تتبنّى القيادة التركيّة نموذج القيادة الإيرانية في فرض نفسها داخلياً، وتسويق مشاريعها الإقليمية بالعقيدة والسلاح، وفي دوزنة علاقاتها مع إسرائيل بما يجنّبها المواجهة. التوتّر في العلاقات مع الغرب يبدو قاسماً مشتركاً في الاعتبارات العقائدية والدينية لأنقره وطهران. كذلك العَزم والتخطيط لتصدير العقيدة المبنيّة على الدين الى الجغرافيا العربية بهدف التربّع على عرش قيادة تركيا للسُنَّة وإيران للشيعة – والغايات توسّعيّة قاعدتها جنون العظمة. ضعف القطب العربي في موازين القوى الإقليمية شجّع أنقره على الحلم باستعادة مجد العثمانية وطهران على إقناع نفسها بأن الفُرس أرقى وأقوى من العرب وأن في قدرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الانتصار. واقع الأمر ان القيادة في كل من طهران وتركيا هي صاحبة مشروع فتنة سنّيّة – شيعيّة وان القيادتين تُقدّمان بذلك الى الدولة اليهودية هديّة قيّمة. كلى القيادتين يتظاهر العداء مع الغرب ويعتمده تكتيكيّاً، إنما مع الحرص الدائم على استراتيجية التهادنيّة التاريخيّة بالذات مع الولايات المتحدة الأميركية ومع إسرائيل. وللتأكيد، ان مشروع الفتنة السنّيّة – الشيعيّة ليس تركيّاً أو إيرانيّاً أو عربيّاً حصراً، وإنما هو مشروع أميركي وأوروبي بامتياز منذ زمن بعيد في استراتيجيّة الحروب بالنيابة بالذات في الملاعب العربيّة. اليوم، ومع بدء العد العكسي الى الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد حوالى 115 يوماً، كيف تلعب أنقره وطهران أوراقها "الانتخابية" وأين هم أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) من كل من إيران وتركيا؟ ثم كيف تنعكس العلاقات الغربيّة مع إيران وتركيا على الدول العربية سيّما بعدما تم حذف كل من مصر والعراق من موازين القوى الإقليميّة وتمّ تحييد مصر وسوريا في المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل التي تشكّل اليوم الزاوية الثالثة في مثلّث موازين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط؟ وكيف لعبت روسيا الورقة السنّيّة – الشيعيّة في تموضعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط؟
الأجوبة في سياق هذا المقال لن تكون قائمة على الأبحاث أو أكاديميّة. الفكرة باختصار هي أن لا أحد بريء من ألاعيب الفتنة، وان المفعول به مسؤول بقدر الفاعل. الإدارات الأميركية المتتالية أبدعت في لعبة الفتنة من أفغانستان الى إيران الى العراق وبقيّة الدول العربية، ولذلك من الضروري التنبّه الى هذه الناحية في الانتخابات الرئاسية للتعرّف الى توجّه الدولة العميقة والذي سينعكس على نوعية وتداعيات السياسات الأميركية نحو الدول الخليجيّة العربيّة ودول المشرق والمغرب العربي على ضوء علاقة واشنطن مع كل من إيران وتركيا.
فتركيا تلعب أدوار خطيرة في دول شمال أفريقيا عبر البوّابة الليبية والتونسية – والهدف الأكبر هو مصر – وفي الخليج عبر علاقاتها مع قطر، وفي لبنان من خلال تفعيل بؤر التطرّف التي ترعاها. وإيران تُهيمن على لبنان عبر "حزب الله" بموافقة مسيحية على مستوى رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي "التيار الوطني الحر"، وبشراكة مع رئيس البرلمان نبيه برّي تحت عنوان "الثنائي الشيعي"، وبسيطرة على رئيس الحكومة حسّان دياب المتمترس في السراي الحكومي برعاية "حزب الله" وأدواته. أما في العراق، فإنّ طهران تواجه هناك صعوبات أكثر نظراً لتواجد القوات الأميركية وعزمها على البقاء، ولأن العراق دولة فيما لبنان بدعة. إنما في الوقت ذاته، تفتُك طهران في مستقبل العراق عبر "الحشد الشعبي" وهي مُتَّهمة بالضلوع في قتل شخصيات فكريّة وطنيّة رائدة على نسق اغتيال المحلّل السياسي هاشم الهاشمي وذلك لإيصال الخوف الى قلوب الذين يجرؤون على التفكير خارج الصندوق الإيراني.
في المعلومات، ان القيادات العسكرية الإيرانية الرفيعة اتّخذت قرار الرد على أيّة إجراءات أميركية لاحتجاز ناقلات النفط الإيرانية الى فنزويلا وهي تعتبر ان قرار المحكمة الأميركية الذي يسمح للسلطات الأميركية باحتجاز الناقلات إنّما يشكّل نقلة نوعيّة خطيرة لأنّه مباركة قانونية لإجراءات أيّة إدارة أميركية. ما هي آفاق وحدود الردود الإيرانية؟ هذا هو السؤال الذي لا إجابة واضحة عليه. أحد المصادر يقول ان طهران تعتزم الرد على احتجاز الولايات المتحدة للناقلات الإيرانية عبر احتجازها ناقلات خليجيّة. مصدر آخر يستبعد أن تكتفي طهران بعمليّات محدودة إزاء عمليات الخنق الأميركية لصادرات النفط والغاز الإيرانية الى جانب خسارة طهران ناقلات غالية الثمن ومصادر التمويل الوحيدة لها.
حقيقة الأمر ان أيادي الجمهورية الإسلامية الإيرانية مُقيّدة لأنها قلقة ومتوتّرة وضعيفة بالرغم من قدراتها العسكرية المتطوّرة. قياداتها تتظاهر القوّة لكنّها في الواقع مُطوّقة داخلياً ودولياً نتيجة العقوبات الأميركية القاسية وبسبب افتقادها الثقة الشعبية الداخلية بالنظام. ثمّ هناك اعتبارات الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تُراقبها طهران عن كثب والتي تضعها في مأزق: فإذا التزمت الصمت والهدوء إزاء احتجاز الناقلات، تبدو ضعيفة بكلفة غالية داخلياً. وإذا ردّت عسكرياً، بمستوى الحدث وأغلقت مضيق الهرمز – والأرجح أنها لن تجرؤ – فإن ذلك سيفيد الولايات المتّحدة في موسم انتخابات رئاسية سيّما وأن قرار احتجاز الناقلات الإيرانية يأتي قانونياً بمباركة محكمة أميركية. فماذا ستفعل طهران بـ"خطوطها الحمر" المعنية بناقلاتها الى فنزويلا؟ وهل ستقرّر تجنّب المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة، أو هل ستختلق الذريعة لها؟
أثناء الحلقة المستديرة الافتراضية العاشرة لقمّة بيروت انستيتوت في أبو ظبي هذا الأسبوع، قال المبعوث المخضرم في مسائل الأمن القومي الأميركي وعمل في مراكز رفيعة في إدارات جورج دبليو بوش، وباراك أوباما، ودونالد ترامب، بريت ماكورجك Brett Mcgurk قال: "تجربتي مع الإيرانيين تفيد أنهم يتابعون سياساتنا الداخلية عن كثب وأنهم، في اعتقادي، يحسبون الحسابات حول جدوى وقوع حادثة". وزاد ردّاً على سؤال حول احتمال وقوع مواجهة عسكرية أميركية – إيرانية قبل الانتخابات "لا أضع ذلك الاحتمال خارج الحسابات الإيرانية".
رئيس الاستخبارات البريطانية السابق MI6، السير جون سويرز الذي شارك في الحلقة الافتراضية العاشرة قال ان "احتمالات المواجهة في الشرق الأوسط عالية لكنّي أعتقد أن الإيرانيين لربما سيلتزمون – الهدوء بالصورة نفسها التي التزموا بها الهدوء بعد قتل قاسم سليماني – الأمر الذي أدهشني".
رأي الرجلين هو ان الانتخابات الرئاسية الأميركية ستكون مفصليّة وتاريخية وهما يتّفقان على أن رئاسة الديموقراطي جو بايدن ستكون "مُهدِّئة بقدر أكبر لحلفاء أميركا"، قال سويرز فيما ستكون الولاية الثانية لدونالد ترامب "أصعب وعبارة عن رحلة عسيرة Rocky ride للعالم". أضاف انه لا يشاطر الرأي القائل ان رئاسة جو بايدن ستعيدنا الى زمن رئاسة باراك أوباما.
هناك كلام عن احتمال أن تكون المرشّحة لمنصب نائبة جو بايدن اما سوزان رايس التي شغلت منصب مستشارة الأمن القومي أو فاليري جاريت المعروفة بـ"الرئيس الظل" Shadow President لباراك أوباما. عندئذٍ يعود عهد أوباما في شخص بايدن الى البيت الأبيض وتعود علاقة الغرام مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية مهما توسّعت. يعود الترويج لـ"الاخوان المسلمين" بذريعة إفرازات العملية الانتخابية بتجاهل تام لما قام به "الاخوان المسلمون" عندما استلموا الحكم في مصر (ويقومون به الآن في تونس) من رفضٍ قاطع للفصل بين السلطات، وابتلاع تام للسلطات البرلمانية والرئاسية والقضائية، ومحاولة تغيير الدستور لفرض الدين على الدولة. هذا ما فعلته إدارة أوباما الأولى وما ستفعله إدارة أوباما الثانية إذا عادت الى البيت الأبيض، أي: دعم الحكم الديني في الشرق الأوسط.
برت ماكرجك لا يوافق ويقول ان ما قامت به إدارة أوباما في مصر أتى خلال "لحظة مميزة unique في التاريخ بقدوم الربيع العربي وما أسفر عنه. وفي اعتقادي يجب التأنّي قبل رسم مقاربات مباشرة وسياسات مماثلة" بين عهد أوباما وعهد بايدن، إذا أتى رئيساً. يضيف ان ما تقوم به إدارة ترامب في ليبيا تحت عنوان "الحياد الناشط" Active Neutrality إنما هو "خالٍ تماماً من المعنى وفحواه هو أننا سنقوم بالقليل القليل".
وزيرة التعاون الدولي في مصر رانيا المشّاط التي شاركت أيضاً في الحلقة حرصت على الابتعاد التام عن السياسة والنزاعات والعلاقة الجغرافية – السياسية والانتخابات الأميركية. واكتفت بالقول ان علاقات مصر مع الولايات المتحدة لطالما كانت "استراتيجية جداً منذ زمن بغض النظر عمّن في السلطة وأي حزب يحكم".
السفير الصيني Yue Xiao Yong اعتبر ان الحوار مع أعضاء إدارة ترامب صعب واعتباطي "فهم لا يدعونك تتكلم بل انهم يقصفونك بالاتهامات وكلماتهم متشدّدة جداً Militant ولا يدعونك تفسّر ما لديك".
ماذا في الأفق الأميركي في موسم الانتخابات الرئاسية على وقع الأزمات الداخلية الممتدّة من كوفيد-19 وآثار الوباء الاقتصادية الى الأزمة العرقيّة و"أزمة الحكم" كما يقول برت ماكرجك؟ يجيب ماكرجك: ان هناك إرهاق من الاضطراب Tumult في مزاج الناس وحاجة الى العودة الى نوع من الرتابة Normalcy "وحال الاستواء Normality هو تماماً عنوان حملة جو بايدن للرئاسة"، لدى الناخب الأميركي.
ماذا عن السياسة الخارجية بالذات نحو الشرق الأوسط ومن منظور الغايات التركية والإيرانية؟ ان القيادتين تنسّقان عندما تريدان في سوريا، مثلاً، وتركيا لا تتوارى عن تحدّي الولايات المتحدة في سوريا والعراق معاً بل انها تنسّق مع روسيا ضد المواقع الأميركية في سوريا عند الحاجة.
روسيا تتبنّى العداء القاطع للتطرّف السُنّي الذي تتّهم تركيا بقيادته داخل سوريا – واليوم في ليبيا – لكنّها تغضّ النظر عن التطرّف الشيعي بقيادة "الحرس الثوري" الإيراني والذي هو الحليف الميداني لروسيا في سوريا. وعليه، انها بدورها تولّع النار تحت رماد الفتنة الشيعية – السنيّة وتتحالف مع طرف من الطرفين.
معالم المرحلة المقبلة من وباء الفتنة ستكون أوضح بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وسنرى ان كان عهد أوباما عائد بعاداته القديمة في شخص بايدن برتابة الاستواء أو ان كان عهد ترامب مستمر بإرهاق الاضطراب Monotony of normalcy Exhaustion of tumult.
التعليقات