العالمية في مجال مكافجة الفقر وتأهيل الشباب فنيا وقدمت لخدمات لما يقرب من مليار شخص في دول مختلفة.

أما الدول العربية، فتكاد تخلو من أية قوة ناعمة، إضافة إلى ضعفها من حيث القوة الخشنة، إذ تعتبر أماكن طاردة بسبب ما فيها من ضعف ثقافي وعلمي وتدني مستوى الإنتاج والتنمية والهوة الواسعة بين المؤسسات التعليمية ومتطلبات السوق بسبب اعتمادها على الجانب النظري وإهمال الجانب التعليمي، هذا بالإضافة إلى الأمراض الاجتماعية كالغيبة والنميمة وخنق الحريات، وانتشار الفساد والمحسوبية، وهي تأتي دائما في نهاية قوائم منظمة الشفافية، وحتى دول الخليج الثرية، فدائما تأتي في نهاية قوائم الامتحانات الدولية للطلاب، ويركز طلاب الدراسات العليا على منهجية استطلاع الآراء دون أي نوع من التجريب أو المنهجية العلمية، ويتخرج طلابها بدرجات علمية متقدمة دون أن يكون لديهم فعلا تمكن من مادتهم العلمية.&

إلا أن هذا الموقف يمكن إصلاحه من خلال تكثيف الجهود في استخدام القوة الناعمة وتطويرها واستخدام العديد من والوسائل والأساليب التي تهدف إلى التنمية وعدم هدر مقدرات الدول وتدمير بناها التحتية والمشاركة الفاعلة في التنمية والإنتاج وذلك لتشجيع الشباب على الانتماء والولاء إلى بلادهم وإزالة أي شعور بالسخط والرغبة في تغيير أنظمة الحكم أو الهجرة إلى الخارج، ومن هذه الأساليب:

1. إنشاء مشاريع إنتاجية في مختلف الدول العربية وتركيز الجهود على رفع مستوى الميزة التنافسية فيها.

2. تخصيص بعثات دراسية من الدول الغنية للدول العربية الفقيرة&

3. إلغاء التأشيرات بين الدول العربية&

4. التركيز على نشر الوعي الثقافي المتنوع من جميع البلاد العربية كالدراما والموسيقى والنشر وغير ذلك.

5. عدم الانصياع للتوجيهات الغربية بتكوين أحزاب أو فئات لتنفيذ أهداف معينة خاصة بها أو لبث الفرقة وخلق النزاع بين فئات الشعب.&

6. التضامن العربي وعدم التفرق والخلافات التي تسهل على الأجنبي النفاذ منها لتدمير الدول العربية.&

7. تشكيل قوة عربية مشتركة تتولى الدفاع عنها دون الحاجة لقوى أجنبية مما يبعث الثقة والاعتزاز بين العرب والفخر بالانتماء للمنطقة العربية وعدم السعي للهجرة إلى الدول المتقدمة، وبهذا المعنى يكون الهدف من القوة العسكرية هو هدف ناعم وهو تعزيز ثقة أبناء العرب ببلدانهم.

8. التركيز على مفهوم حقوق المواطنة بصرف النظر عن الدين أو الطائفة أو العرق وذلك لكسب ولاء الجميع وتحصين الجبهة الداخلية من الاختراق.&

9. تسهيل السياحة البينية للدول العربية سواء الترفيهية أو التعليمية أو العلاجية وغيرها وتشجيع التبادل الثقافي بهدف خلق نموذج عربي يشبه النموذج الأوروبي.&

10. إحياء الروح الثقافية من خلال منح حرية التعبير وخفض عدد السلوكات التي يعتبرها قانون العقوبات جرائم.&

وأخيرا، قد تحقق القوة الناعمة ما لم تستطع القوة الخشنة أن تحققه من أمن وتنمية ورفاه، وعلى الدول العربية أن تقوم بالتخطيط لبرنامج متكامل للقوة الناعمة بهدف تعزيز روح الانتماء والتكامل وتفويت الفرصة على الجهات الطامعة بها.&

&